بين ما وصفه الأمين أسد الأشقر في كتابه «تاريخ سورية» من مدن التحدّي والردّ وبين ما وصفه الكاتب العراقي اليساري هادي العلوي عن الدودة «الرومانية»، هناك حقيقة تاريخية تربط بينهما. والتاريخ، في رأينا، ليس مجرد حوادث مختلفة ومنفصلة بعضها عن بعض في تراكمٍ زمنيّ، وإنما التاريخ حركةٌ حيّة في الزمن والمكان. ولا بد من استعادة كلامهما كفاتحة لهذا المقال.يُقَيِّمُ الأمين الراحل أسد الأشقر الصراع بين المشرق (الهلال السوراقي الخصيب) والغرب قائلاً: «لقد كانت اليرموك الردَّ التاريخي السوري - العربي على معركة زاما وسقوط قرطاجة أمام الرومان، وكانت القادسية الردَّ على الاجتياح الفارسي للدولة النيوبابليَّة تلكَ الفترة، وكانت إسبانيا (الأندلس) الردَّ على سقوطِ القواعدِ الأماميَّة الكنعانية السورية، قواعد هملقار، في أوروبا، الفترة الرومانية آنذاك». أمّا الفترة الثانية (التي سيأتي ذكرها) فهي الفترة المغولية - العثمانية التي امتدت من سقوط بغداد عام 1258م إلى دخول الملك فيصل الأول دمشق عام 1918م».
في مقالٍ سابقٍ له عن الحرب الروسية الأميركيَّة حول أوكرانيا، يستشهدُ الأستاذ علاء اللامي، اليساريُّ العراقيّ، بعبارةٍ للكاتب اليساري العراقي الآخر المرحوم هادي العلوي، هي «الدودة الرومانيَّة الإمبراطوريَّة»: «التي لا تطيقُ منافساً لها أو متمرِّداً عليها، قد اهتاجت واضطربت ولن تهدأ إلّا باجتثاث عدوّها أو منافسها في الوجود، كما فعلت بقرطاجة حنّابعل، وتدمر زنوبيا، وحرب بوش الابن على العراق».
كيف حدث ذلك؟ الجواب هو حركة التاريخ؛ هذه الحركة التي كشفت، وبشكلٍ فاقع، غاية الغرب من السيطرة على أرض الهلال الخصيب وامتدادها العروبي. والعداء ليس وليد اليوم، ومؤامرة سايكس - بيكو لم تكن البداية، بل كانت استمراراً لهذا العداء، الذي سبق الأديان السماوية أو الإبراهيمية، التي تعود إلى إبراهيم الخليل، البدوي الأرامي الضالّ (قبل القصص الموسوي الذي لم يظهر أي أثرٍ له حتى الآن).
في مشروعه المُضمَر «فَرِّق تَسُدْ»، أتقنَ الغرب فنَّ إثارة الحروب الطائفية والعشائرية؛ وهو الذي أعربَ، حديثاً، عن خوفه من الإسلام (إسلاموفوبيا) في حين أنّه كان يدعَمُ الحركات التكفيرية في العالم العربي وبشتى الطرق. والخوفُ لم يكن من دين بقدر ما كان من المشرق الخصيبي وعروبته، الذي سَبَق المسيحية والإسلام بقرون، تلك العروبة التي تحدّثنا عنها في مقالَين سابقين نُشرا في «الأخبار»: «العروبة مفهومٌ جغرافي ثقافي آرامي» (22 كانون الأول 2022) و«مشرقية الإسلام العربي» (8 شباط 2023). ولم يكن الهدف من المقالَين نسبَةَ العروبة إلى مُكوِّنٍ واحد، وإنما التشديد على منشئِهِ المشرقي - الخصيبي، الذي يجمعُ بين كلِّ مكوناته الروحية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية. والعروبة أيضاً سبقت الأديان السماوية بقرون كثقافة خصيبية.
