تعددت المواقف والآراء من قبل متابعين وسياسيين ومواطنين على خلفية قرار محكمة العدل الدولية بشأن الدعوى ضد الكيان الصهيوني من دولة جنوب إفريقيا لجهة ما اقترفته «إسرائيل» من إبادة جماعية.
آمال على غير العرب
كان الفلسطينيون قد علّقوا آمالاً كبيرة على هذه المحكمة لإنصافهم في مظلوميّتهم ومعاناتهم من قتل الآلاف وتدمير مقوّمات الحياة في غزة، وترحيلهم إلى مناطق الجنوب لإرغامهم على الهجرة القسرية، وممارسة أقصى عمليات الإبادة الجماعية التي نقلتها الصورة على فضائيات العالم، لهذا كان الرهان كبيراً على إنصافهم ووقف العدوان عليهم بقرار دولي ملزم. وفي السياق أيضاً، فإن الشعب الفلسطيني كان قد علّق آمالاً كبيرة على دولة جنوب إفريقيا التي انفردت دون غيرها في رفع دعوى قضائية ضد الكيان لارتكابه الإبادة الجماعية، بعدما عجزت الأنظمة العربية وتخلّت عن دورها في نصرة الشعب الفلسطيني، إلا بعبارات الإدانة والاستنكار، وما ندر من المساعدات الإنسانية التي تتحكم «إسرائيل» في إدخالها. فقد فشلت الأنظمة العربية في الحدّ الأدنى من الحراك السياسي والديبلوماسي والدولي لملاحقة الكيان أمام المحاكم الدولية، وذهبت قرارات القمة العربية والإسلامية أدراج الرياح.
وعلى مدى 15 يوماً، كانت الأعناق تشرئبّ انتظاراً لقرار محكمة العدل الدولية، والذي أخذته بالأغلبية الساحقة، إذ خيّب آمال أهل غزة والفلسطينيين عموماً، في وقف الحرب ووقف القتل الجماعي الممنهج، وإنهاء المعاناة التي شارفت على الأربعة أشهر، كون القرار لم يلجأ إلى استخدام وقف إطلاق النار ووقف العدوان، والذي كانت تخافه «إسرائيل»، لأن وقف الحرب عند هذه الحدود كان سيشكل انتصاراً للشعب الفلسطيني في محنته القائمة وهزيمة للكيان الصهيوني كونه لم يحقق أهدافه المعلنة قبل إيقاف الحرب.

غياب الحل... وحصار الكيان
المواطن الذي يكابد أهوال الحرب اليومية، يبحث عن قرار يوقف هذه الأهوال والمجازر والمعاناة، ولا يبحث عن المعاني والدلالات الاستراتيجية لقرار المحكمة ووجود الكيان في قفص الاتهام أمام العالم ومؤسساته القضائية. وفي كل الأحوال، فإنّ هذا القرار، من أعلى سلطة قضائية في العالم، لا يخلو من الإدانة للكيان الصهيوني، ولا يخلو، في مضامينه، من الاتهام والمساءلة والمتابعة، وإلقاء الضوء على الجرائم الإسرائيلية، إذ إن وقوف الكيان في قفص الاتهام، بحد ذاته، هو موقف سياسي وتاريخي لجهة توليده وعياً عالمياً بطبيعة الكيان العنصري والإحلالي والمتهم أمام العالم بممارسة الإبادة الجماعية، بصرف النظر عن طبيعة قرار المحكمة الدولية. فالاتهام أصبح حاضراً في الوعي المجتمعي العالمي، وهو يساوي في مضمونه في الوعي الشعبي العالمي قرار الإثبات والإدانة. ولعل المفارقة التاريخية أن يصبح الكيان اليوم هو نفسه في قفص الاتهام تحت نصوص اتفاقية الإبادة الجماعية، تلك الاتفاقية التي حرّض اليهود وعملوا على إنشائها على إثر «الهولوكوست اليهودي» بغية معاقبة من هم وراء الإبادات الجماعية، إذ بادر البروفسور الحقوقي اليهودي رفائيل ليمكين، الذي فقد عائلته على يد النازيين، إلى إيجاد مصطلح الإبادة الجماعية، وصياغة مضامينها ونصوصها لمعاقبة مرتكبيها، ويدور التاريخ ويمارس مكره ويضع «الكيان اليهودي» في قفص الاتهام تحت اتفاقية الإبادة الجماعية التي شجّع يهود على اعتمادها.
