لا يحتاج اثنان إلى التنبّه أو اليقين بأن ثمة ما تغيّر، بمنحى جذري أحياناً، في صورة المقاومة في لبنان منذ عام ٢٠٠٥ وحتى يومنا هذا. فمنذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري، كان واضحاً بأن منحى الأمور يتجه نحو بدء أو فرض ثقافة سياسية جديدة في لبنان، ولم يكن التهجم على المقاومة منذ لحظة الاغتيال وتحميلها مسؤوليته إلا النواة الأولى لهذه المرحلة الجديدة، وما لبثت أن بدأت معالمها وخفاياها تتضح أكثر في السنوات التي تلت.
منذ التسعينيات وصولاً إلى التحرير وما بعده بسنوات عدة، ساد في قسم كبير من المجتمع اللبناني تربية تكاد تكون موحدة وجماعية حول فصل المقاومة عن السياسة وبالتالي الاجماع حتى القدسية عليها. فاللبنانيون، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والمذهبية، كانوا يرون في «الجناح العسكري» لحزب الله مقاومة وطنية تحارب العدوّ وصولاً إلى تحرير الأرض، وقد تجلّت هذه الثقافة الجماعية من خلال مظاهر الاحتفالات والأناشيد الوطنية ورفع الشعارات والحركات التضامنية من قبل شريحة كبيرة مختلفة من اللبنانيين عند كل انتصار أو حرب تخوضها المقاومة، وصولاً إلى كتابة اسمها على العلم اللبنانيّ للتدليل على بعدها الوطنيّ.
بعد عام ٢٠٠٥، تبدّل المشهد، وباتت المقاومة عند شريحة من اللبنانيين موضع اتهام ومساءلة، حتى تكاد تصبح اليوم ملصقة بانتماء طائفيّ سياسيّ محدد، ما يفتح النقاش حول العوامل التي أدت إلى التغير الجذري في المجتمع اللبناني حول صورة المقاومة ومسؤولية الأخيرة في هذا التبدّل.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأ مسلسل الاغتيالات والانفجارات يطغى على الساحة اللبنانية، وقد صودف، عن عمد طبعاً، أن كان المستهدفون ينتمون إلى الفريق السياسي الخصم للمقاومة. وترافقت هذه العمليات مع انقسام المجتمع اللبناني بشكل حاد إلى ما يعرف بـ١٤ آذار، المناوئ لحزب الله، وإلى ٨ آذار الذي ضمّ حزب الله والأحزاب السياسية الأخرى الحليفة له. وترافقت عمليات الاغتيال هذه والاستهدافات مع حملة إعلامية ضخمة (ما تزال قائمة حتى اليوم) بدأت بطرح مفاهيم ومصطلاحات بطريقة حرفية تخاطب وتدغدغ العقل اللبناني الخائف والمربك، للتصويب على المقاومة تحديداً بطريقة لم يعهدها المجتمع من قبل، مستفيدين من أخطاء الحزب في السياسة. على سبيل المثال لا الحصر، رفعت قوى ١٤ آذار شعار «نحن نحب الحياة» حيث تم تسويقه بطريقة صوّرت فيها المقاومة على أنها مرتبطة بالموت والدمار بعدما كانت في الوجدان اللبناني طالبة للحرية، لأجل الحياة. آنذاك، تلقفّ قسم كبير من اللبنانيين هذه الشعارات، في وقت بدأوا يفتقدون فيه للأمن وفي وقت يسقط فيه رموزهم الواحد تلو الآخر، غافلين عن الاستهدافات التي طاولت رموزاً للمقاومة أيضاً. من هنا، بعد تركّز تلك الحملات على عامل يمسّ حياة المواطنين، ثمّة صورة جديدة أو مفهوم جديد نشأ في الثقافة السياسية في لبنان يستهدف المقاومة، وما لبث أن ترسّخ أكثر خصوصاً مع انخراط الحزب في الحرب على سوريا، وما رافق من اعتراضات على هذا التدخل. أحد أوجه هذه الثقافة الجديدة هو انتقاد عمليّات المقاومة بدلاً من التركيز على ضرورة محاربة الإرهابيين، والتبرير أحياناً، لوجودهم بسبب ما يعتبر استبداد الأنظمة. من هنا، عند ربط مسار الأحداث بدءاً من عام ٢٠٠٥ في لبنان، ينتفي أسباب الاستغراب من هذا التحوّل الذي بدأ بالتجذر في المجتمع اللبناني.
في هذا الإطار، لا شك بأن كان على المقاومة ولا تزال مسؤولية كبيرة لجهة مجابهة هذه الحرب الثقافية الاعلامية عليها، وهي حتى الآن أخفقت إلى حدّ ما في خلق جبهة إعلامية ذكية، تخاطب العقل اللبناني بلغته، وليس باللغة الخطابية النمطية التي اعتدناها، بما يعاني ويحتاج بالطريقة الذكية نفسها وإن اختلفت القدرات المادية واللوجستية. فلا يجادلنّ أحد على أن فريق ١٤ آذار مرتبط بحلف كونيّ تقوده كبريات الدول الأجنبية بما تملكه من إمكانيات بشرية ومادية. إلا أن ذلك لا يسقط المهمة الملقاة على عاتق المقاومة والفريق الذي يؤيدها، وذلك يحتاج كما تمت الإشارة سابقاً إلى سياسة إعلامية تخلع العباءة التقليدية وتواكب متطلبات المعركة الثقافية الجديدة التي تمّ فرضها على المجتمعات العربية ومنها لبنان عبر برامج التلفزة والحملات الإعلامية والإعلانية الضخمة. فهذه الحملات على المقاومة، ترافقت مع سياسة إعلامية جديدة بدأت بالتسلل إلى المجتمع اللبناني منذ تسعينيات القرن الماضي لتصبح هي القاعدة اليوم، وهي قائمة على اجتياح البرامج الترفيهية لشاشات التلفزة التي غالباً ما تكون خالية من أي عوامل توجيهية. ولعلّ خطورة هذه البرامج على المدى الطويل تكمن في تسخيف العقل الإنساني وإفراغه من أي مضمون ثقافيّ، وصولاً إلى تدريبه على رفض كل ما يهدّد هذه المنظومة الثقافية السطحية الآخذة في ضرب عوامل أخرى تبدأ من الثقافة وصولاً إلى اللغة فالانتماء.
ليس المطلوب تأييد حزب الله في سياساته الداخلية وعقيدته، إلا أن الخلط بين السياسة والمقاومة، وصولاً إلى ضرب المفاهيم والذاكرة الوطنية تحت شعارات إنسانية مغرية يضفي على «نظرية المؤامرة» في محطات مشروعية عدة تتحمل القوى القيّمة والحليفة للمقاومة جزءاً من مسؤوليتها؛ بين ٢٠٠٥ و٢٠١٦، مشروع خطير لضرب صورة المقاومة نجح بشكل كبير وصولاً إلى تسطيح المجتمع اللبناني، ولعلّ تحديد المسؤوليات والاعتراف بها وتطوير سياسات إعلامية تتناسب مع متطلبات المعركة الثقافية المتجددة تشكل خطوة جدية في الحفاظ على ما تبقى من ذاكرة وطنية!
* أستاذة جامعية