لعل من أهم وأخطر نتائج عملية «طوفان الأقصى»، في 7 تشرين الأول الماضي، أنها كشفت، بالكامل، إلى العلن والضوء، ما كان يُعدُّ ويحضّر في الغرف السُّود: في كل من واشنطن وتل أبيب خصوصاً. بيد أن هذا الانكشاف نسبي. وهو، بالتالي، لم يكن خافياً كلياً، وليس مفاجئاً تماماً. كان ثمة ضباب، كثيف أحياناً، من المؤامرات والمناورات والأضاليل، ما أدى إلى تحقيق خطوات مهمة وخطرة في نطاق المخطط الأميركي الصهيوني للسيطرة على المنطقة بكل ثرواتها ومصائرها. إعلان انضمام السعودية إلى المطبّعين، قبل بضعة أشهر، شكل العنصر الأكثر خطورة وأهمية، لما تمثله المملكة من وزن اقتصادي وجيواستراتيجي وروحي (بسبب وجود أهم الأماكن الإسلامية المقدسة فيها).العامل الأكثر مفاجأة، في الواقع، كان عملية 7 أكتوبر: بضخامتها، وإتقانها، وسرعتها ومكاسبها. لكنها، جاءت أيضاً، حلقةً انعطافية في نطاق استشعار الشعب الفلسطيني للخطر الداهم. وهو استشعار بدأ في الضفة (في جنين خصوصاً). ثم في غزّة المخنوقة والمحاصرة والتي تمكَّنت، مع ذلك، بصحة الموقف والتحضير والعلاقات، من أن تكون هي صاحبة المبادرة والفعل والإنجاز الأكبر.
«طوفان الأقصى» دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي، منفعلاً ومهدداً و«معترفاً»، للقول: «سنعيد رسم خريطة الشرق الأوسط»! هنا تكمن القضية الأساسية! حضور قادة «الأطلسي» الكبار، وفي مقدمهم بايدن وأركان إدارته، وضع الخطوط التنفيذية «الطبيعية» للرد الذي تجاوز غزة إلى فلسطين كلها، وتجاوز فلسطين إلى المنطقة جميعاً. هكذا كان الأمر بالنسبة إلى مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي أداره بوش الابن و«المحافظون الجدد»، بعد احتلال العراق ومن خلاله، والذي كان يشمل المنطقة الممتدة من موريتانيا إلى باكستان. وهكذا كان الأمر أيضاً، بالنسبة إلى مشروع «صفقة القرن»، صيغة الرئيس ترامب، المتحدية والوقحة، لذلك المشروع! «الشرق الأوسط الكبير» استند إلى «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» لعام 2002. كانت أولى خطوتَيه احتلال أفغانستان، ومن ثم العراق في ربيع عام 2003. في السياق، تم تهديد سوريا من قبل واشنطن. غزت إسرائيل لبنان عام 2006 في محاولة لتصفية المقاومة فيه. بعد ذلك، كانت التغييرات التي انطلقت باسم «الربيع العربي» باستغلال واشنطن أزمات متعددة (تتحمل مع أتباعها مسؤولية حصولها وتغذيتها): سياسية واقتصادية وإدارية، فضلاً عن الفساد والنهب والقمع والاستبداد... من أجل خلق «فوضى خلاقة». في السياق نفسه، وبسبب مقاومة الاحتلال الأميركي وتعثره، كانت «الخلافة الإسلامية» و«داعش» التي ما زالت تُستغلّ، حتى اليوم، وسيلةً «نقّالة» لتبرير الاحتلال والتدخل الأميركيين: سياسياً وعسكرياً ومخابراتياً... تمكنت واشنطن، في المحصلة، رغم خسائرها واضطرارها إلى الانسحاب غير المشرِّف من أفغانستان والعراق، من نشر الفوضى والانقسامات والحروب، ومعها الشلل والخسائر والتعطيل والنزف في دول: العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن...
مخطط تل أبيب وواشنطن هجومي وشامل. كل تجاهل لهذه الحقيقة هو من قبيل ذرّ الرماد في العيون


من جهته، ذهب ترامب مباشرة إلى إلغاء بعض الخطوط الحمر الأميركية وليس العامة فقط. اعترف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني. اعترف بـ«يهودية» الدولة الإسرائيلية وبضم الجولان السوري المحتل. فرض خوة على الحماية الأميركية: من السعودية إلى أوروبا (وهو يلوّح بها، الآن، مجدداً!). في السياق، دفع التطبيع الخليجي، مع الكيان الصهيوني، خطوات كبيرة إلى الأمام. إلى ذلك، هو توسّع في سياسات الحصار والعقوبات والتطويق (ضد سوريا)، والإفلاس (ضد لبنان)، وابتزاز دول الخليج والمشاركة في القتل والاغتيالات وتغذية الانقسامات وعدم الاستقرار... وواصلت إدارة بايدن كل هذه السياسات (خصوصاً الضغط لتوسيع «التطبيع»)، مع بعض «الروتشة» البسيطة هنا وهناك.
