كيف أصبحت عقيدة مكافحة التمرّد التي اعتمدت في المستعمرات نموذجاً لاستراتيجية السيطرة الاجتماعية الشاملة المتبعة من قبل الأجهزة الأمنية الفرنسية راهناً؟ - ينبغي عند تناول هذه الموضوعات تغليب المقاربة التاريخية الشاملة. مراجعة التاريخ الطويل للإمبريالية الغربيّة تكشف أن بين آلياتها الداخلية نجد عملية تصدير لأنماط سيطرة نحو المستعمرات، واختبارها، وإدخال التعديلات الضرورية عليها قبل اعتمادها ضد حركات التحرّر والقوى الثورية بشكل عام. أنماط السيطرة المذكورة، التي يطغى عليها الطابع العسكري، أكثر من تلك المعتمدة في داخل المراكز الإمبريالية، تندرج في إطار منظور عرقي تراتبي للعالم. مستويات العنف التي يجري التعامل بها مع الفئات المستهدفة تختلف وفقاً لموقعها في المنظور المشار إليه. الإمبرياليات البريطانية والفرنسية والهولندية والبرتغالية، ومن بعدهم الأميركية، استخدمت جيوشها لسحق مقاومات الشعوب المستعمرة، وإخضاعها، وعمّمت أنماطاً من السيطرة العسكرية-الأمنية اليومية. وخلال القرن الـ20، باتت هذه التقنيات نظامية وصناعية، وخاصة في مواجهة حروب التحرّر الوطني، وبدأت العسكرية الغربية تروّج لمفهوم مكافحة التمرّد. نحن أمام أنماط من «السياسة الحيوية» (biopolitique)، التي تحدّث عنها ميشيل فوكو، التي سيتم استيرادها إلى داخل المراكز، وإعادة تكييفها وإدماجها ضمن أساليب عمل وتنظيم الأجهزة البوليسية والأمنية. لقد شكّلت عمليات الاستيراد المذكورة محطات هامة في التاريخ الفعلي للرأسمالية العرقية، بما في ذلك خلال حقبتها الأمنية الراهنة. أجهزة الشرطة المعسكرة ووحدات المغاوير التي أنشئت أيام حرب الجزائر هي النموذج الملهم لوحدات الشرطة المسماة «كتائب مكافحة الجريمة» المنتشرة في الأحياء الشعبية حالياً. نرى نفس الظاهرة في الولايات المتحدة مع قوات «سوات»، وهي وحدات من الشرطة استلهمت نموذج قوات مكافحة التمرّد في الجيشين الأميركي والإسرائيلي.
لقد نقلت النخب العسكرية التي شاركت في الحروب الاستعمارية، بعد عودتها إلى بلادها، خبراتها وأفكارها وممارساتها. أحد هؤلاء، المحافظ بيير بولوت مثلاً، خدم في الجيش خلال حرب الهند الصينية، حيث تدرّب على تكتيكات مكافحة التمرّد، ومن ثم شارك في حرب الجزائر وأشرف على تكوين مجموعات القوات الخاصة في الجيش. أرسل بعد ذلك إلى جزيرتي ريونيون وغوادلوب، حيث تم تحت قيادته تطبيق برامج لمكافحة التمرّد، قبل أن يعود إلى فرنسا في بداية السبعينيات. وهو أسهم حينذاك في بناء قسم الشرطة في ضاحية سان دوني العمّالية التي تسكنها أعداد كبيرة من المهاجرين، ما يجعلها معقلاً لـ«الطبقات الخطرة» من منظور الطبقات المسيطرة. وقد وظّف بولوت الخبرات التي اكتسبها في ميدان مكافحة التمرّد لإتمام إعادة تنظيم أجهزة الشرطة في سياق تثبيت واقع فصل اجتماعي-عرقي.
من جهة ثانية، وعند التطرّق إلى أدوات القمع والتحكّم المستخدمة اليوم، من قاذفات الكرة والبنادق ذات الرصاص المتفجّر، إلى المسيّرات، سنلحظ الصلة الوثيقة بين التكنولوجيا العسكرية وتلك الخاصة بحفظ الأمن الداخلي. ابتكار هذه الأسلحة تم في بلدان خاضعة للاستعمار، كقاذفات الكرة التي استخدمتها إسرائيل ضد الفلسطينيين أو بريطانيا في إيرلندا الشمالية، ومن ثم سيعاد تصنيعها في المراكز الإمبريالية، وتصدّر مجدداً نحو مسارح الحرب الخارجية، أو تصبح جزءاً من ترسانة الأجهزة الأمنية في داخلها.

