[إلى الصديق خالد بركات]
تطمئنّ على مستقبل فلسطين حين يجلس طالب ثانوي على ضفّة شرق المتوسّط، هو رامي رمضان، وأنت على ضفّة بحيرة أوناتريو، ويخبرك أنّه ملتزم للقضيّة الفلسطينيّة وأنّه اختار موضوع العلاقة بين الإنتاج الفنّي والسياسة في إطار القضيّة الفلسطينيّة كموضوع بحثي للعرض في مدرسته. ثمّ يسألك «كيف يتكامل العمل الأكاديمي مع النشاط الاجتماعي ودعم القضيّة الفلسطينيّة في مجال تسود فيه الموضوعيّة كالأكاديميا؟»
هل من موضوعيّة صافية خارج الكيمياء والفيزياء والرياضيّات؟ لا أعتقد. حتّى في الفيزياء والكيمياء موضوعيّتنا محدودة بحدود معرفتنا الحاضرة ودقّة الآلات التي نقيس بها. فإن لم يكن لدينا معرفة عن طول بلانك (1.6 x 10⁻³⁵) فلن نتكلّم عنه أساساً. ولو كانت لدينا عيون القطط والكلاب، لكان لدينا صعوبة فائقة في رؤية اللون الأخضر والأحمر والبرتقالي، بينما الطيور ترى حتّى الألوان الفائقة للبنفسجي. حتّى في حقل موضوعيّ كالكيمياء أو الفيزياء، يمكن لمقاربتنا للحقل أن تكون غير موضوعيّة، وتاريخ العلوم الموضوعيّة يعجّ بخلافات حامية الوطيس بين الباحثين، لعلّ أشهرها الخلاف الشهير بين ألبرت أينشتاين ونيلز بور (الذي كان محقّاً) حول ميكانيكيا الكمّ؛ والخلافات غير الموضوعيّة موجودة حتّى في حقل رياضيّ كالإحصائيات.
نحن بشر ولسنا آلات، ولا يمكننا مقاربة الحياة إلّا عبر مجمل شخصيّتنا. وكلّ أمر يتجاوز الفيزياء والكيمياء والرياضيّات لهو أمر إنسانيّ نُقاربه بشكل يجمع بين الفكر والشعور والأخلاق (بالمعنى العام الشريف للكلمة)، أي إنّنا نقاربه بشكل غير «موضوعيّ» بالمعنى الضيّق للعبارة. هذه اللاموضوعيّة تنبع من خبرتنا الإنسانيّة التي تجعلنا نرى أنّنا لسنا حواسيب تفكّر فقط. نحن لسنا آلات تسجّل موضوعاً، نحن بشر. إنّ «موت» فلسطينيّ في غزّة ليس مجرّد توقّف لعضلة القلب ونشاط الدماغ الكهربائيّ، وإنّما قتلٌ لإنسان محبوب ويحبّ وله علاقات مع آخرين. وحتّى موت إنسان من مرض يجب أن نبحث في أسبابه وظروفه، لأنّه قد يكون ناتجاً عن قتل اجتماعيّ، أي عن عمليّة استغلال أدّت إلى إفقاره، فمرضه وعدم تمكّنه من العلاج.
يقودنا العقل المستنير بخبرتنا الإنسانيّة إلى أنّ الخروج عن الموضوعيّة الضيّقة الباردة ضروريّ في مقاربة شؤون العالم؛ لأنّ الموضوعيّة الضيّقة تعني انعدام الحسّ والتعامل مع الذات والآخرين بـ«العقل البارد»، أي بشكل يشبه الحاسوب. إنّ أولئك الذين يقومون بحسابات حول العدد «المقبول» من القتلى في غزّة، أو في العالم في حال نشبت حرب نوويّة (الحالة الأوكرانيّة مثلاً)، هم رمز صارخ لتلك «الموضوعيّة» الحاسوبيّة.
