«إن المناضل العربي الحديث، هو المتخطّي الثوري لميوعة الجيل الناشئ في أحضان الانهزامية والفشل، والمتغذّي بتربية مائعة خوّافة، والمرتبط بالتصرّفات التقليدية لشباب الجيل. وهو، من ناحية أخرى، يناضل عن قناعة وجدانية، لا عن اندفاع فوري، سالكاً في نضاله الطريق الصاعد، بالإخلاص الذي ينشأ عن تفهّمه للعقيدة وفهمه لها».غسان كنفاني

لا شك في أن الكلام سيفيض عن «طوفان الأقصى»، عن معاني اللحظة ومآلاتها، وأنّنا سنقرأ في الأيام والأشهر المقبلة قصص البطولات والتضحيات الأسطورية التي صنعت أمامنا مشهداً لا عودة عنه في وعينا ووعي العدوّ. ولا شك أيضاً في أن مشهدية العزّ التي نحتفي بها اليوم، قِوامها أبطالٌ وعائلاتٌ ومجتمعٌ يحمل العبء الأكبر من ثمن التحرّر والتحرير. لكن لـ«طوفان الأقصى» بُعداً ستتكشّف ملامحه حتماً بعد انقضاء غبار المعركة.
خلال العقدَين الأخيرَين، اجتهدت الولايات المتحدة وإسرائيل في تثبيت معادلة الإجهاز على ما يُعرف بـ«الهلال الخصيب»، وتحويل مركز الثقل السياسي في المنطقة إلى الأطراف. بدأت هذه الجهود باحتلال العراق، وتضاعفت بعد عام 2011 من خلال تفكيك الدول المعادية للمشروع الغربي كليبيا وسوريا، وتقييدٍ إضافي لمصر واستنزافٍ لليمن وتقسيمٍ للسودان. كلّ ذلك كان يتزامن مع صعود دول «الأطراف» التي ترتبط أنظمتها عضوياً بالمشروع الأميركي للسيطرة على المنطقة. وليس من المصادفة أن يأتي هذا الصعود الشكلي لهذه الأنظمة، في ظلّ تراجع وتفكّك دول الطوق العربي وصفّ المواجهة الأول ضدّ مشروع الهيمنة الغربية. فالأوّل هو النتيجة الطبيعية للثاني، في ظلّ حملة شاملة للسيطرة على كلّ مفاصل الوعي العربي لإعادة تشكيله بما يخدم استمرارية مشروع الهيمنة الغربية، لا بل وتكريس استعباد الشعوب العربية في خدمة هذا المشروع. من هنا، يمكننا فهم حملات الهيمنة على الفنّ والإعلام والرياضة، وصولاً إلى تكريس تلك الأنظمة كمراكز قوى سياسية تتحكّم بمصير باقي الدول العربية ومصير المنطقة، تحت ظلّ العباءة الأميركية - الإسرائيلية.
القتال في فلسطين لم يكن يوماً قتالاً يخصّ الفلسطينيين وحدهم


في هذا السياق، جاء «طوفان الأقصى»، ليس فقط ليردع العدوّ ويغيّر معادلات الاشتباك على أرض فلسطين، لا بل لينسف كلّ المخططات والخرائط الأميركية في المنطقة، وليهزّ «ميزان» القوّة التي أراد الأميركي تثبيته في العلاقة بين أطراف المنطقة و«الهلال الخصيب». القتال في فلسطين لم يكن يوماً قتالاً يخصّ الفلسطينيين وحدهم، بل هو بداية مسار مختلف لشعب عربي كُتِبَ له الغرق في أتون الذلّ والجوع والإفقار على هوامش التاريخ. عندما عبَر الفدائيون الفلسطينيون حدود أرضنا المحتلّة مع غزة، حطّموا في طريقهم قيود إذلال وقهر الشعب العربي في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن، وكلّ الأقطار العربية المنهوبة والمُحاصَرة. هذه المعركة التي يقودها فقراء لاجئون مُحاصَرون بسيوف الهيمنة الغربية وأدواتها الصهيونية والعربية، هي إعلان ميداني عن أنّنا نحن، الشعب العربي في هذه البقعة من العالم، لن نستسلم لقيودنا، ولن نرضخ لذلّنا، وسننتزع حريّتنا ونهضتنا وسيادتنا على أرضنا ومواردنا حتى تحقيق الذات واستعادة موقعنا في العالم.
بعدما كسر فدائيونا حدود «المستحيل» في السابع من تشرين الأول 2023، لم تَعُد عقولنا عاجزة عن التصريح بما يجب أن تؤول إليه هذه الإنجازات والتضحيات في فلسطين والمنطقة: فـ«طوفان الأقصى» لا بدّ وأن يكون الموجة الأولى في حملة تحرير بلادنا من الهيمنة الغربية وتطهير أرضنا من القواعد العسكرية الأميركية، وعلى رأسها إسرائيل.
ولنا في الطوفان حياة.