ممّا انتهينا إليه في المقالين السابقين أنّ تحدّي المواطنة أصبح تحدّياً عالميّاً، ومعظم الدول تواجه «فائض هويات ونقص مواطنة». ونوّهنا بأنّ المواطنة، بتعريفها الكلاسيكي، دخلت مرحلة إعادة نظر، وأنّ الانتقال التاريخي الذي يعيشه عالمنا اليوم استدعى إعادة مفهمة لها وتعريفٍ. ويتضاعف التحدّي في لبنان كونه يقع في منطقة تتداخل فيها الهويات والمصالح، ولم يمرّ بأطوار «وطن، دولة» وهو ليس بأمّة. وهو على فالق صراع ثقافي - سياسي - حضاري مع النموذج والجيوبوليتيك الصهيو أميركي، ويسهم أخيراً في نهضة تطاول القيم والأفكار (ليس فقط التوازنات). إنّ المواطنة هي نتاج حركة المجتمع وصانع له. هي مواكبة ومحايثة في آن. فبلوغ مواطنة يعني سيرورة تأخذ بأبعاد ومدارج عديدة وتطال بعمق مجالات الفكر والسياسة والاجتماع. بمعنى آخر، هي سيرورة تطوّر الإدراكات والوعي والنظرة للذات والآخر وبلوغ ثقافة سياسية موحّدة وحضارية وليس فقط قرارات وخطوات إدارية وسلطوية من فوق.
هكذا سيرورة تحتاج إلى ضخّ «معنى» و«فكرة»، فكرة تبحث في المستقبل بدل الاستغراق في تاريخ لن نتّفق عليه، وربّما نزداد انقساماً. وتحتاج إلى مسار سياسي متدرّج وطويل يبلور «الفكرة» لنقلها وتطوير الصيغة والعقد، وهنا مكمن التحدّي - حين نقترب من تنزيل المعنى والفكرة على الواقع (زمكنة) بتقييداته وتعقيداته وخصائصه.
يفترض ذلك السير بمسارات تلازمية: إنضاج خطاب يحوي فكرة لبنان وضرورته ككيان وإنجازاته وتعميقها وصقلها في وعي الأجيال، والعمل لتفعيل مسارٍ لعدالة اجتماعية وحقوقية مطمئنة، وبذل الوسع لإضعاف هيمنة الخارج لتيئيس أيّ كان في الداخل من التعويل على الخارج وتوظيفه في اللعبة الداخلية، والدفع لتطوير إمكانيات مشاورة ومشاركة الشعب في المجال العام، وإلزام أنفسنا بكوابح تحقّق أفضل استقرار ممكن، وتبديد الهواجس المتبادلة والقلق، والتطلع إلى نموذج وطاقة مجتمعية تُنتج للبنانيين ثقة وأملاً بدل التيئيس. كلّ ما تقدّم يعتبر شروطاً ضرورية ومسارات يجب السعي فيها بعزم ومسؤولية وحكمة... وحكماً يُضاف إليها بعض القرارات كما سنبيّن في طيّات المقالة.
بعد قرن من الزمن، نفترض أنّنا أقرَرْنا بفشل تجارب التغلّب ونظرية الطائفة القائدة والاعتماد على الخارج للتعديل في الداخل. واقتنعنا بأنّ القفزات الكبيرة والثورية في بيئة داخلية هشّة وخارجية مضطربة غير ملائمة ومخاطرها عالية جداً على بلد كلبنان، وما يقتضيه ذلك من تجنّب المغامرات والمقامرات. وأنّ تكريس ثقافة التشبيك التحتي وخطاب التطمين وإدامة التفاعل الأفقي والتفتيش عن المشترك وتعزيز التفاهمات في ظل الدستور - الطائف - وتوسعتها (حتّى لو على طريقة حليف الحليف) هي مسألة مهمة ومطلوبة.