ذات يوم، أخذ شاعرُ العامية طوني خزامي يتحدَّثُ عن طفولتِه البائسة، فقال: «أنا لا أكتب الشعر من أجل الشعر. أنا أتحدَّثُ عن جروحي حين أدركتُ أن هناكَ من يسمعني». وحديثي عن التاريخ ليس لاستعادة سردهِ، وإنما في مرتجى أن تسمع الأجيال. فالجروح لم تلتئم، والأجيال يجب أن تسمع قرقعة حركة التاريخ.
في زحفِهِ إلى الشرق، حاول الإسكندر المسمّى بالكبير، ومن بعدِهِ خليفتُه في سورية سلوقس الأول أو الكبير، هَيْلَنة المشرق بجلب الإغريق ليستوطنوا في المشرق، وبفرض اللغة اليونانية عليه، ولكنه فشل، لتمسُّكِ هذا المشرق بثقافته وعروبته. يشهدُ على ذلك المؤرخ أسد رستم في كتابهِ «كنيسة الله إنطاكية العظمى»، إذ يقول: «وقام سلوقس الكبير وخلفاؤه بتهلين سورية وغيرها من ممتلكاتهم، فاستقدموا المقدونيين واليونانيين وأنزلوهم المدن والقرى ومنحوهم الامتيازات ليستعينوا بها في الحرب وفي التهلين... الأرياف السورية كانت قد استعربت منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد» (ص: 15-17). أمّا المؤرخ اللغوي الشامي محمد بهجت قبيسي في كتابه «حضارةٌ واحدة أم حضارات»، فيجزمُ بأن العروبةَ انوجدت منذ الألف الثالث قبل الميلاد، أي قبل النقش الخاص لـ«جنديبو العربي» الذي يعودُ تاريخهُ إلى 853 سنة قبل الميلاد (ص: 30).
بعد موت الإسكندر، نشأ خلافٌ بين قواده الأربعة: 1) سلوقس الأول الملقب بـ«نيكاتور» الذي استولى على الهلال الخصيب بحدوده التي شملت بلاد الرافدين والشام، وكيليكيا. 2) أنتيغونس الذي استولى على ما يسمى بآسيا الصغرى التي انضمّت بعد ذلك إلى سورية بعد معركة إيبسوس عام 301 قبل الميلاد. 3) أنتيباتر الذي أخذ بلاد الإغريق مع مكدونيا. و4) بطليموس الذي استفرد بالديار المصرية.
وبعدما فشلت سياسة الهيلنة، تسورن سلوقس الأول وخلفاؤه، وأصبحت سورية، وعاصمتها إنطاكية، المدينة العظمى وعاصمة العواصم، تضمُّ المشرق كله: من عيلام وسومر وبابل وأشور، وآسيا الصغرى وكيليكيا، وفينيقيا، وفلسطين بعد استعادتها من مصر (فيليب حتي، تاريخ سورية، ج1، ص: 260). ومن المدن التي ازدهرت في المملكة السورية التي أُنشئتْ عام 312 قبل الميلاد مدينتا «لأوديسا» (اللاذقية) و«أفاميا»، هذه «التي أصبحت مركزاً عظيماً في المملكة السورية وكان فيها الجيش والخزينة الحربية وإصطبلٌ تابعٌ للدولة يضمُّ 30000 فرس و399 حصاناً. وكان بمثابة مستودع حيث تُرى فيه فِيَلَةُ الحرب والتَدرُّب» (المصدر نفسه، ص: 262). وبالمختصر أصبحت سورية تملك الإرث الحضاري المشرقي القديم روحياً وثقافياً وجغرافياً وتاريخياً. وقد تعرضت هذه المملكة لغزواتِ من البطالسة المصريين ومن الفرتيين الذين جاؤوا من شمال شرق فارس القديمة، أي تركمستان الحالية، وغزَوا بلاد الرافدين، إلّا أنَّ أنطيوخس الثالث استعاد وحدة سورية الكاملة بعد معركة رفح عام 198 قبل الميلاد. والذي نازع هذه القوة المشرقية آنذاك، وإلى الآن، في قوتها وفي مملكاتها، هي «الدودة