إنّ المسار التاريخي للعقود الثلاثة الأخيرة، وصولاً إلى «طوفان الأقصى»، واستمراراً به، وتالياً له إلى مفصل 14 نيسان التاريخي، يؤكد أن كل شيء في عالمنا الذي نعيش فيه قد تغيّر وأنّه ينبئ بجديد. يتبيّن أنّ الحرب الإسرائيلية تنتهي، بينما القتال يستمر. الوسائل والآليات والأدوات والتقنيات، تفقد فاعليتها، مهما أبدعت فيها وطوّرت، حين تضيق زاوية الرؤية وتجلس في مكان خاطئ من التاريخ. الدوافع تعاني من اختلاط شديد عند القوّة العظمى. فقد تبدأ قوى عظمى بمكان وتنتهي بعكس ما أرادت، ومبرراتها عند انتهاء حربها غير ما قدّمته في بدايتها، فـ«من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل».
ثمة تراجعٌ حادّ عند القوة «العظمى» بالقدرة على الالتزامات الاستراتيجية الطويلة المدى والمتراكبة الطبقات والمجالات. وتراجعٌ في منظومة الإنذار الاستراتيجي، ودائماً سوء تقدير. لم تعد الدولة، تلك التي نظّرت لها المدرسة الواقعية، صندوقاً مقفلاً، والسياسة الخارجية فناً وصناعة موضوعية، بل أصبحت امتداداً لها وانعكاساً لتجاذباتها غير المسبوقة. والثقافة السياسية تبدّلت عن تلك التي اعتُمدت خلال القرن الماضي. أي أنّ حوامل المؤسسات والبنى داخل الدولة وفي البيئة الدولية تتبدّل، ليس باتجاه نهاية التاريخ والليبرالية كما زُعم، بل تزداد الشعبوية واللاعقلانية في الغرب والأيديولوجيات المقنّعة بالحرّية. وينفجر السرار عن تهاوي الثقافة الدولية المؤسسة لالتزام واحترام القانون الدولي كأحد إنجازات منتصري الحرب العالمية الثانية. فمحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات، مثلاً، أصبحتا كسيف ذي حدّين بالنسبة إلى مؤسسيهما.
لم يعد المسرح وترتيباته متوقفاً على معيار القوة، بل يقترب التصنيف نحو معايير أخرى، من قبيل المبادرة والعزم والإرادة، لإحداث التغيير وتعديل البنية، مقارنة بمعيار الثشبّث بالواقع والدفاع عنه. لم تعد منظومة التقييم بالنسبة إلى الفواعل الحيويين اليوم واحدة، بل تغيب وحدة القياس في عملية التقييم، فالمسألة نفسها قد يراها البعض إنجازاً، بينما يراها الآخر إخفاقاً، وهلمّ جراً، كدليل على تعدّد الإرادات واختلاف كتب القراءة ومعاييرها. فلم تعد النفعية الغربية هي معيار القراءة، كما في القرن الماضي، ولا العملة الدارجة في تعاطي المجتمعات ومقارباتها لكرامتها.
والحديث عن تعددية عالمية في السياسة بات واقعاً، بغضّ النظر عن تعريف تعدّد الأقطاب علمياً. فاليوم نواجه تعدّد مرجعيات ونظرات بين اللاعبين الفاعلين في المنطقة والعالم، وأكثر من إرادة ذاتية تمتلك نفوذاً وتأثيراً في فضائها أكثر من خصومها. نعيش تبدّد عصر النهايات والنهائيات، وتضايقاً في الخيارات عند القوى العالمية الكلاسيكية، مقارنة بأبواب تنفتح وتتّسع فيها الخيارات عند قوى صاعدة وعازمة على التغيير وتمتلك خطاباً وجاذبية (يمكن الادعاء أنّ الدول الصاعدة أكثر أريحية في صناعة السياسة والتعاطي معها من تلك التقليدية، فالأولى أقدر سياسياً من تلك المحافظة إذا اعتبرنا أنّ السياسة فنّ إنتاج الفرص وتعزيز الخيارات وتوسعتها).
التخبّط المعيق للحركة والسير عند الغرب، هو نتيجة إرباكه في تعريف الصراع وتأرجحه بين الحضاري والسياسي المصلحي. ثمّة تفكّك أو تصدّع للعلاقة في قوائم «دولة ماكس فيبر»، فالمؤسسات والبيروقراطيات صارت مادة استقطاب جديدة داخلياً، زادت التشظّي بدل أن تكون عقلانية علمانية موضوعية، كما افترضت النظرية.
وربّما يكون الغرب اليوم أمام أقسى تحدٍّ واجهه منذ الحرب العالمية الثانية. فمجتمعاته تشعر بأنّها ليست على شيء فعلياً؛ لا هي على الدين كقاعدة ارتكاز وبناء هوية، ولا على الليبرالية الديموقراطية كمقدّس تمّ تقديمه، ولا على أيديولوجيا الرفاه التي تبنّتها الحداثة، ولا على دولة القانون والحقوق، ولا الدولة القومية التي طالما نظّر لها أنّها شرّ لا بدّ منه وسعى للتخفّف منها لمصلحة «الحق الطبيعي» للفرد. ولا يستطيع أي كيان أن يستمّر من دون ركون إلى شيء، أو هوية، لذلك يعيش الغرب أكبر انكشاف تاريخي في هويته، ما يؤشّر إلى تفاقم أزمات كبرى مرتقبة وكامنة، ربّما تكون انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة قفزة نحوها. وقد يكون هذا أحد أسباب طروحات غربيين لوضع سور حمائي للغرب باسم «الناتو» وطرد تركيا منه واستعادة الدين كعامل حيوي في صناعة الهوية الجديدة. فقد رأى صامويل هنتنغتون أنّ الغرب فقد القدرة على المبادرة الكلية، وعليه أن يبدأ دور الدفاع وحماية القلعة من خلال «ناتو صافٍ». الغرب يعاني من قصور تكامل وتسييل ثلاثية «القوة، القدرة، النفوذ»، وباتت المعضلة الحقيقية أمام سيره.
