لا يُفترض أن يختلف اثنان على أنّ النظام الدستوري اللبناني أضحى بنتيجة التعديلات الدستوريّة التي أُدخلت عليه تنفيذاً لوثيقة الوفاق الوطني التي أُقرّت في الطائف، نظام تعطيل؛ حيث أفقدت التعديلات النظام من أي مرجعية داخلية قادرة على ضبط الإيقاع بين المؤسّسات الدستورية وحسم الخلافات التي قد تنشأ بين مواقع القرار، لا بل إنّ هذه التعديلات أقامت تشابكات في الصلاحيّات بين بعض المسؤولين، بحيث لا يمكن ممارستها إلا بالتوافق بينهم.
ولا نغالي إن قلنا إنّ بإمكاننا أن نحصي عشرات حالات التعطيل التي حدثت أو يمكن أن تحدث من جرّاء التزاوج في الاختصاصات التي ولّدها اتفاق الطائف، من غير أن يضع لها المخارج الدستورية اللازمة (لطفاً مراجعة مقالتنا تحت عنوان «الوصاية كحصيلة دستورية» المنشورة في صحيفة «النهار» بتاريخ 3/2/2003).
وفي هذا السياق، وفي زمن الانقسامات السياسية الحادّة التي سبقت وأعقبت إعلان الرئيس نجيب ميقاتي، بتاريخ 22/3/2013، استقالة حكومته، نجد من المشروع التساؤل عمّا إذا كان بإمكان رئيس المجلس النيابي نبيه برّي تأخير أو تعطيل عمليّة تسمية رئيس الحكومة المكلّف إذا ما رأى أنّ رياح التكليف والتأليف تسير بعكس ما تشتهي سفنه وسفن من يمثل؟ من الراهن أنّ الآليّة الخاصّة بتسمية رئيس الحكومة المكلَّف وردت في الفقرة 2 من المادّة 53 من الدستور التي نصّت على ما حرفيّته: «يسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يُطلعه رسمياً على نتائجها».
ويتبدّى بجلاء من نصّ الفقرة المنوّه بها أنّ آلية تسمية رئيس الحكومة المكلَّف تتكوّن من سلسلة حلقات مترابطة ومتلاحقة ومُلزمة، أولها استفتاء رئيس الجمهورية النواب في آرائهم بشأن اختيار رئيس جديد للحكومة، وثانيها قيام الرئيس بإطلاع رئيس البرلمان بصورة رسمية على نتائج استشاراته النيابية، وثالثها حصول تشاور بين رئيسي الجمهورية والبرلمان في شأن آراء النواب واختيار رئيس جديد للحكومة، ورابعها وبالتلازم مع هذا التشاور قيام رئيس الجمهورية بتسمية رئيس الحكومة المكلَّف استناداً إلى الاستشارات النيابية الملزمة (لطفاً مراجعة دراستنا تحت عنوان «من يختار رئيس الحكومة بحسب الدستور اللبناني؟» المنشورة في صحيفة «النهار» بتاريخ 9/10/2000).من هنا، نلاحظ أنّ ثمّة حلقتين من حلقات الآلية المفضية إلى تسمية رئيس الحكومة المكلَّف يشارك فيهما رئيس مجلس النواب وهما الحلقة الثانية حيث يطلعه رئيس الجمهورية رسمياً على نتائج استشاراته النيابية، والحلقة الثالثة حيث يحصل تشاور بين رئيسي البلاد والبرلمان حول نتائج الاستشارات واختيار رئيس الحكومة المكلَّف.
