«إنّ القضايا المهمّة في النضال الفلسطيني من أجل الحرّية وتقرير المصير، يتم التقليل منها وجعلها غير مرئيّة من قبل أولئك الذين يحاولون مساواة المقاومة الفلسطينية للفصل العنصري الإسرائيلي بالإرهاب» - أنجيلا دايفيس، 2016
واجهت الحركات النسويّة في دول الجنوب لفترة طويلة عنصريّة وفوقية من قِبَل الحركات النسويّة في دول الشمال، بحيث كان التركيز على قضايا المرأة من زاوية خبرة النساء في دول الشمال، وبالأحرى خبرة النساء ذوات البشرة البيضاء في دول الشمال. هذا ما سمح، مثلاً، كما تذكر الباحثة الفلسطينيّة ندى إيليا، لنسويّة شهيرة مثل بيتي فريدان أن تقوم بمحاولة لإسكات الناشطة النسوية المصرية البارزة نوال السعداوي في مؤتمر للأمم المتّحدة عام 1985، لمنعها -بلا طائل- من الكلام حول القضيّة الفلسطينيّة بحجّة ضرورة عدم الكلام في السياسة في مؤتمر نسويّ، هذا بينما سمحت فريدان لنفسها في المؤتمر ذاته بمهاجمة الفصل العنصريّ الجنوب أفريقي!
هكذا لم ترَ الحركات النسويّة في أوضاع النساء في بلادنا سوى نوعين من العنف: العنف الذكوري في النظام الأبوي، وعنف التزمّت الديني، وهما عُنفان مشتركان في جميع البلدان والأديان؛ وأغفلت عنف الاستعمار الواقع على نساء دول الجنوب، وعنف الاحتلال الإخلائي الصهيوني المُمارَس ضدّ نساء فلسطين. لعقود طويلة أغفلت الحركات النسويّة أنّ الاحتلال ونظام الفصل العنصري الإسرائيلييْن يشكّلان واقعيْن قمعيّيْن هائليْن بالنسبة إلى المرأة في فلسطين، وفشل التيّار النسوي المهيمن في دول الشمال في الاعتراف بالأسباب الجذريّة للظلم الواقع على المرأة في فلسطين: المشروع الاستعماري الصهيوني، فمن جهة تأثّرت الحركات النسويّة الغربيّة بالدعاية الصهيونيّة القائلة زوراً بأنّ المقاومة الفلسطينية هي معادية للساميّة، ومن جهة أخرى بقيت الحركات النسويّة أوروبيّة المركز، بحيث ركّزت على ضحايا الجرائم النازية من أوروبيّين وتغاضت عن قتل الاستعمار الأوروبّي للملايين من الأفارقة والسكّان الأصليّين في قارة أميركا.
تغيّر الوضع مع النضال المستمرّ للنسويّات الفلسطينيّات والملوّنات. فرغم ما واجهته وتواجهه الباحثات والناشطات الفلسطينيّات والعربيّات من مضايقات ومحاولات إسكات من أنصار الصهيونية، واصلت وتواصل المرأة الفلسطينية رفع صوتها وتنظيم الصفوف لإظهار واقع الحياة في ظل الاحتلال وتفخيخ الدعاية الصهيونية الكاذبة حول النضال الفلسطيني. كما خاضت النساء الملوّنات والنساء من دول الجنوب صراعات داخل الحركة النسويّة لفرض رؤية جديدة للتحليل تأخذ في الاعتبار العنصر، والطبقة، والاستعمار، والبُنى التسلّطية القائمة، في التحليل النسوي لواقع المرأة. هذه المقاربة المتعدّدة الجوانب للتحليل النسوي، والمسمّاة بالتحليل التقاطعي (intersectional)، سمحت بتطوّر العمل النسوي ليصبح أكثر شمولاً بحيث بات يأخذ في الاعتبار أوضاع السكّان الأصليّين في دول الشمال، وسكّان الجنوب الخاضعين حتّى اليوم لهجمات الاستعمار.
هكذا، بتنا اليوم، أمام جمعيّات نسويّة تؤكّد على تشابك أنظمة الظلم من استعمار وبطش وقمع ونظام أبويّ وغير ذلك، وتؤكّد تباعاً على ضرورة ترابط الصراع ضدّ هذه الأنظمة كلّها، من أجل إنشاء مجتمعات متحرّرة وعادلة للجميع. وبرز تيّار نسوي يتحدّى الهيكليّات المعاصرة السلطويّة ويدعو إلى عدالة مبنية على مبادئ المساواة وحقوق الإنسان. وفي ظلّ هذه الرؤية الواسعة، بات هذا التيّار النسوي يرى التزام القضيّة الفلسطينيّة جزءاً لا يتجزّأ من التزام الصراع النسوي.
