«يتميز» الناصريون عن سواهم من قوى اليسار المصري بتقديسهم لفكرة الدولة، فهم لا يعادونها مهما فعلت، ويخضعون انتقادها لمعايير صارمة تميّز بينها وبين السلطة، ولا تخلط بين الأمرين كما يفعل البعض. الدولة بالنسبة إليهم هي حصيلة تراكم تاريخي تعاقبت على انجازه حضارت عدّة، وليست مجرّد جهاز للقمع تمكن معاداته في أيّ وقت وتحت أيّ شعار. وبناء على ذلك يصبح الوقوف بجانبها ممكناً أثناء فترات الصراع التي تهدّد وجودها.
وهم بذلك يختلفون عن رفاقهم - في اليسار الراديكالي تحديداً - الذين يتفادون الاصطفاف مع الدولة حين تصبح طرفاً في صراع اجتماعي عنيف ومكلف، ويفضّلون بدلاً من ذلك مساواتها بالإخوان من حيث المسؤولية عن الدماء التي تراق حالياً. بالطبع لا يساعد هذا الأمر كثيراً في توحيد قوى اليسار، لا بل يزيد من تشتيتها، ويضعها في موقف ضعيف تجاه القوى التي تعرف كيف تدير المشهد الحالي. لا أعرف أصلاً إذا كان الاستقطاب الحاصل حالياً يسمح بوجود من أيّ نوع لليسار في المشهد. فالمطروح اليوم أحد أمرين: إمّا أن تكون مع الدولة في صراعها ضدّ الإسلاميين أو أن تكون ضدّها. وإذا حاولت الوقوف ضدّ الطرفين فستتهمّش تلقائياً لأنّ الدينامية القائمة لا تسمح بخيارات كهذه، وتعتبرها خارج نطاق التأثير في الواقع. لنقل إنّ بقاء الدولة من عدمه هو الواقع الوحيد الذي تتحدّد في ضوئه خيارات القوى السياسية حالياً، وهو ما يعيدنا إلى «المفهوم الناصري للسياسة»، إذ يمكن للأحزاب أن تتنافس وتطرح برامجها «المختلفة» ولكن في إطار ما تراه الدولة مناسباً للمرحلة.
في أيّام عبد الناصر كان المشروع المطروح كبيراً، وكانت الأحزاب الموجودة على الساحة عاجزة عن منافسته. في الحقيقة تحوّلت هذه الأحزاب إلى عبء على المجتمع بعدما ارتبط اسمها طويلاً بالمَلَكية وبطبقة الأعيان التي سيطرت على الدولة واستخدمتها كأداة لمنع توزيع الثروة كما يجب. ولهذا السبب لم يُحدِث حلّها فرقاً في حياة الناس الذين وعدتهم الثورة بالكثير اقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي بقي الأمر في إطار المقبول سياسياً بالنسبة إلى القطاعات الأوسع من الشعب. المشروع الناصري نفسه لم يتقوّض بهذه الخطوة وبقي محافظاً على شرعيّته رغم أنّ حلّ الأحزاب في أيّ نظام سياسي يعني بالضرورة أنّ السلطة القائمة قد فقدت شرعيّتها.
