منذ بضعة أيام، كنت أستقلّ سيارة أجرة في إيران، يقودها جريح فقد قدمه في الحرب - بحسب الظاهر - وفي أثناء الحديث، سألته عن الأوضاع السياسية والمعيشية التي يراها في إيران، وما رأيه فيها، قال: «نحن يصنعنا العالم لنكون طالبي دنيا. لو كنا حقاً مسلمين لصلحت الأمور، مسلمين يعني أن تكون دنيانا في طريق طلب الحق والتوحيد والقيم، لا لأجل متاع ومال زائل... انظر إلى السيد رئيسي، هذا الرجل حقاً ليس طالباً للدنيا، ولا الجاه والمال». كشخص يعيش في إيران، ومتابع منذ حوالي ثلاث سنوات الصحف الإيرانية بشكل شبه يومي، أجد من نفسي ضرورة كتابة بعض الكلمات التي تكشف شيئاً من جهود السيد رئيسي في حياته التي قضاها في فترة رئاسته للجمهورية الإسلامية في إيران.
السيد إبراهيم سيد الساداتي، جاء إلى رئاسة الجمهورية في إيران بعد الطاقم الإصلاحي الذي كان يترأسه الشيخ حسن روحاني، والذي كان محور اهتماماته - كما كان مشهوداً - جذب المنافع للجمهورية الإسلامية من طريق الاتفاق النووي، حيث كان من الواضح جداً أن هذا الطاقم وضع «الثمار كلها في سلّة خطة العمل الشاملة والمشتركة» وإصلاح العلاقات مع الغرب، وبخاصة أوروبا، وكان لا يجد خلاصاً لقضايا البلاد العالقة إلا بالتراجع عن الأمور التي تعيق الاتفاق والمصالحة مع هذه الدول.
وهذا ما ترتب عليه أمور كثيرة على المستوى الإعلامي والمعيشي والسياسي - الداخلي والخارجي. فعلى سبيل المثال، لم يتم فتح العلاقات مع شرق البلاد ودول الجوار بنشاط وحيوية واهتمام، بل كان محور المساعي هو إرضاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن يقف وراءها، ومن ثم الدول القائمة على إنجاز خطة العمل والمفاوضات النووية.
الأمران المحوريّان في حركة رئيسي: سياسة حسن الجوار والجولات الدورية على المحافظات


في هذا الوقت، جاء السيد رئيسي وأسّس حكومته «حكومة الناس» وجعل أساس عمله - طبقاً لإرشادات قائد الثورة الإسلامية - أمرين:
الأمر الأول: الانفتاح على دول الجوار وتحسين العلاقات مع الدول المحيطة بإيران بشكل أساسي، ومن ثم توزيع التعاون على الدول التي تقف مقابل محور الهيمنة الأميركية.
الأمر الثاني: تقوية الارتباط المباشر والفعّال مع المحافظات الإيرانية ومشاركة الناس همومهم بشكل حيويّ لا عبر الوسائط والوكلاء.
أمّا بالنسبة إلى الأمر الأول، فقد حقق السيد رئيسي إنجازات مهمّة في هذا المجال، حيث أقام لقاءات وعلاقات مع دول الجوار من أذربيجان وباكستان والعراق وغيرها، وكان يلتقي ويوقّع الاتفاقيات التي تركّز على التعاون الأمني والاقتصادي بين هذه البلاد، ويكفي لمن يريد التأكد مراجعة أرشيف السيد رئيسي ليجد الكمّ الهائل من وثائق التعاون التي جرى توقيعها مع دول الجوار. إضافة إلى ذلك، سعى إلى بناء علاقة ندّية مع الدول الكبرى مقابل الهيمنة الأميركية، مثل روسيا والصين، وكان انضمام إيران رسمياً إلى دول «البريكس» ومنظمة شانغهاي، والتي كان لها آثار مهمة على مستوى الموقع المؤثر والاستراتيجي لإيران. وفي كلمة تلخّص كل هذا الأمر، إنّ السيد رئيسي، خلافاً لسلفه، لم يضع الثمار كلها في سلة واحدة، بل وضعها في سلل مختلفة واستبعد محورية الاتفاق النووي لحلّ القضايا، وبهذا كان بحقٍّ وفيّاً لإرشادات قائد الثورة.
وأمّا بالنسبة إلى الأمر الثاني، فقد كان للسيد رئيسي حركة مكوكية ودورية لكل المحافظات في إيران، فكان يزورها ويمشي في أسواقها، ولم يكن يكتفي بالزيارات لها لمرة واحدة، بل كان يعاود الزيارة للمحافظات، فكان هناك جولات متعددة للزيارات، ولم تكن مجرّد لقطة إعلامية بل كان يصطحب معه طاقماً كاملاً لدراسة الأوضاع والاحتياجات، وقد أسفرت عن البدء بخطوات عملانية في كثير من المحافظات.
أمس، انتشرت الصورة الأخيرة للطائرة التي أقلّت السيد رئيسي. في هذه الصورة، كان هناك بضعة أفراد من محافظة أذربيجان الشرقية يلوّحون بأيديهم للسيد، بعدما التقى نظيره الأذربيجاني، إلهام علييف، عند النقطة الحدودية المشتركة قبيل افتتاح سدّ «قيز قلعه سي» المشترك.
هذه الصورة هي امتزاج للأمرين المحوريّين في حركة رئيسي: سياسة حسن الجوار وسياسة الجولات الدورية للمحافظات. أفراد تظهر عليهم أمارات البساطة يلوّحون لرئيسهم بعد لقاء مهمّ مع دولة مجاورة. لم نكن لنجد هذه الصورة عند من كان سيستقلّ طائرته إمّا عائداً من لقاء في أوروبا مع الدول المفاوضة حول الاتفاق النووي، أو من حلقة تنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية... حيث لا تلوّح وداعاً الأيدي الشعبية المحبّة.

* باحث