ليس من المبالغة القول بأنّ السابع من أكتوبر فجّر كلّ أشكال التناقضات التي قامت عليها العشريّة الأخيرة في العالم العربي. فالحدث، على ضخامته، بدا جليّاً أنّ آثاره لن تنحصر بجغرافيا فلسطين، بل ستأخذ في دربها أسس الواقع العربي الممتدّ حتى فجر السابع من أكتوبر. ولعلّ أبرز الأسئلة التي لا تزال تحاصر العقل العربي مهما اختلفت توجهاته هو سؤال العجز الذي يتردّد تبسيطاً بهيئة: هل الشعوب العربية عاجزة أم متخاذلة؟وجوهر هذا التساؤل ينبع من الصورة التي زُرعت خلال العقد الأخير عن «حراك» الشارع العربي والمعروفة بـ«الربيع العربي»، بحيث تظهّر للمشاهد العربي، والفلسطيني خصوصاً، مشهد خروج «الشعوب» العربية بمختلف أشكال المواجهة لتحقيق ما ادعّي حينها بأنّه كرامتها وحقوقها. ولم ينفع شيء في ردع «الشعوب» عن الانتفاض والمواجهة والتضحية لتحقيق مطالبها. أمّا اليوم، وبعد أكثر من 120 يوماً من أبرز صفحات الإبادة الغربية بحقّ الشعب العربي الفلسطيني، ورغم المناشدات اليومية من الفلسطينيين أفراداً وفصائل وقيادات، يعمّ الهدوء أغلب الميادين التي شكّلت ظاهرة الربيع العربي، اللهم ما عدا بعض الضجيج لمشاركات المنتخبات العربية في كأس آسيا وكأس أفريقيا. فهل هي المصادفة؟
في الواقع، لا يمكن فهم حالة «الشلل» التي أصابت الجزء الأكبر من الأمة العربية بدون مراجعة حقيقية للظروف الموضوعية التي سبقت لحظة الامتحان التاريخي. فالإنسان العربي فجر السابع من أكتوبر لم يولد من العدم، بل هو نتاجٌ لمنظومةٍ إعلاميّة-ثقافية-سياسية شكّلت وعيه للذات والعالم ولأدوات الممكن والمستحيل، في إطار اجتماعي يعرّف بخصائص محدّدة يمكننا أن نسمّيه اختصاراً «إنسان الربيع العربي».
وإنسان الربيع العربي شخصية مركّبة تقوم على الدمج ما بين الاهتمام بالشأن العام والتعامل مع هذا الشأن من منظور الفرد بسياق انفعالي موجّه من أذرع إعلاميّة متنوّعة الأشكال تحت شعارات برّاقة متناقضة مع تفاصيل الواقع. ودور الإعلام في تشكيل إنسان الربيع العربي، وإن كان جليّاً، يحتاج إلى بعض التفصيل. من المعروف أن طفرة الإعلام العربي المموّل من رأسمال النفط العربي المنهوب أميركياً، سواء القطري أو السعودي أو الإماراتي، انتقل من مرحلة احتكار الفن والثقافة والرياضة إلى احتكار صناعة الخبر وصناعة الوعي، من خلال السطو على مراكز الدراسات وإنتاج نخب أكاديمية وإعلامية تقليدية و«حديثة» على شكل «مؤثرين» يجذبون جمهورهم إلى أجندة التمويل نفسها. ومن هذا الباب، يمكن فهم دور قناة «الجزيرة» وفروعها ومراكز الدراسات المرتبطة بمموّليها والمؤثّرين الدائرين في فلكها في صناعة «الخبر» ومعالجته وتحليله ثمّ تقديمه للمتابع بهيئة معلومة «fast food». وقد تمكّنت هذه الجهات خلال العقد المنصرم من احتكار ما هو أبعد من صناعة الخبر، وصولاً إلى احتكار صياغة التاريخ والأرشفة والنخب والفضاءات التقليدية والافتراضية.
