«داعش» ليس مجرد اختصار لاسم «دولة الإسلام في العراق والشام»، ولا هو النسخة المحدثة لتنظيم «القاعدة»، بل هو الصيغة الجديدة التي يجب أن يراها العالم عن الإسلام. وهو يتوافق مع الصورة النمطية التي روّج لها الغرب، منذ الحملات الصليبية وما قبلها. وليس هذا وحسب، بل هو البديل عن محاولات الإفلات من السيطرة الأميركية على هذه المنطقة من العالم أيضاً، وإن كانت هذه المحاولات على قاعدة حفظ التقسيم الاستعماري للمنطقة، ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما عرف بـ«اتفاقية سايكس – بيكو». وحده الغرب بزعامة الولايات المتحدة يملك الحق في تغيير الخريطة الجيوسياسية والديموغرافية، تبعاً لما تقتضيه مصالحه وهيمنته.
فجأة يخرج أبو بكر البغدادي، كأنه هبط من السماء، أو خرج من الجحيم، وأصبح منذ إعلان «دولة الإسلام في العراق والشام»، هو، وما يمثل، الحدث العالمي التاريخي الذي يستأثر بدائرة الضوء.
وفجأة أيضاً تختلط الأوراق، ويبدو قطبا المعادلة، في الصراع الدائر في المنطقة، كأنهما توحدا في مواجهة «داعش»، رغم احتفاظ كل من القطبين، وامتداداتهما، بالرؤى والمواقف نفسها تجاه بعضهما البعض.
إنّ جعل ظاهرة «داعش» تأخذ منحى أسطورياً من خلال سلوكها الهمجي والإجرامي، الذي يحظى برعاية وتغطية إعلامية قل نظيرها، هو بالضبط ما تريد الولايات المتحدة الأميركية أن يسود في عقول الناس، ويحرفهم عن همومهم الحقيقية، لجعلهم أسرى هاجس الخوف على حضارتهم ومدنيتهم وأنماط عيشهم. لتكون هي «المخلّص» والمنقذ للأقليات الدينية والعرقية والمدنية، وتنسي الناس تطلعاتها إلى الارتقاء والتحرر من عبودية الاستعمار، في ظلّ غياب قوى التحرّر (الوطني والقومي) المعبّرة عن آمالها وتطلعاتها. كما أنّ «داعش» تحوّل إلى أحجية في وجه «العقل اليومي»، الذي يشكل وعي الغالبية العظمى من النخب العربية، بما فيها من هم من جذور إسلامية، بسبب ما تتماهى فيه مع جملة من الأحداث والأفعال التاريخية اللصيقة بالإسلام، ليقف، هذا العقل، أمامها عاجزاً ومستسلماً لما تمليه عليه وسائل الضخّ الإعلامي، والخاضع بكليته لمشيئة أميركا وحلفائها وأدواتها. إنّ أيّ متابع للأحداث في المنطقة يدرك، بنصف عين، أن «داعش» مولود طبيعي، جرى تلقيح نواته وإعداده وتنميته في سياق الأحداث نفسها التي رسمت مسار المنطقة بما عرف بـ«الربيع العربي» بإشراف الولايات المتحدة ورعايتها، وتقاسم تنميتها وتأهيلها وتمويلها كلّ من: المملكة المتحدة والكيان الصهيوني والسعودية وعلى أرض الأردن، فدربت عناصرها وكوادرها «بلاك ووتر». ولا نحتاج إلى دليل على ذلك، لقد حفلت الصحف الغربية بالتقارير التي سلطت الضوء على هذه الظاهرة والدول التي شاركت في تنشئتها. وإن كانت،
إنّ جعل ظاهرة «داعش»
تأخذ منحى أسطورياً هو بالضبط ما تريده الولايات المتحدة

من حيث الدور الوظيفي، لها أن تكون القوة السنية في الصراع المخطط لأن يكون «سنياً – شيعياً» والذي مهد له قبل أكثر من عشر سنوات، بدءاً من إعلان ملك الأردن «خطر الهلال الشيعي» الذي تقوده إيران، مروراً بكل التعبئة التي وظفت لها منابر الغالبية العظمى من البلدان الإسلامية، وخاصة في الخليخ، مروراً بحملات الدعاية التي انخرطت فيها قوى عديدة لم تنجح في جرّ الشيعة إلى الاستجابة لهذا المخطط. ولنا في دور «حزب الله» في لبنان خير مثال، كما في ثورة البحرين، وحتى في اليمن، رغم كل النفاق والفجور من أدوات الوهابية التي توحي بغير ذلك.
