ماذا بعد غزة؟ هذا الحدث قسّم العالم بين زمانين: ما قبل غزة وما بعدها. كما أفرز تحدّيات وجودية تستوجب تفعيل العقل وفهم الواقع ورسم الخطط والآمال. لا بد من قراءة موضوعية تأخذ في الاعتبار البيئة المحيطة بنا، بظروفها ومعطياتها وأخطارها، وتضع في حسابها كل الإمكانات والطاقات والقدرات لتوظيفها في حركة النضال الوطني والقومي والإنساني من أجل بناء حياة جديدة، ترتكز على الدروس والعبر المستقاة من الماضي والتاريخ، تنطلق من ظروف الحاضر وما يكتنفه من صراعات وتحديات ومواجهات واستحقاقات، وتتجه نحو مستقبل يحمل لأجيالنا الحالية والآتية كل الحق والخير والجمال والحرية.
أولاً: حالُ العالم
تحاول بعض النظريات السائدة أن تفسّر وتحلّل متغيّرات حركة التاريخ بأنّها ظهرت نتيجة «صراع الحضارات»، أو «العولمة» على الطريقة الأميركية، أو «نهاية التاريخ» خاصة بعد أن سقطت الشيوعية.
بيد أنّ دراسة موضوعية لواقع العلاقات الدولية واتجاهاتها الاستراتيجية تؤكّد أنّ حالة العالم لا تزال تسير وفق فلسفة «الصراع القومي». لأنّ السياسات الدولية لا تزال تتمحور حول مصالح الأمم والدول والقوميات والهويات، إلى ما هنالك من تسميات تعبّر في العمق عن صراع قومي، على المصالح والموارد والمواقع الاستراتيجية والنفوذ العالمي.
كما أن الصراع القومي لا يمكن عزله عن جواره وبعده العالمي في زمن نشهد فيه تداخل المصالح والعلاقات، فضلاً عن التحدّيات المشتركة، بالإضافة إلى نتائج ثورة الاتصالات والمعلوماتية ونفوذ الشركات المتعددة الجنسيات ودور المؤسسات العابرة للقوميات، ما فرض إيقاعاً جديداً على العلاقات الدولية لا يمكن إغفاله في دراسة حركة الصراع العالمي ومن ضمنه منطقتنا.
حركة التاريخ في العالم اليوم محكومة بصراع قومي بين جهتين:
(1) «أمّة مختارة» تدّعي أنّها تقوم بمهمّة حضارية، حتى تهيمن على سائر الأمم في العالم، وهي لا تعبّر إلا عن مصالحها ومفاهيمها. تمثّلها إدارة الولايات المتحدة الأميركية المتحالفة مع الصهيونية، التي تخدم منافع فئات اجتماعية (كارتلات مالية صناعية طاقوية) لها أطماع مالية عبر السلاح والنفط، يقودها يمين متطرّف عنصري لديه مشروع إمبراطوري استعماري لترسيخ السيطرة الأميركية على الكون، وله جذور أصولية في التوراة والفكر الديكتاتوري الغربي.
(2) تعدّدية قومية واسعة، ذات اتجاهات ومواقع متنوّعة ومتفاوتة ومختلفة ومتناقضة أحياناً، وهي:
أمم ودول كبيرة لعبت تاريخياً أدواراً مهمة على مستوى العالم، ولكنها تسبح في فضاء التأثير الأميركي الذي اتّخذ أشكالاً وصيغاً مقلقة لشعوب هذه الدول، نظراً إلى حالات الاستلاب الكامل لهذه الأمم والدول وارتهانها للسياسات الإمبراطورية الأميركية.
أمم وشعوب متقدّمة ناهضة تسعى إلى تحسين مواقعها في إدارة النظام العالمي الجديد الذي لم يتشكل بعد، وهي تشعر بخطر الهيمنة الأميركية وسياساتها حول العالم، وتسعى إلى الدفاع عن مصالحها القومية وحمايتها، وإعادة التوازن السياسي المفقود حول العالم (روسيا، بعض الدول الأوروبية الغربية، الصين، اليابان،... وغيرها).
أمم صاعدة في طريق النهوض من أجل الدفاع عن هويّتها وحقّها ومصالحها ودورها في المشاركة بإبداعات إنسانية جديدة قائمة على العدالة والمساواة والحرّية، خاصة بعد أن انحرفت الحضارة في الغرب واقتصرت على البُعد المادي، ما يشيّئ الإنسان (مثل: بعض دول أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا من البرازيل إلى الهند إلى فنزويلا إلى إيران وغيرها).
