يرى خبراء علاقات دولية أكاديميون مصريون أن مصر تطبق نظرية «التحوّط الاستراتيجي»، أي الكُمون، إقليمياً ودولياً، منذ عام 2013، تحت ضغط الوضع الاقتصادي والمالي، ومع تعقّد دوائر الصراع الإقليمي بتشابكاتها كافة، ودوائر الأمن القومي العربي والمصري.
لعلّ من هنا جاءت الاستجابة المصرية السريعة الوحيدة، عام 2020 بشأن ليبيا، والتلويح باستخدام الطيران لمنع احتلال الجماعات الحليفة لتركيا لشرقها؛ انعكاساً لإدراك الإدارة تواضع دور مصر في السودان وسوريا واليمن والعراق، واحتياجها وضع حدّ أقصى لهذا الكُمون، وخاصة في شرق ليبيا حيث صلة الاستخبارات الوثيقة بالرؤوس القبلية، وعلاقات التعاون الاستراتيجي والمصاهرة الشعبية، واتّجاه غربها حيث يمكن استخدام اليد العسكرية بسند قانوني دولي، ودون خط أحمر أميركي أو ناتوي مضادّ، بعد استفزاز عسكري تركي في البحر المتوسط.

استجابة محدودة وتحدّيات أخطر
لم يكن خط سرت - الجفرة الأحمر تطوّراً نحو المبادرة أو الحركية الخشنة، ولم يتبعه كسر لأي من عتبات حدود دور مصر الحالي. وبدا أنها لا تسعى إلى ضربات كبيرة وتفضّل الفوز بالنقاط، إجمالاً، وعلى تركيا ارتكازاً على ملفّات مثل الطاقة والأمن، والدور المصري في غزة، الذي لم يشهد نقلة نوعية بعد عدا المشاركة في إعادة الإعمار، جوار المال القطري. إلى أن جاءت المصالحة الخليجية مع قطر، ومبادرة الخليج لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية، ثم التحوّل النوعي لدور الإمارات في السودان باشتعال قتال الجيش و«الدعم السريع».
جلّى كل ذلك التحاقاً بالخطوات الخليجية وإيقاعها، بموازاة اعتمادية متزايدة على ودائع واستثمارات الخليج. ومحصّلة سلبية تنعكس مثلاً في التعنّت الإثيوبي بملفّ مياه النيل، وإتمام الملء الرابع دون استماع للاحتجاج المصري، وهجوم «الدعم السريع» على قاعدة مروي واحتجاز جنود مصريين، وأخيراً إعلان أميركا مشروع ممر اقتصادي يربط آسيا بأوروبا عبر الخليج والشام، بشراكة الهند والسعودية والإمارات وإيطاليا.
يحمل مشروع الممر، الذي ينطلق من الهند، إشارة سلبية واضحة لمصر، التي تعزز حصرية معبر قناة السويس مكانتها ونفوذها التقليدي. مع تقديرات خبراء أن مسارَي السكة الحديدية والبحر للبضائع، محلّ مذكرة التفاهم الأميركية المعلنة بالتزامن مع لقاء السيسي وإردوغان بقمة العشرين الماضية، قد يختصران بالفعل وقت النقل بين القارتين مقارنةً بقناة السويس. بينما لم تزل مصر معتمدة على الأخيرة مصدراً مضموناً – بالمطلق - للنقد الأجنبي، بعد تحويلات العاملين بالخارج.
بدا اللقاء فاتراً، برغم تفاهمات اقتصادية سبقته بنحو شهر في خلال زيارة وفد وزاري رفيع لتركيا. ومثّل حضور مصر القمّة، مع عودة إجراء مناورات «النجم الساطع» مع الولايات المتحدة ودول «الناتو»، تأكيداً لموقعها في محور الاعتدال العربي، بعد انضمامها المبدئي لكتلة «بريكس»، الذي يصعّد أهميته انضغاطها الحالي بأزمة نقد أجنبي وواردات كبيرة، ما فرَض وقتها - عند عموم المصريين والخبراء - سؤال الاتجاه بالاقتصاد شرقاً، الذي تجيب عنه الإدارة المصرية عملياً بحفظ موقع ثابت في الجانبين، الغرب و«بريكس»، مثل السعودية والإمارات والجزائر.