والواقع يدلّ، لمن يريد أن يرى، أنّ أثر الاحتلال الصهيوني على النساء مُضاعف وخاص. فطالما منع الاحتلال العنصري النساء الفلسطينيات من الدراسة، أو تحرّش بهنّ في الطريق إلى المدرسة، وطالما تهجّم المستوطنون عليهنّ، وأجبرهنّ جنود الاحتلال على وضع أطفالهنّ عند الحواجز، وتعرّضن للإجهاض بشكل كبير بسبب الاعتداءات الإسرائيليّة. كما فقدن مع عائلاتهنّ الأمان جرّاء تدمير منازلهنّ. وطالما اعتبر الاحتلال أنّ صحّتهنّ الإنجابيّة أمر سلبي ومصدر لـ«تهديد» سكاني. واليوم تحديداً، يقتل جنود حرب الإبادة الإسرائيليّة اثنتين من الأمّهات كلّ ساعة وسبع نساء كلّ ساعتين، وارتفعت نسبة إجهاض النساء الفلسطينيّات إلى 300%.
هذا بالإضافة إلى أنّ وقع حرب الإبادة عليهنّ مُضاعف، إذ يعانين من انعدام الفوط الصحّية، ومن صعوبة ومخاطر الوضع وسط الدمار وانعدام النظافة (حوالي 180 ولادة يومياً)، ومن سوء التغذية الذي ينتقل إلى أطفالهن. وقد أظهرت تقارير عدّة حرمان الأسيرات من الضروريات الأساسية مثل الطعام والأدوية والفوط الصحّية، بالإضافة إلى تعرّضهنّ للضرب الجسدي المبرح، وللحبس في قفص معرّض للمطر والطقس البارد دون الحصول على طعام. وأفادت المفوّضيّة السامية لحقوق الإنسان أن النساء والفتيات الفلسطينيات قد تعرّضن للإعدام التعسّفي في غزة (مع أفراد الأسرة، بمن في ذلك أطفالهن). وعلى الرغم من كلّ التحدّيات، تُبدي النساء في غزة صموداً ومقاومة رائعيْن في مواجهة الظلم؛ فهنّ يتعاونّ بصلابة لاستمرار الحياة وكان لهنّ حتّى الماضي القريب أدوار بارزة في الجمعيّات المدافعة عن حقوق الفلسطينيّين والداعية إلى العدالة والمقاومة والتحرّر من الاحتلال.
لقد دعت جمعيّات نسويّة عديدة في كندا (تشرين الثاني الماضي) والولايات المتّحدة (كانون الثاني الماضي) إلى وقف دائم لإطلاق النار، بينما الحركات النسويّة الرسميّة في أوروبا ضعيفة، إلّا أنّنا بتنا في موقع نسوي يمكنه المجاهرة والمُحاجَّة بأنّ النسويّة لا يمكن أن تكون صهيونيّة، لأنّه لا يُعقل أن يُرى وضع النساء الفلسطينيّات دون عدسة تحليليّة متعدّدة الجوانب لا تواجه فقط القمع الأبويّ وإنّما تفضح وتدين وتواجه القمع الصهيونيّ العنصريّ أيضاً. وكما تقول الناشطة جامي عمر ياسين، إنّ «النسويّة التي لا تمتلك فهماً لكيفية تقاطعها مع القمع العرقي هي ببساطة لون من ألوان هيمنة العرق الأبيض».
إنّ النسوية التي لا تشمل تحرير غالبية نساء العالم اللواتي يواجهن عنف الحرب والاستعمار بالإضافة إلى عنف القمع الأبوي، هي نسويّة عنصريّة، والنسويّة التي لا تتقاطع مع مشروع التحرير الفلسطيني هي نسويّة استعماريّة. أن يكون الإنسان نسويّاً اليوم يعني أن يقف مع النساء الفلسطينيات وهنّ يقاومن من أجل الحرّية والعدالة والمساواة، ومع الشعب الفلسطيني في مسيرة تحرّره.

* كاتب وأستاذ جامعي