كان انقلاب العسكر في النيجر في يوم 26 تموز 2023 هو سادس انقلاب عسكري يحصل في القارة الأفريقية خلال ثلاث سنوات، بعد انقلابين في مالي (18 آب 2020 و24 أيار 2021) وانقلاب في غينيا كوناكري (5 أيلول2021) وانقلابين في بوركينا فاسو (24 كانون الثاني 2022 و30 أيلول 2022). من يراقب المشهد في عاصمة النيجر خلال الأسابيع الماضية يلاحظ أن هناك تأييداً جماهيرياً قوياً للانقلابيين يتمظهر من خلال تظاهرات في الشوارع أو تحشّدات في مهرجانات تقام في ملاعب كرة القدم. وواضح أنها غير منظّمة وأنها عفوية، وينزل فيها الفقراء والناس العاديون، وذلك في دولة لا تملك تاريخاً شمولياً عبر سلطاتها المتعاقبة ولا أحزاباً قوية، والعسكر الانقلابيون لا يملكون جهازاً للتحشيد وواضح أنهم حتى تفاجؤوا بحجم التأييد الذي لاقوه.
يمكن أن تذكّر نيامي، عاصمة النيجر، بالقاهرة في أعقاب انقلاب 23 يوليو 1952، والخرطوم في أعقاب انقلاب 25 مايو 1969، وطرابلس الغرب في أعقاب انقلاب الفاتح من سبتمبر 1969، عندما بان من خلال تظاهرات التأييد أن هناك قاعدة اجتماعية قوية لاقت الانقلابات الثلاثة، ولم تصنعها الانقلابات أو تدفع بها، وهي، إمّا خلال نقمة فئات اجتماعية واسعة على مظالم العهد السابق للانقلاب، أو من خلال تأييدها لبرنامج الانقلابيين، قد اندفعت لكي تصبّ الماء في طاحونتهم. وفي الحالات العربية الثلاث المذكورة يمكن القول فقط عن الحالة المصرية إن الانقلاب العسكري قد أنتج ثورة إذا قسنا حجم التغيير الاقتصادي-الاجتماعي-الإداري-الثقافي الذي حصل في مصر ما بعد 23 تموز 1952.
هذا التأييد الاجتماعي للانقلابات ناتج عن ميل انقلابي يوجد عند فئات اجتماعية واسعة نتيجة لانسداد الطريق البرلماني -أو المدني- للتغيير، وعن أن الحكم البرلماني -أو المدني- لا يمثّل القوى الاجتماعية الصاعدة بل يمثّل قوى اجتماعية تريد المحافظة على الوضع القائم بحكم مصالحها وهي تسدّ الطريق نحو التغيير أو لا تستطيع التعبير عنه.
تأتي الدبابة هنا لكي تفتح الانسداد، ومن خلال سيطرة العسكر على الجهاز السلطوي للدولة يَفتح طريقاً للتغيير، أو على الأقل لإزاحة قوى تعيق التغيير، أو ترتبط بقوى خارجية ليست لها مصلحة في تغيير الأوضاع القائمة وتطمئن وترتكز على القوى الحاكمة التي يطيح بها الانقلاب العسكري. في المثال المصري كان عبد الناصر يعبّر عن قوى اجتماعية، عند فلّاحي الريف والفئات الفقيرة في المدن، ضد تحالف من الإقطاع والرأسماليين الجدد تحت ظل حكم ملكي تتحكّم فيه بريطانيا المسيطرة عسكرياً على مصر وذلك بعد قليل من السنين تفصل عن هزيمة مذلّة للقوات المصرية في حرب فلسطين. هذا التلاقي بين الدبابة والشارع، أو أغلبية الأخير، ينتج ميلاً انقلابياً في المجتمع، يمكن أن يقود إلى ثورة، ويمكن أن يقود إلى فشل سلطوي تنتج عنه كوارث على مستوى البلد كما في حالتَي النميري والقذافي.
إذا عدنا إلى أفريقيا، فيمكن لمثال النيجر أن يعطي صورة عن كم أن تحليل لينين في عام 1916 في كتابه: «الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار»، ما زال طازجاً، وذلك في حالة بلد هو سابع دولة في العالم من حيث ثروة اليورانيوم الخام، وهو المصدر الرئيسي لمفاعلات الطاقة النووية الفرنسية لإنتاج الكهرباء للداخل الفرنسي ولبلدان أوروبية منها ألمانيا. فيما النيجر لا توجد فيها كهرباء بل تستوردها من نيجيريا، وهي دولة حيث يوجد اليورانيوم والذهب تُعدّ من أفقر دول العالم، وتحكمها منذ الاستقلال قبل ستة عقود نخبة سياسية-عسكرية-اقتصادية-ثقافية مرتبطة بباريس وتدار من هناك مع وجود قوات فرنسية، فيما تعيش غالبية من المجتمع في الفاقة والفقر المدقع.