من هنا، نجح إعلام القواعد العسكرية الأميركية في زراعة بذور «الانفعالية» في عقل إنسان الربيع العربي، الذي بات يتابع قضاياه المحلية والقومية، وحتى قضايا أخرى، من بوابة المشاهدات الرمضانية المليئة بالتشويق والإثارة وقصص الخير والشر. وإذا ما راجعنا التعبئة الإعلامية المرافقة لموجات الربيع العربي، سنجد أغلب المنظّرين يردّدون مصطلحات مثل «العفوية» و«ثورات الفايسبوك» و«ثورات بلا قيادة» في تعمية مقصودة عن مجريات الأحداث ومسؤوليات الأطراف فيها. فبينما كان حلف «الناتو» يقصف الليبيين ويدمّر البنى التحتية للبلاد، كان إنسان الربيع العربي يهلّل لسقوط القذافي. وبينما كانت «داعش» و«جبهة النصرة» وأخواتهما تعيث تقسيماً وإجراماً في العراق وسوريا ولبنان تنفيذاً لخطط غرف الإدارة الأميركية المموّلة خليجياً، كان ثوار الفنادق في الدوحة وإسطنبول وسواهما ينظمون الأشعار حول «ثورة الحرية».
مساوئ هذا التضليل تتخطّى حرف البوصلة وقلب الأولويات، لتصل إلى مرحلة تشويه العقل العربي، بحيث تنتج كائنات ببغائية بنظرة مشوّهة إلى واقعها وإلى الحرب المفروضة عليها، تبني مواقفها بناءً على ردود فعل انفعالية حول مشاهد تشبه إلى حدّ كبير خيالات الكهف التي تحدّث عنها سقراط. وانفعالية إنسان الربيع العربي مجديةٌ فقط في المسارات التي ترسمها لها أميركا وممالك تمويل مشاريعها؛ إذ تستطيع أن تحرّك ميادين للاحتجاج إذا شتمت ملكاً أو أميراً، أو إذا تغالظ منتخب ما على حكم في مباراة كرة قدم. لكنّك لن تجد شارعاً واحداً يمتلئ رفضاً لاستمرار دعم الملك والرئيس للجيش الذي يقتل شعبنا في غزة، ولن تجد حراكاً حقيقياً يستهدف القواعد العسكرية الأميركية التي تؤمّن لـ«إسرائيل» ذخيرة الإبادة وخيمة العربدة في الإقليم. وإذا كان الخوف من القمع مبرّراً في العديد من الحالات، إلا أنّ شمولية الخوف على صعيد اجتماعي هي نتاجٌ لفشل المجتمع في اجتراح قوى سياسية واجتماعية جادّة في نشاطها السياسي بسبب تفشّي الانفعالية. وهو ما يردّنا إلى أصل العبث من خلال تسليم العقول إلى إعلام القواعد العسكرية الأميركية في بلادنا. فإنسان الربيع العربي لا يملك تعريفاً بطبيعة الصراع ولا سلّماً لأولوياته، بل هو مجرّد مشتركٍ في قنوات ترفيهية يتفاعل مع حلقاتها ويحدد من خلف شاشاته البطل من الشرير، دون أن يملك حولاً وقوة في مجرى الأحداث.
أمّا الركيزة الثانية التي تقوم عليها شخصية إنسان الربيع العربي، فهي الفردانية، وهي التي عمل الاستعمار وأدواته على تطويرها عبر الأجيال. فمن خطابات اليمين اللبناني إلى شعارات «لبنان أولاً» و«الأردن أولاً»، وليس انتهاءً بالانعزالية الفلسطينية بأذرعها المتنوعة بين «خصوصية الداخل» و«منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد»، كلها تصبّ في خانة تثبيت حدود التقسيم وتعزيزها بهدف تشويه حقيقة الصراع العربي ضد المشروع الصهيوني في المنطقة. وليست صدفة أنّ الدماء التي تسيل اليوم للدفاع عن القضية العربية هي دماء فلسطينية ولبنانية ويمنية وعراقية وسورية، لردع آلة الإبادة الأميركية ومخلبها الصهيوني. فأيّ هديّة تقدّمها لأميركا أثمن من الخطابات الانعزالية؟ وصفة الانعزالية متأصّلة في إنسان الربيع العربي لأنّها انعكاسٌ للفهم المشوّه لحقيقة الصراع في المنطقة والعالم. لكنّها تتطوّر لتأخذ منحى الفردانية، بحيث يتقلّص عالم الإنسان إلى كيانه الذاتي المنسلخ عن محيطه، فينتهي به الأمر باحثاً عن خلاصٍ فرديّ. فيصبح مثلاً تأخّر إطلالة أبي عبيدة قلقاً للمشاهد المتابع تحت ظلال القواعد العسكرية الأميركية، أو تمسي مساهمة حزب الله في المعركة غير كافية للمتفرّج في مدرّج توزيع الخُضر على جيش العدو. يقتنع إنسان الربيع العربي بأنّ العالم يتمحور حوله وحده، وأنّ على الجميع تقديم ما يرضيه ويحقق أمانيه فيما يخصّ ميادين السياسة والمجتمع والثقافة. لكنّ الفردانية هذه لم تأتِ من عدم، بل هي نتاج عقدٍ من تشويه صورة العمل الحزبي وتحطيم منطق العمل السياسي والثورات، بحيث تمّ إقناع إنسان الربيع العربي بأنّ مجرد حمله شعاراً أو مشاركته في تظاهرةٍ كافٍ لتغيير الواقع. وإن لم يتغيّر الواقع (أو تغيّر للأسوأ)، فليس على إنسان الربيع العربي أيّ حرج. فهو يستطيع أن يطفئ الشاشة ويمتعض من النهاية ثمّ يبحث في إعلام القواعد العسكرية الأميركية عن أسباب الفشل (والتي غالباً ستكون القوى المناهضة لأميركا). هذا هو المنطق الذي نشأت عليه أجيالٌ تم تخديرها بمصطلحات «الشعب» و«كلنا مع فلسطين» وسواهما.