وأنّ الطرح الديني الحي - الحركي هو موضوع محوري وأصل في تكوّن تاريخ لبنان، بحيث يستحيل عزله فهو مصدر إلهام خطاب النهوض والاستنهاض الأوّل ومصدر تقويم السلوك الجمعي والفردي لدى غالبية اللبنانيين الساحقة. فكيف بنا للإفادة من أنظومة الدين وتعميق مكانته لإنتاج ثقافة التحرّر والكرامة الإنسانية وفي ما يمكن أن يشذّب تجربتنا وإخفاقاتها في العدالة والإصلاح بعدما جرّبنا خطاب الطائفية والعلمنة. وقبلنا أنّ بقاء لبنان رهن تنوّعه وتكريس التوافقية وأنّ حرية الإرادة تسمو على حرية التعبير. وأنّ مشاركة الشعب في القضايا العامة واجب وليس حقاً فحسب، وهذا مدخل استقرار.
وأنّ هناك ضرورة ملحّة لتقويم دور السلطة وانحرافها عن غايتها، بحيث تنتقل إلى تبنّي السيادة الموجبة وليس فقط الوجه السالب للسيادة، فتدفع الشعب كله إلى المشاركة وتساعد في تحويل الفضاء السياسي إلى ميدان تنافس بين القوى بدل لعبة الإقصاء الداخلي الذي تمارسه، وأن تجترح بحصافة صيغة تكامل بينها وبين قوى الشعب كنوع من «تقاسم أدوار ضمني». سلطة تفهم أنّ مصدر قوّة لبنان تكمن في الشعب لا في الخارج. وأنّ الاستغراق في مواجهة تكثّر الهويات الطبيعية ومحاصرتها ليس إلّا شططاً، فاليوم كل شيء يتغيّر، لم تعد الرياح رياح القرن العشرين ولم تعد صيغة الاجتماع السياسي مبنيّة عليها ونشأت هويات جديدة وأكثر كفاءة، فالأفضل للسلطة في زماننا هو توجيه هذه الهويات وتنسيقها والإفادة الذكية منها بما يخدم المصلحة العليا.
ونفترض أنّ التجربة المتطاولة وعِبرها صرّحت بأنّ الأصلح للبنان أن يقوم على أساس القضية والقيم والقانون - وربّما الحق يوماً ما - لا على أساس التوازنات، فالأخيرة متقلبة لا تفي في بلد قلق. وأنّ افتقاد عملية البناء هذه المباني أسهم في هشاشة الواقع. لقد قامت «قضية» لبنان على رياح الأقليات «المحظية» من قوى الهيمنة بعد الحربين. أمّا «القيم» فتمركزت على الحرية دون التطرق إلى العدالة – ودون أن نعرف هل هي حرية مطلقة أم على قاعدة مصلحة الدولة القومية، أم حرية على أساس الشرعة الدولية أم على أساس منطق الدين أم حرية على أساس نظرية الحقوق؟ واقتصرت السيادة على الوجه السالب، فكانت عبارة عن اجتناب لأيّ لغة تفاعلية مع العمق العربي الإسلامي خارجياً (ليس بمعنى دمج الجغرافيا)، وداخلياً اقتصرت على احتكار القوة والسلاح (إلّا إذا طلب الخارج أواخر الستينيات: فتح لاند) فعاشت هاجس احتكار السلطة للقوة والنفوذ وليس لتوزيع القيم في المجتمع، فبقيت غريبة عن شعبها وتخاف منه بدل أن تتقوّى به. وأنّنا اعتبرنا، بعد قرن من التجربة، أنّ السلطة لا يمكن أن تكون مسؤولة عن جزء من المجتمع دون آخر، وأنّه لا يصحّ النظر إليها كأحد الفواعل ليس أكثر كما رأى بعض منظّريها حينها. أمّا «القانون» كقيمة فكان في مضمونه وخطوطه العريضة وطبيعة مؤسساته تمثيلاً صارخاً للانحياز والإقصاء الضمني (حبّذا لو يُكتب من أهل القانون في الطبيعة المغلقة لمؤسسة القضاء وتشريعاتها والإقصاء الصامت فيها واقتصارها على مدرسة فكرية محدّدة وفئات وجماعات وجامعات دون أخرى ولا يزال الوضع كذلك اليوم إلى حد كبير). وأنّ قوام القانون هو شموله ورعايته مصلحة إرادة المجتمع وليس تكريس الهيمنة الخارجية.