بناءً عليه، يجدر التساؤل، ماذا لو رفض رئيس مجلس النواب أن يشارك في عملية التشاور بينه وبين رئيس الجمهورية أو تأخر في ذلك إلى أجل غير مسمّى بهدف تعطيل عملية تسمية رئيس الحكومة المكلّف أو إرجائها إلى وقت يعتبره ملائماً؟ هل تبقى عمليّة التسمية معلّقة والآلية متوقفة أم يمكن تجاوز امتناعه ومبادرة رئيس الجمهورية إلى تسمية رئيس الحكومة المكلَّف بالاستناد إلى آراء النواب فقط؟
في الواقع تستلزم الإجابة عن المسألة المطروحة تسجيل الثوابت الآتية:
1_ إنّ الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية بشأن تسمية رئيس الحكومة المكلَّف لا تغني عن موجب التشاور بينه وبين رئيس مجلس النواب حيث إنّ المادّة 53/2 ميّزت بين استفتاء الرئيس للنواب وبين تشاوره مع رئيس البرلمان وأوردت الحلقتين كعمليتين مختلفتين، وغنيٌّ عن البيان أنّه لو كان قصد المشترع الدستوري دمج الحلقتين بحلقة واحدة وجعل الاستشارات النيابية تستغرق عملية التشاور مع رئيس مجلس النواب لكان قد اكتفى بالحلقة المتصلة بالاستشارات النيابية، وهي تشمل استماع رئيس الدولة لرأي رئيس البرلمان، ما دام الأخير هو حتماً نائباً، علماً بأنّ قواعد تفسير القوانين توجب إعمال النصّ لا إهماله وهو ما يحتّم إعمال العبارة المتضمّنة «بالتشاور مع رئيس مجلس النواب» وإعطاءها سائر مفاعيلها وليس تجاهلها كأنّها لم تكن.
2_ إنّ موجب التشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان هو موجب إلزامي من حيث حصوله ما دام جميع التدابير والأعمال المنصوص عليها في الدستور هي بطبيعتها إلزامية، لكنّ نتائجه غير مقيّدة للرئيس؛ لأن التشاور بجوهره غير مقيّد ولم يسبغ عليه الدستور هذه الصفة من خارج جوهره.
3_ إنّ عملية التشاور بين رئيسي الجمهورية والبرلمان تختلف من حيث طبيعتها عن عملية الاستشارات النيابية التي يجريها الرئيس؛ إذ إنّ الأخيرة ترتكز على استطلاع الرئيس آراء النواب، أي طلب مشورتهم، من غير أن يقوم بالضرورة بمبادلتهم رأيه والتحاور معهم في الموضوع، في حين أنّ عمليّة التشاور بين رئيس الدولة ورئيس مجلس النواب تقوم على تفاعل بين فريقين يقدّم بموجبه لزاماً كلّ فريق رأيه للآخر ويستمع منه على رأيه. وعند الاقتضاء يعلّق كلّ منهما على ما سمعه، وهي عمليّة تهدف إلى القيام بغربلة مشتركة وتقويم للآراء التي أبداها النواب المستفتون بغرض تلمّس فضاء المجلس النيابي لمعرفة اسم الشخصية الأكثر قدرة على تأليف حكومة تفوز بثقة البرلمان، علماً بأنّ آراء النواب قد تتضمّن تسميات صريحة لشخصيات معيّنة أو تشتمل على ترك أمر الاختيار لرئيس الجمهورية أو ترشيح النائب لأكثر من اسم أو ترشيح برنامج سياسي من دون تحديد الاسم أو تسجل امتناعاً، وهو ما يعطي عملية التشاور وظيفة مبرّرة وجليّة (لطفاً مراجعة مقالتنا المذكورة في جريدة النهار تاريخ 9/10/200).
4_ ليس من مهلة محدّدة صريحة على رئيس مجلس النواب للتجاوب مع دعوة رئيس الجمهورية للتشاور، وليس من مخرج في النصّ الدستوري لحالة عدم تجاوب رئيس البرلمان مع دعوة رئيس الدولة للتشاور حتى ولو أرسلها له بصورة خطية، وإذا افترضنا أنّ رئيس مجلس النواب ملزم بالتجاوب مع دعوة الرئيس للتشاور، فليس من نصّ دستوري يجيز تجاوز هذا التشاور إن أخلّ رئيس مجلس النواب بموجب حصوله.
5_ إنّ إطلاع رئيس الجمهورية رئيس مجلس النواب بواسطة البريد الرسمي بينهما على نتائج استشاراته النيابية في حال رفضِ رئيس البرلمان حضور دعوته للتشاور لا يُغني عن عملية التشاور، ولا يُعفي رئيس البلاد منها بتاتاً ما دامت الفقرة 2 من المادة 53 من الدستور جعلت الاطلاع والتشاور عمليتين مختلفتين.
6_ لا يمكن أن يقوم رئيس الجمهورية بالتشاور مع رئيس المجلس النيابي من خلال إرسال كتاب استيضاح خطي له يطلب منه بموجبه إفادته خطياً عن رأيه؛ لأنّ التشاور يجب أن يحصل بتبادل الرأي والتفاعل ويستلزم أن يوافق رئيس البرلمان على إعطاء رأيه لرئيس الجمهورية وأن يستمع منه على رأيه.