أفضل انجازات عبد
الناصر هو حرمان «الإخوان»
من التحوّل إلى ثوّار


والحال أن ّما حصل حينها هو العكس بالضبط، فقد تزايدت شعبية عبد الناصر أكثر من السابق، وتوسّعت القاعدة الاجتماعية لحكمه على نحو كبير، فلم تعد مقتصرة مثلاً على الطبقة الوسطى في المدن والأرياف، وأصبحت تعبّر بالإضافة إليها عن الفقراء والمهمّشين الذين اضطهدتهم وأفقرتهم كلّ العهود السابقة. حصل ذلك بمعية تطوّرات كثيرة أهمّها تمكّن الرجل من الحكم بعد إزاحة الإسلاميين نهائياً وطرحه مشاريع التأميم والإصلاح الزراعي ومصادرة الملكيات الكبيرة لمصلحة الفقراء و... الخ. بعد هذه الطفرة التي أحدثها المشروع الناصري أصبح وجود الأحزاب وانعدامها سواء، فالدولة بما قدّمته من طروحات وبرامج عمل وفّرت بديلاً وافقت عليه أوسع شريحة ممكنة من الشعب، وهذا كان جديداً وقتها على الساحة السياسية العربية. الغريب أيضاً أنّ قواعد تلك الأحزاب كانت موافقة على المشروع الناصري، أو لنقل متقاطعة معه (كما هي الحال مع قواعد اليسار المصري التي وجدت في الاشتراكية التي طرحها عبد الناصر حلّاً معقولاً لمشاكلها مع الطبقات الرأسمالية والإقطاعية التي ثارت عليها مراراً بدون نتيجة)، وفي أحيان كثيرة بدت متحمّسة له أكثر من قواعده نفسها. وهذا عائد لطبيعة المشروع نفسه، حيث كان يحتمل كثيراً من الاجتهادات الاجتماعية، ولا ينظر إلى بنيته التي هي طبقية أساساً من منظور ليبرالي يغلّب المنافسة السياسية على ما عداها. هذا النوع من الحكم بدا في شروط تلك المرحلة أكثر تمثيلاً للقواعد الاجتماعية العريضة من النظام الانتخابي الذي كان معتمداً في الغرب، وغدا ممكناً معه توقّع أيّ شيء من القواعد الاجتماعية التي تدعمه، بما في ذلك تأييد تصفية الإسلاميين سياسياً أو حتى أمنياً. تلبيته احتياجات هذه الشرائح ساعدته في التصرّف «كما يشاء» في الداخل والإقليم، ليس على قاعدة الرشى الاجتماعية، وإنما اعتماداً على مبدأ توزيع الثروة وتوسيع شبكة المستفيدين منها. بموجب هذه الآليّة صار الفلاح المقيم في الدلتا أو الصعيد شريكاً في القرار السياسي، ولم يعد مستغرباً أن نسمع سيّدات من الطبقة الوسطى يشاركن عبد الناصر شتائمه ضدّ آل سعود أثناء خطاب غاضب له ضدّ «المملكة». «الجميع» كانوا على استعداد لدعم مشروعه بما في ذلك خصوم له في اليسار، فهو - أي كنظام وليس كشخص - كان يتصرّف كدولة صاحبة مشروع إقليمي كبير، ولا يقف كثيراً عند ما يفعله الإخوان أو غير الإخوان بالمجتمع. بالطبع، كان يتعامل معهم كما تفعل النظم الشمولية التي تبطش بخصومها السياسيين في الداخل، لكنه لم يجعل من مواجهتهم محوراً لسياساته كما يفعل النظام الحالي بغباء منقطع النظير. بهذه الطريقة يحافظ النظام على شرعيّته ويتمدّد أكثر في الإقليم والمنطقة عموماً، وفي الوقت نفسه لا يدع الاستقطاب يستفحل داخل المجتمع وينال من تماسكه. في لحظات كهذه يتبدّى الإجماع الشعبي على فكرة الدولة، وتظهر لدى عموم المصريين ميول جارفة إليها، بحيث تصبح أيّة خصومة معها خصومة مع الشعب والطبقات الاجتماعية العريضة. لم يحصل ذلك كثيراً في تاريخ مصر، وهذا ما يفسّر لجوء الكثيرين حالياً إلى استحضار لحظة عبد الناصر، على اعتبار أنها من اللحظات القليلة التي حظيت فيها الدولة بإجماع المواطنين. المشكلة في هؤلاء أنهم يفهمون الإجماع الذي حصل على الرجل ومشروعه كما يريدون. ينظرون إلى صراع الدولة حالياً مع الإخوان من هذه الزاوية تحديداً، ويتجاهلون شروط المرحلة التاريخية التي لم تعد تسمح بقمع مماثل، وخصوصاً إذا طاول الطلبة والفئات الاجتماعية الشابّة. لديهم حالياً مشكلة أخرى أساسية، وهي عدم وجود مشروع يبرّر للدولة سياساتها كما كان يفعل عبد الناصر. إذا لم يستوعبوا هذه المسألة فسيزداد الاستقطاب في المجتمع المصري حدّة، وسينتقل الصراع من الشقّ الأمني إلى الشقّ الاجتماعي، وهذا بالضبط ما يعوّل عليه الإخوان حالياً. عبد الناصر فهم هذه الإشكاليّة جيّداً، وتعامل على أساسها مع «الجماعة». أفضل انجازاته على هذا الصعيد هو حرمان الإخوان من التحوّل إلى ثوّار. سجونه كانت ملأى بكوادرهم ولكن أحداً لم يتعامل معهم كأمثولة للنضال الاجتماعي أو الطبقي، وبقيت الثورة بالنسبة إلى الغالبية في مصر هي عبد الناصر واليسار القابع في سجونه!