أمم ضائعة تائهة مهدّدة في كينونتها ووجودها، وتتعرض لمؤامرات داخلية وخارجية أغرقتها في التبعية، نتيجة التخلّف والتجزئة والقمع والانقسامات الإثنية والطائفية والقبلية، ولا تزال تعيش في حقبة ما قبل القومية بتجلياتها الواضحة والحقيقية. ويقع العالم العربي –في الواقع – على رأس قائمة هذه الدول، مع فارق أن المشرق يواجه أيضاً مشروعاً صهيونياً إحلالياً توسعياً يهدف إلى ترسيخ «الكيان الصهيوني»، وتوسيعه وفرض سيطرته على كامل المنطقة وما نتج عن كل ذلك من حرمان الفلسطيني خاصة من أبسط حقوقه في الحياة الحرّة الكريمة، حيث يمارس الاحتلال الصهيوني أقصى أنواع الإرهاب والإذلال والظلم والقهر والتمييز العنصري عبر تهويد الدولة وطرد السكان الأصليين. وكل ذلك، يتزامن مع دعم دولي غربي وأميركي لهذا الكيان بكل ما يمثله من همجية وعدوان وظلم واحتلال، وما نشهده اليوم من حرب عالمية ضد غزة يؤكد هذا السلوك.
هذا النمط غير المسبوق من الحروب يتطلّب منا دراسته وفهمه وتحليله وتفكيك طرق عمله، من أجل التصدّي الناجح له بأساليب وخطط مبتكرة وخلّاقة تُجاريه في التقنيات، لا بل تتفوّق عليه


ثانياً: الحروب الأميركية الجديدة
يشهد العالم اليوم تراجعاً لتأثير وهيمنة القوّة العظمى الأميركية الأُحادية في إدارة شؤون العالم (خاصة بعد تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي أفلست العالم عام 2008، ما أدّى إلى بداية سقوط الليبرالية كنظام اقتصادي حاكم للعالم). ذلك بعد أن كرّست الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وعلى مدى عقدين، القوّة العظمى الوحيدة المتحكّمة بالعالم. وعمّمت منطقها بالحروب الاستباقية، وتجاهلت السيادة القومية للدول واعتمدت مبدأ التدخّل تحت مبرّرات إنسانية كاذبة فارضةً عولمتها، وحوّلت الأمم المتّحدة ومؤسّساتها إلى تابع يشرعن ويغطي سياساتها، فانخرطت في حروب أدّت إلى تدمير مجتمعات وتقسيم دول وتهميش أخرى. وقد نتجت عن هذا حالة عالمية جديدة سِمتها الفوضى والفساد لخدمة الرأسمالية المتوحّشة الجشعة. وهي قد لجأت إلى حروب سرّية جديدة تقوم بها بواسطة «القوة الناعمة» والحروب بالوكالة، التي تعتمد على جيوش المرتزقة والمنظمات الأمنية الخاصة والعقوبات الاقتصادية والمالية.
جاء صعود قوى كبرى عالمية وإقليمية جديدة، رفضت هذا النهج وسعت إلى فرض تعدّدية قطبية تحدّ من التفرّد الأميركي، لينجح في إعادة التوازن إلى العالم، ما أدّى أيضاً إلى اشتعال حروب باردة جديدة تهدّد العالم بأسره. فضلاً عن أنّ استفحال المخاطر البيئية والصحية، وتفشّي المافيات والقرصنة والاحتكارات العابرة للدول، قد بات كل ذلك يهدّد وجود الدول القومية الديموقراطية، التي ما زالت ضرورة وحاجة حضارية إلى تحقيق النهضة والمساواة وصون حقوق الإنسان. ومن أشكال الحروب الجديدة التي تشنّها الولايات المتحدة ضد معارضيها في العالم، تدمير وإفقار وتفكيك المجتمعات، بواسطة استعمال سلاح الإعلام الجديد الفتّاك وتسخير مؤسّسات المجتمع المدني. وتحت غطاء نشر الديموقراطية تعمل على زرع الفتن وإغراق الإنسان في فردانية قاتلة تحوّله من قيمة إبداعية حرّة إلى وسيلة وشيء أنانيّ، تدمّر وتفكّك بواسطته البنى الاجتماعية والثقافية والأخلاقية وتعطّل القدرة على التفكير والنقد والتطوير والتغيير البنّاء.
وهذا النمط غير المسبوق من الحروب يتطلّب منا دراسته وفهمه وتحليله وتفكيك طرق عمله، من أجل التصدّي الناجح له بأساليب وخطط مبتكرة وخلّاقة تُجاريه في التقنيات، لا بل تتفوّق عليه.

ثالثاً: خطة المواجهة
البداية بالتنسيق الوثيق بين جميع الدول والمنظّمات والحركات والقوى العالمية المتضرّرة من السياسات الأميركية. هذه السياسات المعادية لحقوق كل شعوب الأرض وسيادة دولها، والمعبّرة عن الهيمنة القومية الأميركية العدوانية على العالم والتفرّد بإدارته. هذه النزعة هي التجسيد السلبي للعولمة، بينما التجسيد الإيجابي للعولمة هو عبر تعميم المعرفة البنّاءة المفيدة، وعبر الحوار والتفاعل والتكامل الإيجابي بين الحضارات.
تعزيز التعاون مع البرازيل وروسيا والهند والصين وأفريقيا (ودول «البريكس») وإيران، بالإضافة إلى دول أميركا اللاتينية وسائر الدول الساعية إلى الاستقلال عن هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها.
