قبل السابع من تشرين الأول 2023، ندر أن تسمع مقولة أن النظرية النقدية في الغرب بحاجة إلى من ينتقدها. ذلك لأنها نظرية «المتضامن» و«الصديق» و«المقموع». انتقدت جوديث بتلر الصهيونية. ممتاز، احتفلنا بذلك. ماذا لاحقاً؟ ما هو المشروع؟ المشروع هو أنه إن رأى أحدكم منكراً ضد «الضحية»، أو ما تعرّفه النظرية النقدية كضحية، فليغيّره بقلبه ولسانه وبيده. هذا ليس بمشروع حقيقي، بل مشروع ثقافي أو project بلغة المنظمات غير الحكومية، ينتهي بنهاية السنة المالية. هكذا باتت النظرية النقدية مشروعاً نرجسياً من أجل «إزعاج السائد» بحيث يصبح الإزعاج هدفاً لا وسيلة. هنا يصبح الإزعاج امتثالاً للسائد، باحتضانه وتقمّصه صورة المزعج، أي «الإرهابي فكرياً»، في فعل نكاية عدمي من أجل تبديد الملل. مثال على ذلك ما رأيته في إحدى التظاهرات التضامنية من أجل غزة في المهجر، حين شاهدت أحد المتضامنين الأجانب يلبس حقيبة مكتوباً عليها بالعربية: «هذا النص مكتوب بالعربية من أجل ترويع من يخاف من العرب». بكلمات أخرى، المقاومة وجمهورها وتاريخها وأدبياتها وشهداؤها وأسراها ما هم إلا وسيلة لنا نحن الجيل الشاب الأبيض المترف في الغرب من أجل إزعاج وإرهاب آبائنا الذين نكرههم.
من زاوية أخرى، النظرية النقدية كانت دائماً مفيدة للسلطة الإمبريالية في الغرب، يقول الدكتور خالد عودة الله: «إنّ فلسفات ما بعد الحداثة، بقدرتها التفكيكية الهائلة، ما هي إلا الوجه الآخر لأسلحة الدمار الشامل عند القوى الاستعمارية، فلا يضير متفلسفاً، كان فرنسياً أو ألمانياً أو أميركياً، أن ينظر إلى ما بعد الحداثة وانتهاء اليقين والحقيقة ما دام يتفلسف في ظل دولة تحميه، بطائراتها المقاتلة وبارجاتها الحربية، تنهب العالم لتقدّم له راتب التقاعد في نهاية الخدمة».
هذا التواطؤ تجلّى بوضوح، في السنوات الأخيرة، في توسيع الحزب الديموقراطي الأميركي لأيدولوجية المحافظين الجدد خلال الحرب على الإرهاب كي تنتقل من أولوية تغيير الأنظمة بحجة «الديموقراطية»، إلى نظرية تغيير القلوب والعقول بحجة «العدالة الاجتماعية».
هنا وظفت الدولة الصهيونية، ما قبل وما بعد السابع من تشرين الأول، بروباغندا «العدالة الاجتماعية» من أجل تضليل صورة الصراع على أنه صراع «التقدميين» ضد «مجتمع غير تقدمي» و«عنصري» و«ذكوري». من الضروري التسليم بأن مثل هذا التوظيف قد حدث وتمّ، بغضّ النظر عن موافقة أو اعتراض الأكاديميا والناشطيّة الغربية المتضامنة مع فلسطين من عدمه، ذلك لأن الأزمة المعرفية للحرب على الإرهاب مرتبطة عضوياً بأزمة الحرب الغربية على الذكورية، العنصرية، وغيرها من الجبهات التي حوّلت النظرية النقدية إلى نظرية لتحريم الفكر النقدي. هنا يصبح الاعتراض كما التضامن بلا معنى، مجرد جزع جماعي على محدودية النظرية النقدية الغربية وكشف ناشطيّتها التي هي، كما تقول الكاتبة إسلام الخطيب، «محاكاة – أو محاكاة للمحاكاة، لا تمّت إلى الواقع بصلة» (الخطيب كتبت مقالها في هذا الشأن قبل شهر من الحرب). هنا تصبح «لا للإبادة باسمنا» أهم من «لا للإبادة» بالنسبة إلى الناشطين الأكاديميين الغربيين، ذلك لأن المؤسسة الصهيونية باتت تشارك ابن الطبقة الوسطى-العليا وابن المنظمة الحكومية ذات المرتب العالي «إزعاجه الشجاع» للمجتمع المحافظ، من أجل تمرير إبادة جماعية.