ما هي، بنظركم، طبيعة العلاقة بين العنصرية والمعاملة الاستثنائية؟
- نجحت الإمبريالية الغربية في فرض منظومة سيطرة لا سابق لها على صعيد عالمي، دمجت بين التراكم الرأسمالي والتراتبية العرقية والهيمنة البطريركية. تكوّنت مراكز التراكم الرأسمالي ونمت بفضل النهب الاستعماري وتجارة الرقيق وغزو وسحق شعوب بأكملها في أميركا الشمالية والجنوبية وفي أنحاء أخرى من العالم. وقد ساهمت الأطروحات العرقية في إنتاج مخيال جمعي يبرّر التوسع الاستعماري، ونظام سيطرة واستغلال مركزي بالنسبة إلى اقتصاد سياسي أضحى عالمياً. أعاد النظام السياسي والاقتصادي في المراكز الإمبريالية إنتاج أنماط من الفصل الاجتماعي-العرقي داخل حدوده. نحن حالياً في مرحلة من تاريخ الرأسمالية أسميها المرحلة الأمنية، حيث تحاول القوى العظمى تجديد نظام التراكم من خلال أسواق الرقابة والقمع والسيطرة البوليسية والحرب. ما تبقّى من مستعمرات، وكذلك الأحياء الشعبية الخاضعة للفصل الاجتماعي-العرقي داخل المراكز الإمبريالية، تقع في قلب نظام استغلال وتجديد واستعراض تكنولوجيات الرقابة والقمع.
ومن نافلة القول أن هذا الأمر عزّز تبادل الخبرات بين القوى الإمبريالية في مجال سياسات السيطرة الاجتماعية-العرقية التي باتت تمتلك نتيجة لذلك نوعاً من دليل العمل الشامل. الجيش الإسرائيلي، مثلاً، استند إلى التجربة البريطانية في مكافحة التمرّد في ماليزيا وكينيا وإيرلندا وفلسطين. دولة إسرائيل بذاتها أنشئت على أنها قوة مكافحة تمرّد بخدمة القوى الإمبريالية في الشرق الأوسط. لدينا أيضاً خبرات مكافحة التمرّد الفرنسية وهي حصيلة لتاريخ طويل من القمع العسكري-البوليسي للحركة العمّالية في هذا البلد في القرن الـ19، وللحروب الاستعمارية في المغرب والهند الصينية والجزائر، التي كانت جميعها بمثابة المختبرات لتطبيق عقيدة حرب مكافحة التمرّد. ستقدّم هذه العقيدة على أنها النموذج الإرشادي للنمط الجديد من الحروب بسبب فعاليتها المفترضة وشراستها ومقاربتها التي ترى ضرورة لعسكرة كاملة للمجتمع للتصدّي لأي شكل من التمرّد السياسي والعرقي. وقد تمّت إعادة اكتشاف «فضائلها» خلال حربَي أفغانستان والعراق. هي بمثابة دليل العمل الشامل لحروب السيطرة والتحكم البوليسية الطابع، ضد الانتفاضات الشعبية، ولإعادة هيكلة الأجهزة العسكرية والأمنية وبرنامجاً للحوكمة العالمية.

يعتقد جيف هالبير، في كتابه «مفتاح السلام: تفكيك منظومة السيطرة»، أن السلطات الإسرائيلية نجحت منذ عام 1967، في إنشاء مثل هذه المنظومة. هي منظومة مندمجة تسمح لإسرائيل بالتحكّم بجميع أوجه حياة الفلسطينيين مع الحد من الطابع العسكري للاحتلال وتظهيره على أنه عمليّة إدارية لا أكثر. كيف تفسّرون أن البعض في فرنسا يعتبر إسرائيل نموذجاً في مكافحة الإرهاب وما هي مفاعيل مثل هذه القناعة؟
- إسرائيل أحد النماذج الرئيسية للسيطرة العسكرية-الأمنية اليومية والحميمة. لجأ الأميركيون إلى هذا النموذج في العراق، نتيجة للتعاون التاريخي بين الدولتين، عبر تشييد نوع من الأبارتايد العسكري والإلكتروني مع ما يسمى بالجدران الذكية ولاحتلال جوي عبر المسيرات، وإلى عمليات تهجير ونقل للسكان وتجميعهم في معتقلات، وتلزيم القمع لقوى عسكرية رديفة ولمتعاونين مع الاحتلال وإقامة منظومة من الحواجز للتدقيق في الهويات. يشرف الإسرائيليون في العديد من بلدان العالم على دورات تدريبية للترويج لنموذجهم الذي يشرعن اللجوء المنهجي للشراسة، والذي يبرر، باسم الحفاظ على الأمن، الحروب الوقائية والأساليب الأكثر دموية التي تستهدف شعوباً بأكملها، لكسر إرادة المقاومة لديها. غايتهم هي التأكيد أن من الممكن التحكم اليومي بمصائر هذه الشعوب وتدمير وشائج التضامن والتعاضد بين أبنائها في الأراضي الخاضعة للاحتلال والاستعمار وكذلك في السجون والمعتقلات. ولكننا نلاحظ أن هذه الفضاءات تشهد عملية إعادة بناء عنيدة ومستمرة لأشكال من المقاومة الشعبية والتنظيم الذاتي تستطيع أن تهدّد منظومات الهيمنة. وفي الحقيقة، فإن منظومات السيطرة والحرب المطبّقة من قبلها قد فشلت في تحقيق غاياتها.