لا أظنّ أن بمقدور النظام الحالي التعامل مع هذه المعادلة، فهي ليست من المسائل التي تستهويه، وخصوصاً أنه لا يعتبر المسألة الاجتماعية من ضمن أولويّاته. وطالما أنه لا يقدّم سوى الحلول الأمنية، ويتجاهل أنّ لأي ظاهرة «إرهابية» جذرها الاجتماعي، فسيبقى يدور في الحلقة المفرغة نفسها، وستتحوّل أيّة مشكلة أمنية يواجهها إلى انفجار اجتماعي من قبيل هذا الذي يحصل الآن في سيناء. وما يحصل هناك يؤكد أنّ التخبط في مواجهة الحركات الاحتجاجية الراديكالية (والإخوان بدرجة أقلّ) ليس إخفاقاً فحسب، وإنما تعبيراً عن العجز الذي تعاني منه الدولة في سياساتها الداخلية. ماذا نتوقّع من دولة تبطش بشبابها لمجرّد أنهم يعترضون على قانون للتظاهر، فيما يذهب مجندّوها الفقراء ضحية للتهميش الذي عانت منه سيناء طوال عقود؟ التمرّد المسلح الذي يقتل الجنود هناك أكثر من مجرّد ظاهرة «إرهابية»، ولكي نتعامل معه بجدّية علينا أن نراجع السياق التاريخي لتطوّر سيناء اجتماعياً، وبالتالي نفهم كيف استطاع عبد الناصر تحويل هذه البيئة المهمّشة إلى ظهير للدولة ومشروعها، ثمّ كيف انقلب السادات ومبارك على مشروعه وأعادوا سيناء إلى واقع التهميش من جديد. من دون هذه المراجعة سيبقى فهمنا لما تعيشه سيناء من أحداث محدوداً، وسيتعذّر علينا إجراء مقارنة بين سياسات عبد الناصر الاجتماعية وما يعتبره البعض «سياساتٍ اجتماعية» للحكم الحالي. سأضيف على ما سبق انطباعاً وصلني من مصر، وهو مفارق بكلّ المقاييس لكلّ ما نتداوله عن حكم السيسي، وأنا أضعه في سياق المقال لكي تصبح كلّ الأفكار متاحة للتداول. قال لي صديق من هناك إنّ الاكتتاب غير المسبوق في مشروع قناة السويس سيوسّع القاعدة الاجتماعية للسلطة أكثر، وسيعيد إلى الدولة مشروعها الذي افتقدته منذ أيام عبد الناصر. أخذ يشرح لي ذلك بتسلسل مدهش، مستعيناً بمشاهدات حيّة من واقع الطبقات المختلفة التي اكتتبت في المشروع. بالمناسبة، صديقي ناصري ومن المعجبين بفكرة الدولة المصرية القديمة والعصيّة على التفكيك كما يقول.
* كاتب سوري