لقد كان صمود سوريا الدولة السبب الرئيس في تحويل المهمّة التي أنشئت لأجلها «داعش». وانتقال الجيش العربي السوري من حالة الدفاع والتصدي للعصابات المسلحة، إلى حالة الهجوم والتطهير، كان العامل الأساس الذي جعل الولايات المتحدة تبادر في دفع «داعش» إلى المبادرة عبر نقطة ضعف، فكانت العراق للحدّ من حالة الانهيار الذي أصاب العصابات المسلحة على الأرض السورية. وكان لا بد من تظهير داعش على الصورة التي ظهر بها في العراق أولاً، لامتصاص الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري، ومنع الارتدادات على النظم الداعمة للعصابات المسلحة، ومن ثمّ العودة إلى المشروع الأساس الهادف إلى تفتيت المنطقة وشرذمتها. وبعث رسالة الى كل من روسيا والصين، وحتى إيران، إمّا أن تكون هذه المنطقة من العالم لنا؛ وإمّا أنكم ستتعاملون مع نموذج «داعش». فجاء الرد سريعاً في اليمن، وها هي «عين العرب» (كوباني) تتصدى لـ«داعش» وتكشف أن مسلحي «داعش» بإجرامهم وهمجيتهم وفاشيتهم بحق المدنيين العزل، هم أعجز من أن يواجهوا مقاتلين حقيقيين يدافعون عن مدنهم وقراهم. إذا كان «داعش» يجسّد نموذجاً من التاريخ الإسلامي في سياق ظروف وأحداث معينة، وهي مثبتة في القرآن والسنة، فإن من العسف اعتباره المعبّر عن الإسلام بكليته. فحزب الله، على سبيل المثال، نموذج آخر يجسّد الإسلام غير التكفيري وغير الإلغائي للمختلفين ديناً وعقيدة، وهو في أوج قوته، فضلاً عن كونه لم يقتل أسيراً، ولم يستهن بكرامة الإنسان، جريحاً كان أو قتيلاً. لست هنا في معرض الدفاع عن «حزب الله»، بل أستحضره كنموذج نقيض للقول إنّ محاولة تظهير الإسلام من خلال نموذج «داعش» فيها الكثير من البعد عن الحقائق العلمية والتاريخية، وإن المقارنة الموضوعية تشترط التزامن التاريخي بين نموذجين مختلفين، ومن هنا نسأل: ما هي سلوكيات وأحكام الديانات والعقائد الأخرى، قبل ألف وأربعمئة عام، بحق الإنسان؟ هل كان غاليليه مسلماً واتهم بالهرطقة؟ أين كانت محاكم التفتيش من الضمير؟ والحضارة الغربية والأميركية، على وجه الخصوص، من يوازيها في جرائم الحرب والإبادة الجماعية والاستعمار والنهب المدمّر لخيرات الشعوب؟ أم أن القتل بالفوسفور الأبيض والنابالم واليورانيوم المنضب هو قتل رحيم يحفظ الحقوق والكرامة الانسانية؟!
«داعش» ليس أسطورة ولا هو أحجية. هو مجرد ظاهرة لن تبقى طويلاً، ولسوف يضمحل في مجرى الصراع الحقيقي، الوطني التحرري. وما محاولات المستعمرين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، في تشكيل قوى جديدة من نسيجنا الاجتماعي تسميها «قوى معتدلة» إلا للقول إنها تمسك بكل الأوراق. نعم لا تزال الولايات المتحدة تملك الكثير من الأوراق، لكنها أيضاً فقدت الكثير الكثير من أوراق قوتها. ها هو الكيان الصهيوني أمسى قوة معطلة وعاجزة، ويقتصر دوره على تقديم بعض الخدمات اللوجستية. كما أنّ حلفاء الولايات المتحدة لا يملكون القدرة على الدخول الحي بالصراع، والعودة إلى زمن الاستعمار المباشر، وحتى الولايات المتحدة نفسها أصبحت لا تستطيع أن تسيطر بجنودها على أي منطقة من العالم، بما فيها منطقتنا. نعلم أنه لا يمكن تجاوز أثر الهيمنة والسيطرة، لقرون عدة، على منطقتنا، والعبث بنسيجنا الاجتماعي المكون من عصبيات مختلفة، ما يسهل التلاعب فيه. لكن أيضاً ندرك أن أي شريحة اجتماعية في عالمنا، العربي – الإسلامي ومنطقتنا، لا تثق بالولايات المتحدة ولا بالغرب لتعتمد عليه في حمايتها، وهي تميل بغالبيتها العظمي إلى التفاعل الإيجابي مع أبناء جلدتها. وهذا يفترض وجود قوة سياسية اجتماعية فوق الانقسامات الطائفية والإثنية، لتختصر المعاناة والثمن الذي ندفعه من بنياننا الحضاري والتاريخي، والزمن الذي يضعنا في مصاف الأمم الحرّة السيدة المستقلة. وذلك لا سبيل إليه إلا بالوحدة، والاعتماد على قوانا ومواردنا الخاصة بنا.
* كاتب لبناني