يبدو الآن أن الأفارقة يعيشون هذا الميل الانقلابي الذي عاشه العرب في الخمسينيات والستينيات والنصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي


في مالي وبوركينا فاسو الوضع مماثل للنيجر، وكراهية الفرنسي والأوروبي الغربي من أغلبية سكان البلدان الثلاثة تتناظر مع كراهية النخب الحاكمة. في غينيا كوناكري الوضع مختلف قليلاً حيث فساد الحكم المدني للرئيس ألفا كوندي وتعديله للدستور من أجل أن يُنتخب لمرة ثالثة في عام 2020، زائد الأزمة الاقتصادية التي رافقت وباء «كوفيد-19»، قد ساهمت في تشجيع العسكر على الإطاحة به وهو ما لاقى تأييداً شعبياً كبيراً.
في حالتي مالي وبوركينا فاسو تمظهرت تلك الظواهر في نظامين عسكريين من ضباط شبان (أحدهم الكابتن إبراهيم تراوري قائد انقلاب بوركينا فاسو الأخير وهو من مواليد 1988) في نزعة عداء للفرنسيين مع طلب مالي بخروج القوات الفرنسية في صيف 2021 ومع طلب بوركينا فاسو أوائل العام الجاري خروج القوات الفرنسية وإلغاء معاهدة «المساعدة العسكرية الفرنسية». في الوجه الآخر لعملة العداء للفرنسيين هناك ميل نحو الروس وُجد عند عسكر مالي وبوركينا فاسو وليس صدفة أن يُرفع العلم الروسي في تظاهرات نيامي التي أعقبت انقلاب العسكر هناك. وفي القمة الروسية-الأفريقية الأخيرة في موسكو خصّص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقاءين خاصين مع قائدَي المجلس العسكري في كل من مالي وبوركينا فاسو، فيما قال يفغيني بريغوجين، قائد «قوات فاغنر»، الكلمات التالية عن الكابتن إبراهيم تراوري: «الابن الشجاع لأرض وطنه الأم». والأرجح أن انقلابات مالي وبوركينا فاسو والنيجر ستجعل البلدان الثلاثة ساحة كبرى للمجابهة الأميركية-الروسية وأن الأميركيين سيستخدمون عاجلاً أو آجلاً قوات «المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا» (الايكواس)من أجل قلب الأوضاع في البلدان الثلاثة إن لم تنفع الحلول الدبلوماسية.
كتكثيف: في مقالات ثلاثة نُشرت في الشهر الأخير من عام 1968 بجريدة «الأيام»، دعا القيادي في الحزب الشيوعي السوداني أحمد سليمان إلى «الاعتراف بالقوات المسلحة كقوة مؤثّرة وكعامل فعّال في حياة البلد السياسية»، وذلك في ظل حكم برلماني بعد انتخابات 1965 التي كان فيها الحزب الشيوعي ثالث قوة برلمانية ثم قامت قوى سياسية مضادة بالتآمر وأصدرت قراراً من البرلمان بحظره. عارضه الأمين العام للحزب عبد الخالق محجوب وردّ عليه في الشهر اللاحق بمقال في جريدة «أخبار الأسبوع»، وعندما عرض عسكريون على الحزب الشيوعي السوداني الاشتراك في الانقلاب وقفت أكثرية المكتب السياسي ضد ذلك في اجتماع يوم 9 مايو 1969، ولكن وُجد شيوعيون قياديون أيّدوا المشاركة، ثم شارك الحزب بهذا الشكل أو ذاك في الانقلاب الفاشل للرائد هاشم العطا (19-22 يوليو 1971) ضد النميري. يعطي هذا المثال الشيوعي السوداني مؤشراً إلى وجود نزعة فكرية-سياسية نحو الميل الانقلابي عند أحزاب سياسية، وهو ما كان موجوداً بقوة عند عروبيين من اتجاهات مختلفة في حزب البعث وحركة القوميين العرب وعند فصائل ناصرية عديدة، وأيضاً وُجد ذلك عند شيوعيين عراقيين فكّروا في انقلاب عسكري ضد عبد الكريم قاسم في تموز 1959 وقامت موسكو بمنعهم من ذلك. وقبلهم عند شيوعيين مصريين في تنظيم «حدتو» شاركوا في انقلاب 23 يوليو 1952.
يبدو الآن أن الأفارقة يعيشون هذا الميل الانقلابي الذي عاشه العرب في الخمسينيات والستينيات والنصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي.

* كاتب سوري