اصطناع عدوّ ونقل الحروب إلى الخارج، لخلق لحمة، وربّما هوية، لم تعد بضاعة مغرية حتّى لمعتنقيها في هذا الزمن. وأصبحت أساليب إسقاط الغير بالضغوط الاقتصادية القصوى محل تشكيك كبير، وأخفقت في ساحات كثيرة، وارتدّت على متبنّيها. ولا يختلف أحد على حقيقة واضحة أن «العلاقات بين أميركا وحلفائها لم تمر بهذا المستوى من التأرجح والتخبط والحيرة والارتباك». القضية أنّ الرغبة لم تعد هي الحاسمة، بل باتت القدرة، فالأرض التي يقف عليها الحلفاء التاريخيون باتت أقل صلابة ممّا سبق، وتراها موحلة.
نعم، إنّ «طوفان الأقصى»، وما تتضافر معه من حالة مقاوماتية في لبنان والعراق واليمن، ووعي وإرادة تاريخيين في شعوب الأمّة والعالم، حفّز لكل ما نوّهنا له آنفاً بقوّة، وساهم في تكريسه وتثبيت العديد من نقاطه وتذييلها كحقائق. وجاءت صاعقة 14 نيسان لترسم تحوّلاً إضافياً وتبني معادلات جديدة في الأمّة، تعطي مزيداً من الزخم والحجية لما ذكرنا، وتؤكد عميق التحولات الجارية ومداها.
ويمكن اعتبار إسرائيل وما وصلت إليه ميزاناً لحال الغرب ومقومات استمرار مشروعه وحضارته. فقد قُتلت الإنسانية عندهم، وقتل الضمير، وقتلت الديموقراطية والرأي العام الحر، وتهالك الردع، وسقط الإنذار المبكر والتنبؤ، وتطويع الأمم والإرادات الصاعدة. ودخل الغرب مرحلة الأسئلة بشيء يشبه مرحلة الأسئلة التي دخلها الاتحاد السوفياتي قبيل انهياره. فضلاً عن أنّ الأشهر الأخيرة، وما نشهده من محطاتها التاريخية، وهنا الأهم، أنعشت الأسئلة المصيرية التي عمد نظام التفاهة النيوليبرالي إلى إبعادها وإقصائها عن العقول. فجاءت هذه الأسئلة الكبرى لتعيد النظر في «ثوابت مدّعاة» وتفتح الطريق أمام بداية تغيير، ولا سيّما في دول الجنوب، بالثقة أكثر في مجتمعاتهم والإيمان بتوحيد نظرتهم وأولويّاتهم، ما أمكن كمجتمعات وقوى فاعلة، وإطلاق مسار استعادة المبادرة لتغيير الواقع أو إصلاحه. فالفرصة فعلية لتحقيق ذلك، برغم ما يتم تناقله من أدبيات منظّرين غربيين وفرضها على نخبنا كمصطلح vuca (اللايقين والغموض والخ).
ليس آخراً: رغم أهمية مناطق العالم الأخرى والصراعات الجارية فيها، لكن يبدو أنّ منطقتنا هي الأهم لاعتبارات عديدة، أحدها أنّها المدخل الذي تتشّكل على ضوئه ومن خلاله معاني ورموزاً من خارج صندوق الإمبريالية وعدّتها النظرية والعملية والقيمية. إنّ منطقتنا هي أهم مفاعل إنتاج حضاري وديني وقيمي، هي اليوم تستعدّ لإدخال معنى جديد وإدراكات جديدة مختلفة على المشهد العالمي وقيمة ومعادلاته.
بين 7 أكتوبر و14 نيسان، وما أفرزاه من تحوّل في البيئة الجيوستراتيجية، إيذانٌ بانتقال تموقع الخط المقاوم العربي الإسلامي، ومن خلفه الجنوب العالمي بأسره، من ردّ الفعل إلى المبادرة سياسياً واستراتيجياً، ودخوله المسرح العالمي كفاعل محوري لا طرفي. إنّها أشهر تثبيت المعادلات الجديدة لعالم جديد لا يمكن أن يقوم من دون دور محوري لمنطقتنا والشعوب الإسلامية والمستضعفة المقاوِمة، بل أكثر من ذلك، فعالمنا الإسلامي، وفي قلبه منطقتنا (حيث محور شرعيته)، كان ولا يزال نقطة «العقدة والتوسّط والضرورة» ومنطلق التفاعلات ومنتهاها. لذلك، نقول إنّه بدون حضوره النوعي، كمنبر للمقاومة والتحرر العالمي الفعلي، لا إمكانية حتى للصين أو روسيا أو غيرهما، للاقتراب من حلمهم في تعدّد أقطاب فعلي مهما حاولوا.

* باحث لبناني