في كتاب (El Silencio ــ الصمت ــ من بول السادس إلى برغوليو ــ العلاقات السرية للكنيسة مع الايسما ESMA)، الكثير من ماضي أسقف بيونس أيرس جورج ماريو برغوغليو Jorge Mario Bergoglio، أو فرانسيس الأول كما سمى نفسه، بعد تنصيبه على رأس الكنيسة الكاثوليكية قادماً من أميركا اللاتينية، التي تضم وحدها أكثر من أربعين بالمئة من كاثوليك العالم.
الكتاب الصادر بالاسبانية في بيونس أيرس عام 2005، للصحافي الأرجنتيني هوراسيو فيربيتسكي Horacio Verbitsky، رئيس مركز الدراسات القانونية والاجتماعية (CELS والمنظمة الأرجنتينية لحقوق الانسان، وصاحب الكتب الأكثر شهرة وتأثيراً في كشف فساد إدارة كارلوس منعم، الرئيس الارجنتيني الأسبق والمساهم الأكبر في تسريع سقوط صاحب الفضائح المدوية، إلى جانب توثيقه العام 1996 لاعترافات الضابط في القوات البحرية المسلحة أدولفو سكيلينغو Adolfo Scilingo، المسجون لـ640 عاماً بتهمة الابادة الجماعية في «المرحلة القذرة» من تاريخ الارجنتين (1976 – 1983)، فيه الكثير من الوثائق حول البابا الأرجنتيني، ودور الكنيسة الارجنتينية في دعم جنرالات الحكم العسكري خلال تلك الحقبة الدموية.
بداية الخبر في العام 2003 مسرباً من أروقة الكنيسة الأرجنتينية ليجد طريقه إلى بعض الكرادلة والمطارنة والصالونات السياسية الخاصة في بيونس أيرس، ثم ليصدر كتاب في العام 2005 بعنوان (Silence ــ الصمت)، متضمناً الكثير من الوثائق التي تتهم البابا الجديد بدوره في خطف كاهنين وتسليمهما للسلطة العسكرية التي ألقت بهما بعد 5 أشهر مخدّرين ونصف عاريين على قارعة الطريق، إلى الدور الخفي للكنيسة في عدم إشاعة أمر اختفاء الكاهنين، ورفض طلبات «المؤمنين» لأي محاولة للحديث بشأنهما مع السلطات وقتها. البابا الجديد نفى بالطبع أي دور له في ما حصل من عمليات اختطاف وتعذيب، في كتاب عنوانه «اليسوعي... حوارات مع الكاردينال جورج برغوليو»، أصدره سيرجيو روبين وفرانشيسكا أمبروغيتي قبل عامين وبطلب منه حسبما تم تداوله في الأوساط المعنية، في محاولة للرد بطريقة غير مباشرة على كتاب «الصمت» الذي أحدث زلزالاً في أروقة الكنيسة الأرجنتينية.
صحيح أنّ «المؤمنين» والكثير من «مناضلي» حقوق الانسان وأهالي المفقودين خلال «المرحلة القذرة» من حكم جنرالات الجيش الأرجنتيني تحدثوا عن «دور» للكنيسة إلى جانب أدوات القمع العسكري، وهو ما واظب رجال «لاهوت التحرير» على اتهام «الأسقف» برغوليو بتسليمه المعلومات الكاملة عن حركة رجال الكنيسة و«مؤمنيها» المعارضين للحكم العسكري، إلا أنّها وللمرة الأولى تخرج من أروقة أسقفية بيونس أيرس التي ترأسها عام 1998.
ولعل أهم ما في الكتاب، ومن الناحية «القانونية»، هو شهادة الكاهنين اليسوعيين المختطفين أورلاندو يوريو وفرانسيسكو خاليكو باتهامهما المباشر لزميلهما جورج برغوغليو بدوره في تسليمهما إلى قيادة البحرية التابعة للجيش الأرجنتيني بعد «اتهامهما» بإجراء اتصالات مباشرة مع بعض التنظيمات الماركسية خلال قيامهما بمساعدة فقراء ضواحي بيونس آيريس الجنوبية، وبعد فشل الكنيسة بمنعهما عن دعم سكان الأحياء الفقيرة.