الحياة الإنسانيّة لا موضوعيّة، هي حياة شخصيّة لبشر من دم ولحم ومشاعر ونفوس. الحياة تحتاج أساساً إلى مقياس أخلاقيّ يقارِبها به الإنسان. كلّ تصرّف وموقف أمام حدث - مهما كانت تبريراته ومهما قيل عن أسبابه - ينبع أساساً من موقف أخلاقيّ. الجواب عن سؤال مثل «هل قتلُ الفلسطينيّين أمر جيّد أم مُدان؟» لا يتوقّف على موضوعيّة عدد القلوب التي توقّفت عضلاتها عن العمل نهائيّاً، وإنّما على المبدأ الأخلاقيّ الكامن وراء الموقف. وإن قال أحدنا إنّه سيّء لأنّنا كلّنا بشر (وهو أمر موضوعيّ وإن يختلف عليه الناس)، فهو لا يقول ذلك إلّا لكونه يعتقد بأمر موضوعيّ (كلّنا بشر) وإنّما بمبدأ أخلاقيّ، ألا وهو أنّنا كلّنا متساوون في القيمة.
الموضوعيّة الضيّقة تعني انعدام الحسّ والتعامل مع الذات والآخرين بـ«العقل البارد» أي بشكل يشبه الحاسوب


ما من موقف لا ينطلق من مقياس أخلاقيّ (مُضمَر أو مُعلَن). لهذا، فالمبادئ الأخلاقيّة التي يمكن أن نستشفّها وأن نعتنقها هي أساس في تحديد توجّه الإنسان ومواقفه في الحياة. لا يمكن السير في الحياة خطوة من دون هذه المبادئ. أصلاً لا أحد يسير من دونها. ولهذا صحيح أنّه «لا يمكن لكلّ الكلام والأيديولوجيا والمبادئ أن تغيّر ما في النّاس إن لم يتغيّر واقعهم المادي»، كما عبّر عامر محسن في مقالة له حول الموقف من قضايا المنطقة واقتصاداتها، ولكنّه صحيح إلى حدّ فقط، وبهدف إحداث تغيير اجتماعيّ واسع، لأنّه عندها الوعظ لا يكفي، تحتاج إلى أرضيّة مادّية تبني عليها.
وفي موضوعنا حول المجاهرة بالتزام القضيّة الفلسطينيّة في جوّ رسميّ عدائيّ لها، فهذا يعني ضرورة حماية الإنسان من التعسّف الوظيفيّ وبناء شبكات تعاون وحماية اجتماعيّة عبر بلد ما. لكن رغم ذلك، فهناك مَن يتمسّك أساساً بالمعنى، أي بمبدأ أخلاقيّ لا معنى خارجه، ولذلك يقبل بالخروج من بلاد «الراحة» أو «الدّعة» إلى الصراع كي يبقى في بلاد المعنى. هؤلاء ينطلقون من واقع مادّي بطبيعة الحال (ومن يستطيع أن ينطلق إلّا من الواقع المادّي طالما نحن في هذا العالم؟) وإنّما لا ينتظرون وجود الواقع المادّي المتغيّر الذي يبتغون الوصول إليه، وإنّما ينطلقون من «المعنى» (أو المبدأ) الذي يجدونه في التزامهم مع غيرهم، من أجل إحداث تغيير للواقع المادّي لكي يتحقّق المعنى واقعيّاً في قلب الحياة. وإلّا فما الذي جعل مجموعات من الفقراء المجانين في القرن الماضي يناضلون في أحزاب لا «تطعمهم خبزاً» في بلادنا؟ وما الذي دفع بضعة مسلّحين فوق مركب «مسنّ» من العودة إلى كوبا لتغيير الواقع المادّي للناس؟ وما الذي دفع مجموعة من الصيّادين في فلسطين لـ«اقتحام» إمبراطوريّة للتبشير بأنّ عالماً من الإخاء ممكن على خطى الناصريّ؟ ما دفعهم ليس واقعاً مادّياً جديداً وإنّما المعنى، إنّه معنى المبدأ المشترك، والحلم بتحقيقه بشكل واسع. هؤلاء سمّيناهم أبطالاً وقدّيسين وأولياء وربّما أنبياء.
طبعاً هؤلاء نشدوا تغيير الواقع المادّي، فهناك ضرورة لتغيير الواقع المادّي للوصول إلى واقع إنسانيّ جديد تصبح به المبادئ طريقة حياة على نطاق واسع. إن لم نُنشئ بُنى اجتماعيّة واقتصاديّة تسهّل على الناس المشاركة وحتّى المحبّة ستبقى هاتان مصير بضعة أبطال وقدّيسين وأنبياء.

* كاتب وأستاذ جامعي