إنّ وجود الكيان الصهيوني في قفص الاتهام أمام أعلى منصة قانونية عالمياً، سوف يهز الوعي العالمي، كما يهز الوعي الإسرائيلي والمعنويات السياسية والنفسية داخل الكيان، ويخلق حالة من الجدل حول مشروعية وصوابية القرارات السياسية والعسكرية التي أوصلت الكيان إلى قفص الاتهام، بما يزيد من حدّة التناقضات على المستوى السياسي والمجتمع، من دون المبالغة أو المراهنة على هذه التناقضات في المدى المرئي. والمحصلة أن صورة الكيان أخلاقياً تصدّعت عالمياً، وصورة الجيش الذي لا يقهر قد تمزقت.

المحكمة ليست خارج التسييس
إنّ أي عملية تقييم لقرار المحكمة الدولية لا يجب أن يتجاوز أن هذه المحكمة معرّضة للضغوط والتسييس في قراراتها، ولن تكون مطلقة النزاهة، وليست بعيدة عن حسابات السياسة العالمية والمصالح الدولية والإقليمية، فالمحكمة بالأصل هي نتاج ميزان قوى عالمي وتوافق دولي على دورها وفعالياتها، فضلاً عن أن قضاتها الموزعين يمثلون دولاً وقاراتٍ ومناطق إقليمية لها مواقفها السياسية ومصالحها العالمية. كما أن هؤلاء القضاة ليسوا آلهة، وليسوا قدّيسين وبعيدين عن الهوى السياسي برغم التزامهم بنصوص القانون المعمول به، فهم أدرى دون غيرهم بتطويع القانون ونصوصه بما يخدم الهدف المراد تحقيقه أو تمريره.
وعليه، فهل كان قرار المحكمة الدولية عادلاً ومنصفاً ونزيهاً، تجاه ما يتعرّض له الإنسان الفلسطيني على مدار الساعة منذ قرابة أربعة أشهر من إبادة جماعية، لا تخطئها العين ولا الضمير. هل قتل ثلاثين ألفاً وجرح ستين ألفاً من المدنيين لا يرقى إلى إبادة جماعية؟ وهل قتل عشرة آلاف طفل ورضيع لا يدخل ضمن عامل النية في التطهير العرقي؟ وهل عملية الترحيل القسري من شمال غزة إلى جنوبها، وتدمير المدن والقرى والمستشفيات ومنع إدخال الأدوية واعتقال الأطباء واستهداف الصحافيين وقتل موظفي «الأونروا»، ومنع المساعدات الإنسانية إلا بما ندر، لا يرقى إلى فصل من فصول الإبادة الجماعية؟
فما الذي يمكن فعله ضد الإنسان الفلسطيني أكثر من ذلك حتى يرتقي إلى مرتبة الإبادة الجماعية؟
• لقد أوضحت دولة جنوب إفريقيا أمام المحكمة كل هذه العمليات في سياق حرب الإبادة. وصحيح أن المحكمة لم تعطِ بعد رأيها الحاسم في الإبادة الجماعية، ولن تقول كلمتها الفصل إلا ربما بعد أشهر وسنوات، إلا أنها كان يمكنها أن توقف، بقرار ملزم، الحرب، عبر وقف إطلاق النار. وهذا ما كانت تتمناه دولة جنوب إفريقيا.
• وعليه، لم تلجأ المحكمة إلى استخدام اصطلاح «وقف الحرب» أو «وقف إطلاق النار» كي تضع حدّاً لسيناريو المذبحة الجارية في غزة، إنما طوّعت القانون باستخدام اصطلاحات يستطيع أن يفسرها كل طرف على هواه. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، أكدت من جديد أنها لا تزال تؤمن بأن مزاعم الإبادة الجماعية لا أساس لها، وأن المحكمة لم تتوصل في قرارها إلى نتيجة بشأن الإبادة الجماعية. كما أنها لم تصل إلى وقف النار - أي أن المحصلة أن الكيان له الحق في الدفاع عن نفسه من دون الخوف من تهمة الإبادة الجماعية.
