في الـ 25 من أيار عام 2000، خرج الأمين العام لحزب الله بخطاب ونظريّة، الأوّل تحدّث فيه عن التحرير وتراكم العمل وسياقات الزمان والمكان، وصولاً إلى دحر العدوّ، وفي الثانية أسّس لمستقبل بدا يومها «حلماً». في مقولته الشهيرة «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، بدا للبعض كأنّه يصبّ الزيت على نار الكيان الملتهب بالهزائم المتراكمة وقتها، لكنه أظهر لمن فهم السياق أن شيئاً ما قد تغيّر في المنطقة وفي داخل الكيان ذاته، ليلاقيه فهم من الخارج ثم عمل لإنتاج خيارات جديدة. الأحجية لم تكن في تفكيك الجملة أدبياً وإعادة نثرها خطابات ومقالات وما شاكل، لا، بل اقتربت لتكون خوارزمية متكاملة لبناء فيروس قادر على اختراق عقل الكيان ووعيه، وتفتيت «مناعته» المجتمعية، وصولاً إلى مخالبه الفولاذية.
قيادة حزب الله «اكتشفت» يومها، والاكتشاف هنا نعم بمعنى اكتشاف قبر توت عنخ أمون، أن «إسرائيل» نصفها دعاية، ونصفها قوة وتناقضات. هي مجرد كيان هجين لم تتراكم فيه الأجيال بعد كي تستحيل «أمّة»، بل مجرد مجاميع أوروبية وأميركية شديدة التسليح مع «أصدقاء» أقوياء ومحيط مهزوم. وهي تركيبة أنتجتها مخرجات انهيار الخلافة العثمانية والحرب الكبرى ثم الحرب العالمية الثانية فالحرب الباردة. مجاميع من طموحات وأفكار كولونياليّة استثمرت غلاة الصهاينة فصنّعت «جزيرة» للغرب في قلب الشرق القديم وعلى أطراف شرايين التجارة الدولية.
هذه «الصنيعة»، قال عنها الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن عام 1986 يوم كان عضواً في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس: «لو لم يكن هناك إسرائيل لصنعنا إسرائيل». طبعاً، هو لا ينطلق من أي اعتبار «توراتي»، بل بقراءة مباشرة لمصالح بلاده وحلفائها في تلك الفترة، يومها عارض أيضاً تقديم السلاح للسعودية وهي حليف لواشنطن، بحجة أن هذا السلاح لن يخدم حصرية المصلحة الأميركية. ما يعني بشكل مباشر أن «شرعيّة» الكيان الإسرائيلي بالنسبة إلى الإدارة الأميركية تتوقف على حصرية تأديتها لمهامها كرأس حربة استعمارية في المنطقة.
هكذا تكون «إسرائيل» هذه قاعدة عسكريّة متقدمة لأميركا، لا أمة متكاملة بحدودها الجغرافية الواضحة ومحدداتها الثقافية التي بنتها الأحلام والصراعات والهوية قبل كل شيء. كما تنزع الحقائق هذه كامل الغطاء الإنجيلي والتوراتي الذي منح للكيان من اليمين الأميركي المتطرف طوال العقود الماضية، فالقصة لا علاقة لها بنبوخذ نصر والأهرامات والرومان وكل حكايا صهاينة الغرب وتأويلاتهم لتاريخ منطقتنا. لا «أمّة» إذاً ما وراء الحدود، بل شتات من لاجئ أوروبي أراد أرضاً خصبة ومالاً، وآخر هارب من موت النازية وما بينهما من مدّع لليهودية وكم كانوا كثراً في زمن الهجرة إلى فلسطين.
هكذا تراها (أي إسرائيل) تضيع في إعادة التدوير السياسي القائم اليوم في واشنطن لسياسات القرن الماضي. ترى اليمين الانعزالي، ممثلاً بفريق الرئيس ترامب، يعيد الأمور إلى المربع الأول، أميركا أولاً، وإن وقفت «إسرائيل» في طريق مصلحة أميركا ستفقد تلقائياً مكانتها لدى واشنطن ولن تعود «المحظية» المفضلة لها في العالم. وكذلك في البيت الديموقراطي الذي يقوده بايدن، صانع نظرية الربط ما بين قيام الكيان وتأديته مصالح واشنطن، إذ باتت هوامش الكيان تضيق في التعامل مع هذا الفريق. الديموقراطيون منشغلون بصراعات الأعراق والهوية الجنسية وحرية الهجرة، وربما لا مكان لإسرائيل في قلب هذه المعركة، على الأقل في الأشهر التالية التي تسبق الاستحقاق الانتخابي الرئاسي.
هكذا يكون السيّد نصر الله، يوم خرج للناس بنظرية «بيت العنكبوت»، قد أسّس لفهم جديد للصراع. «إسرائيل» هذه كيان بلا قلب يواجه أمة على قلب واحد. الفارق النوعي بالتسليح يردم مع المال والعمل والاستثمار الذكي. الفارق النوعي في مستوى المعيشة يقابله عمل وتنويع للمصادر وتقوية للمجتمعات المحلية على خطوط المواجهة. الاختلاف في التحالفات وكون الكيان تحت عباءة الغرب يقابله العبور إلى الآخر والنقاش والحوار، وصولاً إلى التحالف وبناء «المحور» كما يحصل اليوم. «الشتات» العربي - الإسلامي أضحى جسوراً عابرة من طهران إلى بغداد فالشام، ثم بيروت وصولاً إلى صنعاء وما بين هذه العواصم جميعها من أمّة تذوّقت طعم الوحدة وبدأت تراكم أحلاماً وإنجازات.

* صحافي