الرومانية» المتمثِّلة بروما التي استعادت وحدتها في صراع طويل ما بين عامَيْ 510 و264 قبل الميلاد. وقد ظهرت آنذاك مطامع لروما في الشرق، وخصوصاً مصر التي لم تكن لها أيّة مطامع في غربها أي في شمال إفريقيا، لا بل كانت تستمدُّ حضارتها من احتكاكها المشرقي. فالسلالات المصرية الواحدة والثلاثون لم يبرز منها، حضاريّاً، سوى القلة، منها السلالات الثلاث الأولى التي بنت عصر المملكة الموحدة القديمة، تبعتها السلالات الأربع التالية التي أرهقت الدولة في بناء القبور المكلفة (الأهرامات) وتحنيط فراعنتها. وتبع ذلك دخول الهكسوس السوريين إلى مصر في عهد السلالتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة، وكان لهم مشروعٌ حضاري أدخلوه إلى مصر. تبعتها السلالات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرون، أي عهد الإمبراطورية (1573-1085 ق.م)، بقيادة طوطموس الثالث وأمنحوتب الثالث ورعمسيس الأول ورعمسيس الثاني ورعمسيس الثالث. هذا العهد دام أكثر من خمسمئة سنة، احتكت مصر فيه بالمشرق بعد حكم الهكسوس، وبعد ذلك كان الانحدار السريع الذي جلب الفرس، ثم الإغريق والرومان (طه باقر، كتاب تاريخ الحضارات القديمة، حضارة وادي النيل صفحة 25-26 وما يليهما من تفاصيل). وهكذا كانت مصر غربية الموقع وشرقية الهوى. ولكي تستولي روما على مصر، لم يكن باستطاعتها أن تفعل ذلك وهناك دولة قوية في المشرق اسمها سورية تحالفت مع الدولة الكنعانية السورية بقيادة حنّابعل، الذي كان يحاولُ استعادة دولته السورية في قرطاجة.
داخلياً، التشكيك بالعروبة تتبنَّاهُ الاصطفافات الطائفية والإقليمية في المشرق، مع بعض الذين يؤمنون بوحدة الحياة في الهلال السوراقي الخصيب؛ جميعهم يساهمون في «العروبة فوبيا»


جاءت فترةٌ لم تنازع فيها روما بالسيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط إلّا جمهورية الفينيقيين السوريين في قرطاجة. وفي عام 264 قبل الميلاد، أي قبل 32 سنة من اعتلاء أنطيوخس العرش، بدأت الحرب بين روما وجمهورية قرطاحة الكنعانية، ولقرنٍ كامل، كان فيه حصار روما. إلا أنَّ مكر روما، الذي ما يزال فاعلاً إلى اليوم، أدّى إلى اضطراباتٍ في قرطاجة وإلى كسر الحصار على روما وهزيمة حنّابعل وأسْرهِ. بيد أنَّ حنّابعل وَجَدَ حيلةً بالهربِ من الأسر الروماني، ملتجئاً إلى موطن أجداده، طالباً المعونة لاسترداد دولته في قرطاجة، فوصل إلى صور، ومن هناك انطلق إلى أفسس ليعقد حلفه مع أنطيوخس الثالث. إلا أنَّ مكر روما كان فاعلاً هذه المرة أيضاً، فأرسلت وفداً إلى أنطيوخس الثالث وأقنعته بالتخلّي عن حنّابعل. وبنتيجة هذا المكر، قضت روما على المملكة السورية في الهلال الخصيب، واغتصبتها بعد معركة مغنيزيا عام 188 قبل الميلاد (أسد الأشقر، تاريخ سورية ج1، ص: 262). وبعد هزيمة قرطاجة، تعرَّضَت المملكة السورية لسنواتٍ من الاضطرابات، فنشأتْ فيها دويلاتٌ ساعدت الرومان على ترسيخ سيطرتهم على البلاد.