7_ لا يمكن القول إنّه لا يُعقل أن يكون بيد رئيس المجلس النيابي تعطيل عملية دستورية، ذلك أنّ إمكانات التعطيل شائعة في الدستور اللبناني إلى درجة أنّها تشكل القاعدة لا الاستثناء، حيث نلاحظ أنّه ليس من مهلة صريحة على رئيس الجمهورية للدعوة لإجراء الاستشارات النيابية لتسمية رئيس الحكومة المكلّف ولا لدعوته رئيس البرلمان للتشاور ولا لتسمية رئيس الحكومة المكلّف. وليس من مهلة صريحة للأخير لرفع مشروع تشكيلة الحكومة لرئيس الدولة ولا لحصول الاتفاق بينهما على تأليف الحكومة وليس من نصّ لأيّ مخرج في حال عدم توصلهما إلى اتفاق في هذا الخصوص... إلخ.
8_ يمكن القول، إنّ إشراك رئيس مجلس النواب في آليّة تسمية رئيس الحكومة المكلّف هو جزء جوهري وميثاقي من التوازنات التي أرساها اتفاق الطائف، حيث نقل السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً من جهة، وجعل ممارسة رئيس الجمهورية ما بقي من اختصاصاته مرهوناً بمشاركة مرجعيّة دستورية «محمدية» إما بصفة شاهد على توقيعه وإما بصفة شريكة له في قراره، وإما بصفة محاور له قبل اتّخاذ قراره.
وبالفعل، نلاحظ في هذا السياق أنّ المادّة 54 من الدستور نصّت صراحةً على أنّ «مقرّرات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصّون ما خلا مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة. أما مرسوم إصدار القوانين فيشترك معه في التوقيع عليه رئيس الحكومة». كذلك أولت المادّة 52 «رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة»، وقضت المادّة 53/4 بأن يصدر رئيس البلاد «بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم»، وخوّلت المادّة 53/12 الرئيس أن «يدعو مجلس الوزراء استثنائياً كلما رأى ذلك ضروريّاً بالاتفاق مع رئيس الحكومة»، وأعطت المادّة 33 «لرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة أن يدعو مجلس النواب إلى عقود استثنائية بمرسوم يُحدّد افتتاحها واختتامها وبرنامجها».
من هنا، يتبدّى بجلاء أنّ القاعدة التي اتبعها المشترع الدستوري تقوم على إعطاء دور ما يختلف بين حالة وأخرى لمرجعيّة دستورية «محمدية» في تكوين أو بلورة أو تظهير مقرّرات رئيس الجمهورية (المسيحي – الماروني)، وحيث إنّه يستحيل عليه منح هذا الدور لرئيس الحكومة (المحمدي – السني) في عمليّة اختيار رئيس الحكومة المكلّف؛ لأنّ رئيس الحكومة القائم يكون بحالة استقالة، وهو غير معنيّ دستورياً بآلية التكليف كما قد يكون أحد المرشحين للتسمية، فأناط هذا الدور برئيس مجلس النواب (المحمدي – الشيعي) وجعل من التشاور بين الأخير ورئيس الجمهورية حلقة أساسية ومتلازمة مع عملية تسمية رئيس الحكومة المكلّف التزاماً من المشترع بالقاعدة إيّاها.
أما ترك رئيس الجمهورية يصدر مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة منفرداً فهو أمر بديهي، لأن رئيس الحكومة يكون في حالة استقالة، علماً بأنّ صدور هذا المرسوم مقيَّد بالحالات التي حدّدها الدستور. وفي ضوء ما تقدّم، بات ثابتاً أنّ التشاور بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب في اختيار رئيس الحكومة المكلّف وآراء النواب في هذا الخصوص ملزم من حيث حصوله، وإن كان غير ملزم من حيث نتيجته وأنّ إحجام رئيس البرلمان عن المشاركة في عملية التشاور من شأنه أن يجعل إحدى حلقات الآلية المفضية إلى تسمية رئيس جديد للوزراء معلّقة وأن يعطّل بالتالي عملية التسمية. أجل، إنّه اتفاق الطائف يا سادة.
وفي الختام، بات من الضروري إدخال تعديلات دستورية تحرّر رئيس الجمهورية من التشابك بينه وبين مرجعيات دستورية أخرى في ممارسته صلاحياته تمهيداً للخروج من نظام التعطيل إلى نظام العمل.
* محام وكاتب سياسي