هنالك حل سهل لهذه المعضلة. فلنخلط النظرية النقدية بنظرية ما بعد الاستعمار. هذا أيضاً تم اختراقه. جوديث بتلر، ومن حذا حذوها، يرون أن المجتمعات الأصلانية كانت غير ممتثلة جنسانياً، قبل أن جاء الاستعمار الغربي وفرض علينا الامتثال الجنساني الغيري، هنا حوّلت بتلر ذاتها وطبقتها الاحترافية المهنية إلى «شيوخ أصلانيين» إلى ما يشبه نسخة جنسانية وبنفسجية من عمر المختار وعبد القادر الجزائري. هنا اكتشفنا أنه ليس فقط السلطة الرأسمالية-الأمنية المحلية تستخدم خطاب ما بعد الاستعمار ومناهضة الإمبريالية من أجل شرعنة جبروتها، بل سلطة البديل المعارض وغير السائد تتقن مثل هذا الاستخدام (إلى جانب السلطة الصهيونية التي تستخدم الأصلانية اليهودية في خطابها مدعّمة بمقولات من فرانز فانون). من هنا، بإمكاننا أن نقرأ نظريات عرمرمية عن الاستعمار الإسلامي والاحتلال العربي وبيانات سياسية وعرائض موقّعة تستنكر «الإمبريالية الصينية» في سوريا. وهنا نرى الصحافة العربية النفطية تزخر بمقالات توصم قاسم سليماني قبل أن يجف دمه بعد استشهاده، بوزير «المستعمرات» الإيراني.
في ظل هذه الظروف، يتمحور السؤال في ما إن كانت هنالك مدرسة من مدارس النظرية النقدية الغربية غير قابلة للاختراق من السلطة في القلب الإمبريالي الغربي. الدراسات النقدية في مجال الإرهاب ومكافحة الإرهاب، والتي ترى فيهما بنى اجتماعية مزيّفة، ما زالت النظرية الأفضل التي تضعنا نحن والأكاديميا الغربية، بل والفرد في الغرب مباشرة، في مواجهة سلطة المركز الإمبريالي. هذه المدرسة متحررة من ثنائيات اليسار واليمين الثقافيين-الاجتماعيين، إذ إنها تستبدل المحافظ والليبرالي والقامع والمقموع الهوياتي بثنائية السلطة المكافحة للإرهاب في الدولة الرأسمالية-الأمنية، من جهة، والفرد من جهة أخرى.
ما زالت النظرية الأفضل التي تضعنا نحن والأكاديميا الغربية، بل والفرد في الغرب مباشرة، في مواجهة سلطة المركز الإمبريالي


نشأت هذه المدرسة في حقبة منتصف العقد الأول من الألفية، أي الحقبة ذاتها التي نشأت فيها المغامرة المحسوبة لجريدة «الأخبار» خلال حرب تموز عام 2006، وذلك عندما عُقد في المملكة المتحدة، بعد ثلاثة أشهر من الحرب، مؤتمر بشأن ضرورة نقد الأزمة المعرفية الناجمة عن اختراع الإرهاب ومكافحته، وصولاً إلى بدايات عام 2007، عندما بدأ العمل على تأسيس المجلة الدورية لدراسات الإرهاب النقدية.
بالتأكيد، تتقاطع هذه المدرسة بشكل كبير مع تاريخ منطقتنا وأزماتها ولا تتفوق عليها في ذلك مدرسة أخرى، بحيث تقسم تاريخ مكافحة الإرهاب إلى عدة مراحل:
أولاها، المرحلة المبكرة ما قبل الألفية، وذلك لدى اجتياح لبنان عام 1982، ونشوء حركات المقاومة الإسلامية، ووقوع السلطات الغربية في تناقض دعم طالبان والأفغان العرب كحركات «تحرر» ضد الاتحاد السوفياتي في الوقت ذاته الذي حاصرت فيه حزب الله وحماس، الحركات الفتية آنذاك في مناهضة الاحتلال الصهيوني.