وعليه، لا تنجح في لبنان دولة طائفية ولا دولة ثيوقراطية ولا دولة ثورية ولا دولة ليبرالية ولا دولة علمانية. ربّما لبنان أقرب إلى نموذج «دولة القانون» في هذه المرحلة من تاريخه للتقدّم بمواطنته. إنّ مقاربة قوامها دولة القانون قد تشكّل مخرجاً لعدد لا بأس به من أزماتنا وصراعاتنا أو لمستويات معيّنة من صراعاتنا. هذا لا يعني أنّها ستقضي على كل الخلافات، ولا سيما المرتبطة بالثقافة والنظرة للذات والآخر، لكن ستحدّها وتحقّق حدّاً من مستلزمات المواطنة. إنّ الخلاف على «الثقافة السياسية» سيبقى رهن التنافس والصراع السياسي - الفكري، وهذه دينامية الحياة والاجتماع ولا يمكن إنهاؤها. ولا بأس من التأكيد على ضبطها بعهد أو إعلان أو شرعة أخلاقية وربّما قانونية دستورية نؤكد فيها: أولوية الأمن والاستقرار العام ووحدة الدولة ومركزيتها وتجريم من يحرّض الخارج ضدّ أيّ من مكونات الداخل والتأكيد على خطاب التوافق.
إنّ دولة القانون تفترض إعطاء الأولوية لسلطة القضاء وتعزيزها وتأكيد استقلاليتها، وتفعيل نموذج إدارة الدولة وتحصينه، فهذا يعالج جانباً كبيراً من مشكلة المواطنة. إنّ قضاءً جنائياً وإدارياً عادلاً يعالج نسبة كبيرة من مشاكل الشعب اللبناني ويعيد بعض الثقة المفقودة بالدولة. وتبقى مشكلة الثقافة السياسية ومفرداتها من سيادة واستقلال وعدو وصديق وأمن استراتيجي وغيرها من القضايا الشائكة، فلا يمكن لمؤسسة القضاء حلّها في المدى المنظور، ولا حتّى الدستور معالجتها (الدستور يقرّ بأن إسرائيل هي العدو ويعطي شرعية مقاومتها ولكن لا تزال شرائح وأحزاب تتنكّر لذلك عملياً، رغم قبولها بالطائف والدستور، عندما قتل الاتجاه المقاوم في لبنان كبير عملاء إسرائيل عقل هاشم هناك من كان قد اعتبره رمزاً وقيمة وأبّنه بطلاً)، فأظنّها أموراً تُترك إلى أطرها ومسارات التنافس وصناعة الشرعيات الوطنية بين اللاعبين واستحواذها، محلّ ذلك في السياسة وصناعة التغيير.
إذاً، لا بأس من تفكيك إشكالية العقد بين مستويات عدّة: الفكري الذي يمكن أن ننتج من خلاله ثقافة عامة وخطاباً مشتركاً، الاجتماعي الذي يمكن أن تقوم به مؤسسة قضائية متينة ومستقلة، ويعضدها نموذج إداري مؤسساتي يخفّف وطأة البيروقراطية والفساد واستزلام السياسيين وتحرير قرار المواطن.
أمّا تحدّي وحدة الثقافة السياسية فهو الأخطر لما له من أثر على الهيبة وفاعليته. إنّ حدّة الصراع السياسي والفكري في لبنان تجعل من الاستحالة إقناع خصم بتغيير أفكاره بالحوار ولا يصح تغيير الأفكار بالقوّة. الأنسب أن نعمل على خطّين: الأوّل، بتيئيس من في الداخل من قدرة الخارج وفاعلية تأثيره، فربما تكون هي المقاربة الوحيدة التي قد تدفعهم إلى إعادة النظر (حين يلمسون أنّ معتمدهم الخارجي لم يعد قادراً على أن يقدّم لهم نفعاً). والثاني، يقوم على توسعة شرعية الخطاب المقاوم بإضافة مزيد من قصص نجاح على الأجندة الوطنية، وليُترك للبنانيين المقارنة بين النموذجين: من هو لا يقدر على شيء وهو كلّ على مولاه ومن يراكم نجاحات ويتيح أملاً.