الاتهام عينه يرِد، أيضاً، في كتاب آخر هو «الكنيسة والديكتاتورية: دور الكنيسة وعلاقاتها مع النظام العسكري»، الذي نشر في عام 1986 لمؤلفه اميليو فرمين ميغنوني Emilio Fermin Mignone مؤسس مركز بيونس أيرس للدراسات القانونية والاجتماعية ونائب رئيس الجمعية الدائمة لحقوق الإنسان. وهو رائد حركة حقوق الإنسان الأرجنتينية ضد الديكتاتورية العسكرية قبل وفاته عام 1998، الذي فقد ابنته الطبيبة النفسية والأخصائية الاجتماعية عام 1976 من بين آلاف المفقودين حتى اليوم. وتضمن الكتاب وثائق أخرى ومعلومات عن «شبهة الخطف» ودور الكنيسة في «تسهيل» اعتقال الكاهنين و«مؤمنين» آخرين.
يسلّط الكتاب، أيضاً، الضوء على دور العديد من رجالات الكنيسة بتوفير «الدعم اللوجستي» لأجهزة القمع في الأرجنتين ودورهم في «التمويه» على تجاوزات أجهزة الأمن الأرجنتينية ومحاولات «تضليل» مفتشي جمعيات حقوق الانسان، ويصف الكنيسة بـ«الذراع الروحية» للحكومة العسكرية للجنرالات الذين حكموا الأرجنتين بالحديد والدم للتدليل على مدى عمق ارتباط الكنيسة الأرجنتينية بالحكومة العسكرية، كما يشير إلى أن الكنيسة باعت للحكومة العسكرية جزيرة تبعد 40 كيلومتراً عن بيونس آيريس «ليستخدمها القادة كمعسكر اعتقال بعدما ضاقت السجون بنزلائها المعارضين».
ويستند محامي حقوق الانسان مارسيلو باريللي إلى معلومات اميليو ميغنوني، ليتقدم بشكوى ضد الكاردينال برغوليو بتهمة المساعدة في خطف زميليه الكاهنين اليسوعيين، لكن الحاكم الفعلي المطلق للأرجنتين زمن الحكم العسكري جورج رافائيل فيديلا، القابع اليوم خلف القضبان مع كبار مساعديه، يعترف بأن القمع والخطف والتعذيب كانت تحصل «بشكل منهجي» مفضلاً تحمّل كامل المسؤولية ومحاولاً تجنيب «أصدقائه الحميمين» في الكنيسة تحمل مسوؤليات ما حصل، «لأنهم والكنيسة كانوا بخندق واحد ضد عدو مشترك، وهي التنظيمات الشيوعية الناشطة لتغيير النظام إلى ثوري إلحادي مرفوض طبعا من الكنيسة»، يختم مؤلف كتاب «الصمت».
وفي العام الماضي فقط، اعتذر أساقفة الأرجنتين في بيان إلى الشعب عن عدم قيام الكنيسة بحماية الناس بشكل صحيح خلال فترة الديكتاتورية. في محاولة لامتصاص النقمة المتصاعدة تجاه الكنيسة ودورها المخزي إبان «الفترة الدموية». غير أنها لا تزال ترفض بالطبع تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية على دورها المباشر إلى جانب جنرالات الدم، حيث لم يمثل رئيس أساقفة الأرجنتين، أي البابا الحالي، أمام القضاء الفرنسي عام 2011 على خلفية الدعوى المقامة حول اغتيال الأسقف «انريك انجيليلي Enrique Angelelli» والكاهن «غابرييل لونغوفيلا Gabriel Longueville»، اللذين اختطفا وعذبا وقتلا في 18 تموز 1976 بمعرفة مباشرة من أعلى سلطة في الارجنتين.
في اول خطاب علني له بعد تنصيبه، طلب فرانسيس الأول من حشود المؤمنين خدمة فقال: «قبل أن يمنح الأسقف البركة، أسألكم أن تسألوا الرب أن يباركني، فليصلّ الشعب ويسأل البركة لأسقفه. فلنصلّ بصمت من أجلي ومن أجلكم».
صلّت الحشود في روما على نية مباركة البابا، فيما رددت جدران زنازين المراكز الخمسمائة، التي افتتحتها الكلية العسكرية البحرية، في «المرحلة القذرة» من تاريخ الأرجنتين، والتي اختفى في أقبيتها ما يزيد على ثلاثين ألفاً من «المؤمنين» صدى كلمات فرانسيس الأول.
* ناشط لبناني