ثانيتها، مرحلة الحرب الدولية على الإرهاب وغزو العراق، والتي استغل فيها أرئيل شارون، باسم مكافحة الإرهاب، أحداث الحادي عشر من أيلول وما لحقه من هستيريا جماعية في الغرب من أجل إتمام هندسة الفصل العنصري ببناء جدار الضفة الغربية.
ثالثتها، مرحلة أفول الانتفاضات العربية ما بعد عام 2011 وصعود داعش، والتي أعادت فيها الحرب على الإرهاب تجديد ذاتها ومأسسة ذاتها في داخل السلطة الإمبريالية البعيدة والسلطة الأمنية المحلية (والتي تحالف معها التقدميون الاجتماعيون العرب)، بحيث بات هنالك «ألف ابن لادن» و«ألف جورج بوش» في منطقتنا.
رابعتها، مرحلة عودة الحرب على الإرهاب إلى المركز بعدما اتخذت سلطات المركز الغربي إجراءات سلطوية ضد مواطنيها، بحجة محاربة «الإرهاب الأبيض» و«التدخل الروسي» «والفاشية» و«العنصرية» بحيث باتت تلك مرحلة تحالف التقدميين الاجتماعيين مع السلطة في واشنطن، خاصة بعد أحداث 6 كانون الثاني 2021 (اقتحام الكابيتول).
خامستها، الإبادة الجماعية في غزة بعد 7 تشرين الأول كالمرحلة الأعلى من الحرب على الإرهاب.
لا تتخوّف هذه المدرسة، باسم المعاداة السطحية للإمبريالية الغربية، من نقد الذات، بل تخوض في نقد المشاركين كافة في الحرب على الإرهاب، شرقاً وغرباً، حتى في نقد المقاومة بحد ذاتها عندما تفعل ذلك. وفي ذلك يقول الدكتور أسعد أبو خليل: «هل استُدرج [حزب الله] من خلال الساحة السوريّة إلى المشاركة في حرب غربيّة خبيثة "ضد الإرهاب"؟ هل يثق الحزب بأي حرب "ضد الإرهاب" تصدر عن واشنطن؟ ولماذا لم يصدر بيان رسمي واحد عن الحزب يستنكر فيه حق واشنطن في شنّ أكثر من 160 غارة على العراق حتى الساعة؟ هل يختلف الحزب على أن أميركا لا تدخل حرباً ولا تقصف من دون أن تقتل مدنيّين ومدنيّات أبرياء؟ إن التساهل مع القصف الأميركي على العراق (وغداً مع سوريا) يمكن أن يؤدّي إلى التساهل المستقبلي من قبل الرأي العام العربي إزاء حرب قد تختار واشنطن أن تشنّها ضد حزب الله نفسه (وبالنيابة عن العدوّ الإسرائيلي) وتحت عنوان "الحرب ضد الإرهاب" نفسه؟ إن خطاب وتحالفات "الحرب ضد الإرهاب" من قبل الغرب لا يمكن أن تكون لا لصالح العرب أو المسلمين، ولا حتى لصالح الحرب الحقيقيّة ضد الإرهاب».
بصيرة أسعد أبو خليل، والتي استشرفت الإبادة الجارية في غزة، مصدرها تلك المرحلة النقدية، تلك المرحلة التي أنتجت كذلك فكر جوزيف مسعد بشأن خطاب مكافحة الإرهاب، والذي رأى فيه «فنتازيا إسقاطية» تقوم على محو «علاقات القوة كالإشكالية المركزية للعنف». هؤلاء هم تلاميذ إدوارد سعيد، الذي سبق عصره في نقد خطاب الحرب على الإرهاب في ثمانينيات القرن الماضي، وقد احترف مثل هذا النقد حتى أظهر، بشكل ساخر، الدولة الصهيونية على حقيقتها: آلة عسكرية ضخمة تقودها مجموعة من المجرمين التافهين المدلّلين بالدعم الغربي اللامشروط.

* كاتب وباحث فلسطيني