هكذا كان المشهد حين انتقلت الأكثرية التمثيلية، في الكيان الصهيوني، إلى يد مجموعات فاشية متطرفة، تولى نتنياهو تشجيعها وتكتيلها في تحالف بقيادته، أمّن عودته إلى السلطة، ويؤمن حالياً حمايته من السقوط، فالسجن! وهي واصلت السياسات السابقة، مضيفة إليها الإرهاب المباشر، والتنكُّر لكامل حقوق الشعب الفلسطيني، وتوسيع سياسة الاستيطان والإرهاب والتمييز العنصري والتصفية، وتنفيذ استفزازات وإطلاق التهديدات المتكررة ضد السلطات الإيرانية، كل ذلك بدعم أميركي وتخلٍّ رسمي عربي موزع بين العجز والتواطؤ والخيانة. وحين حصلت عملية «طوفان الأقصى» في غلاف غزة، سارع نتنياهو إلى تحويل محنته إلى فرصة، من خلال الحرب عليها، واستحضار ودفع المشروع الصهيوني إلى مداه الكامل «الميعادي» (من النيل إلى الفرات) الذي «صار تحقيقه وشيكاً» كما أكّدت السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون. كذلك استحضر بايدن «الصهيوني» وبلينكن «اليهودي» (كما وصفا نفسيهما!) مشروع الهيمنة الأميركية: في صيغة جديدة وبأشد أدوات الخداع والقتل والإبادة والتهجير والتجويع... وأكثرها إجراماً ووحشية وفاشية وعنصرية!
مخطط تل أبيب وواشنطن هجومي وشامل. كل تجاهل لهذه الحقيقة هو من قبيل ذر الرماد في العيون. نتنياهو أعلن الحرب لـ«تغيير خريطة الشرق الأوسط»، وليس فقط لتدمير المقاومة الغزاوية. بايدن أشهر ذريعة «حق الدفاع عن النفس»، تحرسها الأساطيل الأميركية والغربية والمساعدات الهائلة من كل نوع. الوزير بلينكن يواصل لقاءاته لبلورة وإدارة الخطوات العملية المنسقة ما بين تل أبيب والمطبعين العرب والقدماء والجدد، ومن أجل أن يكون «اليوم التالي» أميركياً صهيونياً، بالدرجة الأولى. آخر الحلقات، لحماية استمرار العدوان، حتى «سحق حماس» والمقاومة عبر حرب الإبادة والتهجير والتجويع، استخدام حق النقض الأميركي في مجلس الأمن، مرة ثالثة (منفردة!) ضد المشروع الجزائري يوم الثلاثاء الماضي.
لكن، رغم ضراوة ووحشية وهمجية العدوان وشمولية أهدافه، ورغم الدعم الهائل، من قبل واشنطن وأتباعها دولياً وعربياً، ورغم الآلام والخسائر، فثمة مقاومة فلسطينية (خصوصاً في غزة) بطولية ومدهشة للاحتلال ولمشروعه ولداعميه. كذلك ثمة مقاومة غير فلسطينية، ولو غير شاملة، مكّنت من عدم استفراد المقاومة في غزة. إن تعدد الجبهات ليس رداً هجومياً، بل هو، في حقيقة الأمر، توسيع لنطاق الدفاع، في وجه هجوم بربري ذي أهداف شاملة. سيكون، من قبيل الخطأ الفادح تصنيف كل دعم، وخصوصاً في المجال العسكري، خارج نطاق الفعل أو رد الفعل الدفاعيين والمشروعين عن النفس. من الشائع (والمعيب) أن يتواطأ مع الصهاينة أتباع واشنطن، أنظمة وقوى سياسية أدمنت الالتحاق بالسياسات الأميركية والاستعمارية. أما تردد وارتباك قوى وطنية تحررية، فهو أمر غير مبرر وغير مفهوم خصوصاً من قبل بعض يساريين يتصرفون، منذ الانهيار السوفياتي، كأنهم كانوا مجرد أتباع للسلطة السوفياتية: فإذا سقطت سقطوا!
لا موقع طبيعياً وصحيحاً للقوى الوطنية والقومية التحررية غير ذلك الذي يقع في صلب مواجهة مشروع الاغتصاب والتوسع الصهيوني، ومشروع الهيمنة الأطلسي على الشرق الأوسط وعلى العالم، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

* كاتب وسياسي لبناني