بالمختصر، يمكننا ملاحظة أنّ إنسان الربيع العربي كائنٌ يتملّكه العجز حين يتعلّق الواجب بإضرار أميركا والدفاع عن الأمة، لكنّه قادرٌ على اجتراح الحلول وكسر الحدود عندما يتعلّق الأمر بتنفيذ المخططات التي تصبّ في مصلحة الهيمنة الأميركية. وهذه الثنائية وإن بدت على تضادٍّ، لكنّها تبقى تعبيراً عن استلاب أدوات تشكيل الوعي وتأطير الفعل من قبل أدوات أميركا عربيّاً.
لكن، مقابل إنسان الربيع العربي، هناك إنسانٌ عربيٌّ آخر أبى أن يرضخ لحملات الاستلاب والتشويه والتيئيس، فاستطاع أن يجترح نماذجَ للمقاومة والصمود، رغم الحصار والعدوان والمؤامرات. وهذا قد يكون أهم مشهدٍ تقدّمه لنا ملحمة «طوفان الأقصى»، إذ في زمن «النخاسة» السياسية والإعلامية والفنية والثقافية، هناك من لم يتلوّث بسموم الانعزالية والفردانية والانفعالية، وأصرّ على إعادة الصواب لبوصلة الإنسان العربي. وها هي المعركة تكشف عن حقيقتها يوماً بعد يوم، مع كل صاروخٍ يسقط على قواعد الهيمنة الأميركية في بلادنا، وعلى رأسها قاعدة «إسرائيل». وبينما يغرق إنسان عربيٌّ في متاهة البحث عن تبريرات لإغلاق معبر رفح على شعب عربي محاصر، يخوض عربيٌّ آخر معركة فتح معبر رفح بالدم والبارود في مضيق باب المندب. وبينما يغرق إنسان عربيٌّ في إحصاء عدد القواعد العسكرية الغربية في بلاده، يدير آخر جبهات حسّاسة بميزان من ذهب يؤلم به العدوّ ويعطي أهل المقاومة في فلسطين أوراق تفاوضٍ تعوّض حصار الراضخين لأميركا. من يتحدّى أعتى إمبراطوريات التاريخ ومخلبها الأقذر عبر العصور ليسوا ملائكة ولا أنبياء، بل هم عربٌ أدركوا حرب الإبادة المفروضة عليهم، فثبتوا على حقّهم في الكرامة والحرية وحفروا في الصخر لينبتوا بأساً يردّون به طغيان الأعداء.
قد يكون في الكلام قسوةٌ لا يتقبّلها البعض، لكنّ عظمة دمنا المسفوك ظلماً على كلّ جبهات فلسطين يقتضي رفع كلّ الكلفات، ورُبّ صفعةٍ تنقذ العقول وأرواح الأبرياء من خلفها. وإن لم يكن الأثر آنيّاً، فلتسلّم الراية مطهّرةً للأجيال القادمة، ولأجل هذا:
على «إنسان الربيع العربي» أن يموت لينمو في مكانه «إنسان طوفان الأقصى».

* كاتب فلسطيني