التقى الشيوعيون الأردنيون أخيراً وأشهروا اتحادهم. اللقاء استدعى تحضيرات طويلة، تضمنت لقاءات واجتماعات وزيارات للمحافظات والمدن الأردنية، ونقاشات طويلة مع أطياف مختلفة من المجموعات والحزبيين السابقين والنشطاء والأصدقاء، الذين باعدت بينهم سنوات طويلة من العمل خارج التنظيم الواحد، وفرقت بينهم حالة الانقسام الانشطارية التي عانى منها الحزب الشيوعي الأردني، الذي ترك وراءه عدداً من الأحزاب الصغيرة ومجموعات من الحزبيين الذين نشطوا بشكل مستقل، أو انصرفوا لحياتهم الخاصة.استقطبت الدعوة، كذلك، النشطاء والمستقلين الذين يعتبرون أنفسهم، بهذا المستوى أو ذاك، شيوعيين. سواء كان ذلك على قاعدة فكرية أيدولوجية أو عن قناعة سياسية فرضتها التجربة الشخصية في مجال العمل العام لمجموعة من الناشطين، الذين وجدوا لأنفسهم مكاناً معقولاً في فكرة تأسيس اتحاد للشيوعيين الأردنيين يجمع تنظيماتهم المختلفة بمستقليهم ونشطائهم.
أثمر اللقاء، الذي حضره مئات، توسيع اللجنة التحضيرية وتكليفها باعداد وثيقة تنظيمية وأخرى سياسية، ومتابعة السير باتجاه الخطوات النهائية للفكرة؛ إذ إن الاتحاد نفسه ليس سوى خطوة أولى لبناء «جبهة وطنية شعبية تضم القوى اليسارية والقومية والديموقراطية في الأردن».
هذه وغيرها من المعطيات الاحتفالية الكثيرة التي أحاطت بالحدث، يمكنها أن تغيب بقوة التلاشي، أو أن تتضاعف بمعناها إذ ما أتيح للمشروع الوليد أن يتبلور فعلاً في شكل تتنظيمي واضح؛ ولا ضمانة لهذا، إلا أن الشيوعيين السابقين أظهروا جنوحاً قوياً خلال الفترة الماضية للانخراط في الحياة السياسية والاندماج بأنشطة الشارع، إضافة إلى أن العديدين من النشطاء في سياق الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد خلال الفترة الماضية يبدون ميلاً للتعريف بأنفسهم كشيوعيين، رغم غياب أي صلة تنظيمية سابقة لهم بالحزب، الذي لم يبقَ منه إلا صفحات في الذاكرة ونشطاء يمثلون دليلاً عيانياً على وجوده السابق.
عامل آخر يحضر في هذا السياق، وهو يتعلق بوطأة العيش في ظل ثنائية «النظام ــ الإخوان»، التي تقود إلى ترجمة كل فعل وقول معارض لـ«الإخوان المسلمين» باعتباره اصطفافاً مع النظام، بينما يتمّ تجيير كل فعل معارض للنظام باعتباره لـ«الإخوان» وصرف كل موقف في هذا السياق في مصرف قوتهم ونفوذهم. وربما يكون هذا الواقع، بالذات، هو ما يدفع بالنشطاء الجدد في المجال العام في الأردن إلى التقاط الهوية «الشيوعية» باعتبار ممكناتها في التمايز الواضح عن «النظام» و«الإخوان» على حد سواء.
وبمعنى واضح، فإن مشروع اتحاد الشيوعيين يجد فرصته في «عراك شوارع» ما بين النظام و«الجماعة»، التي خسرت الثقة الشعبية بدورها كتنظيم معارض، واكتسبت بمجريات ما اسماه الإعلام الغربي «الربيع العربي» سمعة «ماسونية»، كعصبة تربطها علاقات اخطبوطية بتنظيم عالمي منخرط بتحالفات غير مستساغة، إضافة إلى الصدقية التي زعزعتها انعطافات «الإخوان» المفاجئة، التي تتنكر لهتافات «الحراك» ومطالبه بما يعكس سقفاً متفاهماً عليه مع النظام، لا يتجاوزه حتى انحيازاً للشارع.
في الجانب الآخر، هناك فسيفساء أحزاب الوسط واليمين (وهذه مجرد تسميات شكلية)، التي تمثل جزءاً من اكسسوارات النظام «الديموقراطية»، وهي تحتل مساحة أكبر بكثير من حجمها وفاعليتها في الحياة السياسية، بزعم أنها أولاً «أحزاب»، وثانياً بادعاء أنها تمثل القوى العلمانية المدنية؛ هذه المساحة تمثل بحد ذاتها إغراء قائماً أمام أية مجموعة أو تحالف يعبر عن القوى العلمانية والمدنية الحقيقية، التي يمكنها العيش بدون حبل سري يصلها بأجهزة الدولة.
إن أي اطار مقبل يجمع الشيوعيين الأردنيين وحلفاءهم المقبلين من قوميين ويساريين، يمثل في الواقع السياسي في البلاد تبلوراً طبيعياً لتوافق كبير على جملة المواقف الرئيسية مما يجري في الأردن والعالم العربي؛ في حين أن الظرف الراهن يؤكد أن أهم ما يحدث في الأردن اليوم، وما يمكن أن يحدث له، إنما هو مرتبط بالدرجة الأولى بالتطورات الإقليمية وبالأوضاع المحيطة. ومحلياً، يمكن لمثل هذا الإطار أن يسهم في تحرير «الحراك الشعبي»، في حال تجدده وعودة الحياة إليه، من صيغة «عراك شوارع» بين النظام و«الإخوان» وتحويله إلى حراك ذي فاعلية سياسية موضوعية محددة.
تبدو هذه كلها «مهمات» بديهية وعامة، ولكنها في ظروف بلاد تخنقها ثنائية «النظام ــ الإخوان»، التي يتخاصم ويتقاتل طرفاها باستخدام الشارع العام، ويتفقان في الغرف المغلقة واللقاءات السرية، تبدو مهمة عاجلة ولا بد منها لكسر احتكار السياسة ووقف صرف المواقف الشعبية في المصرف الرسمي مقسومة على اثنين، يمارسان سلطة على «شارع» لا يقودانه، ولا هو بوارد الانقياد لهما.
مبادرة الشيوعيين الأردنيين، التي حرص أصحابها على التأكيد أنهم ليسوا «تياراً ثالثاً» و«لا رابعاً» ولكن «تياراً أصيلاً»، من شأنها أن تمد الحياة السياسية بقوة جديدة، ويمكنها كذلك أن تتراجع لتترك في الذاكرة ما لا يزيد على ما تتركه أية فعالية ثقافية عابرة. وهذا بالذات لأنها في هذه المرحلة تقوم، وحسب، على الاتفاق المبدئي على قضايا عامة، لا خلاف «داخلياً» عاماً عليها. اتفاق يتيح لأصحابه، الشيوعيين الأردنيين، أن يتصافحوا مرددين: بلى، ما زلنا رفاقاً!
* كاتب أردني