تعميق معرفتنا بالمجتمع الأميركي وتوزُّع قواه وطبيعة العلاقات بين مراكز القوى فيه واتجاهات الفئات التي تكوّن إدارته. والعمل على تغذية التناقض بين السياسات الأميركية المتحالفة مع الكيان الإسرائيلي والمعادية لبلادنا ومنطقتنا، وإبراز مخاطر تفرّد الولايات المتحدة الأميركية بإدارة شؤون العالم وخضوعها للنفوذ الإسرائيلي والصهيوني.
الحوار مع الاتجاهات التي تتفهّم مصالحنا وتعي خطر تأثير اللوبي الصهيوني على أغلب الأطراف في إدارتها. على مواطنينا في الولايات المتحدة العمل على شرح حقنا القومي وتحصينه من ضمن إنشاء لوبي منظّم يدعم قضيتنا.
يبدو حتى الآن أن أوروبا لا تستطيع أن تقيم توازناً عالمياً مع أميركا لأنها تابعة لها، إضافة إلى أن جزءاً من بلاء أمّتنا هو من الاستعمار الأوروبي قبل الأميركي. كما أن التطورات تشير إلى أن أوروبا سائرة إلى التفكك والضعف وباتت تسمى القارة العجوز - لذلك مطلوب الاتجاه نحو الشرق مركز الثقل الاقتصادي الأول والمشاريع الاقتصادية الكبرى. لكن هذا لا يمنع من تعزيز العلاقات مع الدول والقوى الشعبية والسياسية الأوروبية المستقلة والمتضامنة مع قضايانا من أجل قيام توازن عالمي يحدّ من التفرّد الأميركي في إدارة شؤون العالم. ومن أجل تحقيق هذا الهدف يجب العمل على إنشاء «منتدى المتوسط» من أجل تنظيم المؤتمرات والمبادرات واللقاءات لتعميق العلاقات مع أوروبا خاصة، وإنّ بعض رواد النهضة اعتبروا منطقتنا جزءاً أساسياً من أمم المتوسط. وعبر «منتدى المتوسط» يمكن التواصل العملي مع القوى الحيّة والتعاون مع القوى المؤيّدة لحقوقنا القومية ومصالحنا في دول المتوسط التي تسعى إلى عقد شراكة في ما بينها.
المطلوب إسقاط الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوف النقد وغيرها من المؤسسات الدولية التي تمارس الحرب الباردة من خلال أدواتها للسيطرة على الأمم والشعوب والعمل من أجل إعادة هيكلة مجلس الأمن ليخدم عالم التعددية القطبية، وهذا ما تسعى إلى إنجازه روسيا والصين وغيرهما. والعمل أيضاً على إصلاح الأمم المتحدة وتفعيل دورها للوقوف في وجه التفرّد الأميركي. وكذلك ممارسة الديموقراطية الحقّة المعبّرة عن هوية وتطلّعات الشعوب تستوجب ذلك، لتكون إطاراً عالمياً يصون الحقوق والمصالح والسلم عالمياً.
بلورة صيغ متقدّمة للتنسيق بين الدول العربية، بعد أن أفلست العروبة الخيالية وتراجعت مختلف مدارسها. فقد بدأت تبرز ملامح العروبة الواقعية عبر بلورة صيغ عملية، من اتحاد المغرب العربي، إلى مجلس التعاون الخليجي، إلى التنسيق بين مصر والسودان نتيجة وحدة المصالح على مجرى نهر النيل، وصولاً إلى سوق مشرقية، على أن تتفاعل وتتكامل في جبهة عربية متحدة.
علينا الدفع باتجاه هذه الصيغة كخطوة عملية لإصلاح الجامعة العربية وإعادة إحياء دورها. واليوم هي ضرورة أكثر إلحاحاً لمواجهة مشاريع «الشرق أوسطية» التي تطلّ علينا أحياناً من «الكيان الصهيوني» وأحياناً أخرى من الإدارة الأميركية بهدف طمس الهوية القومية واستباحة مصالحنا ومواردنا والتنكّر لحقوقنا. السعي الحثيث إلى قيام جبهة عربية شعبية عريضة، تضمّ القوى الرافضة للتطبيع، والمواجِهة للهيمنة الأميركية والمقاوِمة للاحتلال الصهيوني.

الخلاصة
التحدّيات عالمية وقومية وهي وجودية مركّبة. كما أن المواجهة مصيرية ولها أبعاد متعددة. لذلك لا بدّ لنا من تفعيل نهضة جذرية شاملة لإقامة نظام جديد وطني ديموقراطي مدني علمي. وإطلاق مقاومة قومية واعية جامعة لصدّ الاحتلال والهيمنة والإعصار الظلامي الإلغائي. وهذه الحالة تتطلب الحوار والإبداع من أجل صياغة رؤية حضارية أخلاقية عملية قادرة على الفعل وبناء الزمن الآتي.

* كاتب وناشر لبناني