معضلة الاقتصاد والاستراتيجيا
السؤال يثيره كذلك هيكل الواردات المصري وعجز الموازنة الحالي، والتضخم، ومعضلتا تكوين رأس مال ثابت والتوطين التقني لزيادة الصادرات، في توقيت يعصف باقتصاد دول الأطراف إجمالاً لا مصر فحسب، ودول شبه الأطراف حيث تكافح تركيا، مثلاً، موقف صعب لكن بصادرات معتبرة، وبنية صناعية واسعة تقي الاقتصاد والسوق المحلّي التقلّبات الأعنف، وإن لم تبلغ تطور دول المركز الرأسمالي.
فارقٌ تعكسه دعوة مصر رأس المال التركي (شاملاً مصرفاً حكومياً كبيراً) للاستثمار الصناعي فيها، في مجالات مثل مدخلات صناعة السيارات، والأجهزة المنزلية والمستحضرات الطبية. بخطتها للعام المالي الجديد، التي تحاول توسيع استثمارات القطاع الصناعي والصناعات التحويلية، مع ميل للميزان التجاري الثنائي لمصلحة تركيا، في الكمّ، وفي النوع، إذ تحتلّ الآلات والحديد والصلب قمّة صادرات تركيا، مقابل الوقود والزيوت والمواد البلاستيكية من مصر.
عكْس شرق ليبيا، لم تمتلك مصر أوراقاً معتبرة للفعل في باقي نقاطها الحيوية، وكان الانعكاس الأوضح الاتّجاه الإفريقي، السوداني والإثيوبي. لم يصعب التنبؤ بأزمة الحكم السودانية، بدءاً من 2018، وأمام تعقّد الواقع هناك حفظت سقف تحرّكات تقليدي، يرتكز على العلاقة بالجيش وقبائل شمالية، لا أبعد، بينما توسّطت إثيوبيا انتقال السلطة والتفاهمات مع الجماعات المسلّحة، بموازاة تجاهل المطالب المصرية بشأن سدّ النهضة، ومعها وساطة أميركية في عهد ترامب، إلى حدّ قوله إن تجاهلاً كهذا يشرعن استخدام مصر للقوّة.
من جهة أخرى، طوّرت الإمارات نفوذاً متسارعاً في السودان لا ينحصر في رعايتها للدعم السريع، والاستثمارات المباشرة، ويمتدّ إلى القبائل والتحرّكات الانفصالية، وقطاع من النخبة والطيف السوداني المديني الواسع المنخرط بالسياسة. وتعمّق روابطها واستثماراتها بإثيوبيا، بموازاة استغلال فرصة بيع أصول الدولة المصرية لحصد مكاسب كبيرة، لا تعادلها الودائع المالية الإماراتية بالبنوك والمزايا التفضيلية لمصر، التي خفّ وزنها وباتت بلا أثر كبير، أمام استحقاقات الديون وعجز الموازنة.

بعد «الطوفان»
انطلق «طوفان الأقصى» إبان انشغال الإدارة المصرية بانتخابات الرئاسة، ذات التعددية السابقة التجهيز، إذ تحاول إنتاج وجه جديد لها، أكثر مؤسسية وديموقراطية وفق تصورها. يصدّر سرديتها للتغيير السياسي التدريجي الآمن، بديلاً للتحوّل الديموقراطي الفوري: المطلب الغربي التقليدي الذي تجاهلته لعشر سنوات. استنفدت رصيدها من «الدعم الاقتصادي»، الدين الخارجي طويل المدى، ومن الغطاء السياسي أي الشقّ الخارجي - الدولي لشرعيتها، بفعل هذا التجاهل. لذلك، شارك ثلاثة مرشحين الرئيس، وجاءت نسبة المشاركة أعلى بالمطلق من الدورات السابقة. صورة تقول للغرب إنّ ثمة تمثيلاً شعبياً ومشروعاً ديموقراطياً، عكس ما بدا في 2014 و2018.
ينتج موقف مصر الحالي من غزة عوامل جوهرية مؤثرة. مثل الوضع الاقتصادي والدين الخارجي، والعلاقة الاستراتيجية الحالية مع أميركا والسعودية والإمارات، وأطر وتفاهمات صارت تقليدية مع الاتحاد الأوروبي، ودوله الأكبر، بشأن ليبيا ومكافحة الهجرة العشوائية وسوق الغاز. ومن جهة أخرى، لا يظهر أفق لتفعيل دور فارق لمحمد دحلان، ممثل الإمارات، أو للسلطة الفلسطينية، في مشهد غزة تحديداً، والداخل الفلسطيني إجمالاً. حليفان لمصر، قد يمثّلان حلّاً توافقياً لحكم القطاع، يتعايش و«حماس» وفصائل المقاومة بدرجة أو أخرى، ويحقق الحدّ المطلوب لحفظ الأمن القومي المصري، وفق تصوّر الدولة المصرية.
في ضوء ما سبق، واتّجاه السكون الدفاعي، ومراوحة الموضع، لا التقدّم أو انتزاع هامش حركة، في السياسة الخارجية، ومع الخيار الاستراتيجي المصري بالإحجام عن إسناد المقاومة سياسياً، وبحفظ «كامب ديفيد؛ (ومقاربة إلغائها بصفته ورقة أخيرة لمواجهة التهجير المحتمل)، يستند الموقف المصري من القضية الفلسطينية، مرحلياً بالوضع الحالي، إلى مبدأين حاكمين:
- مبدأ استكمال «كامب ديفيد»، وإتمام أحد مساراتها التي ظلّت مفترَضة، بفعل الامتناع الفلسطيني ثم فصول تهدئة وتصعيد، وصولاً إلى حكم اليمين الإسرائيلي المتطرف، ووقف أُطر التفاوض إلا عند المواجهة. والهدف ليس تطوير كامب ديفيد نفسها، بقدر تعظيم واستخدام مخرجاتها، ومحاولة تجيير ثباتها الاستراتيجي، لمصلحة نموذج «دولة» للفلسطينيين يحسّن شروط «أوسلو»، ويطوّر ضماناتها الغربية نحو صيغة إشراف مباشر وليس رعاية مالية سياسية عن بعد.
- مبدأ الحل الإداري والاقتصادي للقضية، وشراكة دول عربية (منها دول الطوق) في احتواء الكتلة السكانية الفلسطينية، الذي قاربه مشروع ترامب - كوشنر من قبل. ويطرح أن توفير الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، بكيان تحت شروط سوق وأعمال مستقرة ومحسّنة، يحقق حلاً سياسياً، ومعيشياً من زاوية أخرى، لهذه الكتلة في الضفة الغربية وغزة.

* كاتب مصري