بعد ما سلف من عرض لمسارات واستعراض لخطوطها العريضة، نحتاج أيضاً إلى خطوات لا يجب أن نكلّ في السعي فيها:
1. تطوير قانون الانتخاب وتطوير آليات المشاركة من مثل الاستفتاء في قضايا معيّنة استجدّت أو لم يقاربها الدستور - الطائف (التوجّه شرقاً، الطاقة واستثمارها، النزوح السوري، قانون العمل للأجانب، الانضمام إلى مؤسسات دولية ناشئة كالبريكس أو غيرها، اللجوء الفلسطيني،...).
2. تطوير النظام الإداري للحكم وفذلكته كونه بات قاصراً ومعيقاً ومدخلاً للفساد. وقد يكون التعاطي مع الأمرين كسلّة (قانون الانتخاب، النظام الإداري) حاجة بحيث يشدّ قانون الانتخاب أواصر البلد ويثبّت شمول المسؤولية والتمثيل، بينما يكون قانون اللامركزية تطوراً إدارياً يقلّص من هيمنة السياسيين ويعزز المساواة ويحدّ من الاستزلام... فيكون هدف السلّة ليس تعويضاً لطائفة، وإنّما مصلحة عامة للكيان.
3. إلزام الوزارات والإدارات الحكومية من خلال قانون بالتخطيط بعيد المدى، فنحن بحاجة إلى أن نلتزم لغة العلم والتخطيط في مسارنا البنائي. ونحتاج إلى ظهير يواكب الوزارات، وفي مقدّمها الجامعة اللبنانية التي يجب أن تكون ظهير الدولة وعقلها جنباً إلى جنب مع الجيش اللبناني في مسألة الأمن. عندها قد يُدرس مقترح تدوير مناصب الفئة الأولى.
4. ورشة عمل للإعلام اللبناني ترقى إلى مستوى اللحظة وحساسيتها وتنفتح على المستقبل وتحدياته بدل أن ينجرّ بعض إعلامنا خلف إعلام الـ «بوست تروث» وتسطيح العقول.
5. التفكير في طريقة لمساهمة كل لبناني في مقاومة العدو الإسرائيلي ولو من خلال مقاومة مدنية. إنّ إتاحة هذه الفرصة تعزّز المعنى الوطني والقيمي والأخلاقي وتشدّ أواصر المكونات المؤمنة بالعقد الموجود (الطائف) على اعتبار أنّ مقاومة العدو الصهيوني حقّ كرّسه الدستور.
إنّ المواطنة هي الوجه الآخر للعقد الاجتماعي الذي هو في حقيقته وعمقه «حاجة»، حاجة أن يشعر كل منّا بأنّه مشارك مؤثّر وليس مهملاً، أن يشعر بأنّه حاكم ومحكوم في آن. وأنّه لا يجب أن تقع دوائر انتماءائنا المتعدّدة في تعارض وتقابل مع أمن أهلينا وسلم المجتمع. فالأوّل لازم حرّية والثاني قيد لها. وأنّ المواطنة التي تبني كيانات وأوطاناً ابتداءً هي التي تنطق بلغة الأخلاق، ولا يعني أنّها تستقيم لاحقاً بدون خطاب الحقوق والقانون.
ختاماً، رغم الاستعصاء الظاهر اليوم، والذي كان ماضياً، إلا أنّ الوجهة العامة وسياقاتها الخارجية والداخلية تسير باتجاه إنتاج مزيد من الوقائع والظروف الموضوعية التي تُحتّم على الأطراف تغيير موقعهم التقابلي والتنافري الذي هم عليه إلى التنافس والاستلحاق. فالمطلوب استكمال إضعاف الهيمنة الخارجية حتّى لا يبقى عند البعض سبيل إلا الحوار. وأن يتقدّم فاعل صاحب أهلية وجدارة كالمقاومة ليراكم ما أمكن من قصص النجاح الوطني، علّه يُؤسّس لنموذج ومرجعية قيمية يعوزها لبنان كثيراً، وأن تتساير المسارات والخطوات نحو دولة القانون التي تبدو أنّها أفضل الأهداف التي يمكن أن نرتجيها لواقعنا اللبناني وبناء كينونتنا السياسية واستدامتها.

* باحث لبناني