• وفي الوقت الذي نادت فيه المحكمة بضرورة الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن لدى «حماس»، فإنها لم تلحظ أن الجيش الإسرائيلي قد اعتقل أكثر من ثمانية آلاف وخمسمئة من المدنيين، ومارس عليهم أقصى أشكال التعذيب، وقام بتعريتهم أمام الكاميرات وفضائيات العالم. ولم تلحظ المحكمة أن هناك أكثر من خمسة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال منذ عقود، الأمر الذي يعني أن هناك عبارات وملاحظات ترضية للكيان، ومن دون الالتفات إلى الأسرى الفلسطينيين.
• إنّ المحكمة لم تلحظ ولم تؤكد على ضرورة عودة النازحين قسراً إلى بيوتهم في الشمال، بما يعني أن المحكمة لم تلجأ في قرارها إلى تغيير واقع الحال، وواقع الإبادة المستمرة. فالنازحون يريدون حلاً، ولا يريدون نصاً قانونياً لا يوقف المجزرة المستمرة وعمليات التجويع وشحّ الطعام وفقدان المياه.
• دعت المحكمة إلى اتخاذ جميع التدابير لمنع أي أعمال يمكن اعتبارها إبادة جماعية، لكنها لم تلحظ أو تؤكد أو تشير إلى أكثر من مئة يوم من عمليات الإبادة أو الجرائم الممنهجة السابقة والمستمرة، إذ إنها لجأت إلى التحذير من عمليات إبادة لاحقة، بينما أسدل الستار على تلك الإبادة في غضون الأشهر السابقة، أو أنها لا رأي بشأنها، أو عاجزة عن معالجة ما طالبت به دعوى دولة جنوب إفريقيا.
• كثيرة هي النصوص القانونية التي تحتاج إلى قراءة وتبيان قصورها عن نجدة الذين يتعرضون يومياً للقتل والتدمير الممنهج، ولكن أيّ قراءة لا يجب أن تقلّل من أهمية قرار المحكمة ومضمونها الذي يشي بإدانة الاحتلال والكيان، ويضعه في قفص الاتهام.
• إن معركتنا مع الكيان هي معركة شاملة ومتعددة الأشكال، فالحراك السياسي الفلسطيني، كسلطة وفصائل، هو من أدبيات المقاومة في مواجهة الكيان. فالنشاط الديبلوماسي والسياسي يجب أن يستند إلى كل ما من شأنه أن يدعم القضية ويحاصر الكيان، وأن يستمر الهجوم السياسي والديبلوماسي عبر معركة القانون والشرعية الدولية، بمعزل عن ضعف أو فشل الشرعية الدولية في صيانة الحق الفلسطيني.
وهذا النشاط السياسي والديبلوماسي المقاوم، يفتح، بالضرورة، تحوّلاً في الوعي العالمي للقضية الفلسطينية، حيث هيمنت الرواية الإسرائيلية على العالم، من دون أن تأخذ الرواية الفلسطينية حيّزاً من اهتمام الرأي العالمي، عبر عقود طويلة من الزمن، بفعل عجز الجانب العربي والفلسطيني في تسويق الرواية الفلسطينية وعدالتها التاريخية. إنّ معادلة الكيان في معاركه مع العرب عموماً أن «إسرائيل هي الضحية، وإسرائيل تدافع عن نفسها»، هذه المعادلة بدأت تتغيّر وتنقلب إلى معادلة أنّ الضحية هو الشعب الفلسطيني، والعدوّ هو الكيان. وهذا يستدعي تكثيف النضال السياسي المنظّم والمؤسس والمتحالف مع القوى العالمية المناهضة للاحتلال والعنصرية.

* كاتب فلسطيني