ولم يكنْ وضع إنطاكية مع روما أفضل في القرون الأولى للمسيحية؛ فهي التي قتلت بولس وبطرس والمبشرين الأوائل، ومن بينهم أسقف إنطاكيا أفوذيوس، وإغناطيوس الذي خلفَ أفوذيوس في أسقفية إنطاكية، والذي قبْلَ أن تكَبِّلَهُ روما وتطرحَه للوحوش لتفترسه، أثارت عليه كثيراً من القلاقل، فناشد شعبَهُ خلالها: «اذكروا في صلواتكم كنيسة سورية...»، والاسم «كنيسة»، كما الاسم كنيس، مشتقَّانِ من الاسم «كنوشيا» الآرامي، ومعناه «المجمع» وهو لا يختلفُ عن معنى «الجامع» عند المسلمين؛ والمجمع أو الجامع مكانٌ للصلاة والدعاء للذين تجمعهم عقيدة واحدة. وبطاركة إنطاكية الستة الذين خلفوا رئاسة الكنيسة بعد «شمعون كيپا» (وهو اسمٌ آرامي معناهُ سمعان الصخرة، وكثيراً ما نودي عليه فقط بـ«كيپا»، وبطرس باليونانية يعني الصخرة) رأوا المسيحية فلسفةً روحية أخلاقية تختلف كثيراً عن الفلسفة الإغريقية والقصص التوراتي ولها جذورٌ قديمة. هؤلاء البطاركة اطَّلعوا على الفلسفة اليونانية ومن ضمنها شعر هوميروس وشعر إسيود وأثبتوا «ضآلة الأساطير اليونانية التي تبحث في كيفية نشوء العالم...» وأنَّ الفكر المسيحي هو «أقدمُ بكثير من مشترعي اليونان وشعرائهم». وهذا دليلٌ على أنَّ جذورَ هذا الفكر مشرقية.
أحدُ مفكريهم قال بـ«استحالة التوفيق بين التوراة والإنجيل»، والخيار هو «بين محبة المسيح التي لا نهاية لها وصلاحه السامي، وبين عدالة عبادة إله إسرائيل القاسية مُبَيِّنين أنَّ إله اليهود إله الخليقة والناموس لا يمكن أن يكون هو نفسه إله الرحمة، بل دونه مرتبة". والحقيقة أن المسلمين اختاروا إله إبراهيم «الله» ذا الصفات الـ 99 الحسنى، ولم يختاروا إله موسى «يهوه». وقال أحد هؤلاء الستة يوستينوس بأن اللفظ «مسيحي» كاللفظ «فيلسوف»، وهو الذي «نفخ في الفلسفة اليونانية روحاً مسيحية...». وقد اشتهرت روما في القرنين الأولين للمسيحية بالقساوة والوحشية، فقضت على معظم هؤلاء؛ تارةً بضربهم بالعصيّ حتى الموت، أو بقطع رؤوسهم أو برميهم أحياءً أمام الوحوش لتفترسهم. وفي هذا الخصوص يقولُ المؤرخ أسد رستم: «وقلَّ ضغط الجماهيرِ على الحكّام، ولكن شكاواهم تكرَّرَت وتعدّدت فاتّسع التدقيقُ والتحقيق والتعذيب، وكثُرَ التفنُّنُ في أساليب الإعدام. وسكوتُ المراجع عن حوادث الاستشهاد في سورية في القرن الثاني لا يعني، في حدِّ ذاته، أن السلطات ترفَّعت عن الاضطهاد وامتنعت عن التقتيل. فقد يكون السبب ضياع الأخبار والتاريخ». هذا المسار الإجرامي لم يفارق الرومان إطلاقاً، كما تبيّن في حروبهم الرومانية التي سمّوها «صليبية».
والانفصال الكبير لكنيسة المشرق بعد مؤتمر أفسس عام 431 ميلادية والذي قاده نسطورس أسقف (من السقف) القسطنطينية وريثة روما، وما تبعه من انفصالات عن كنيسة روما، بعد مؤتمر خلقدونية عام 451 ميلادية لم يكن سببها، كما أشيع، الخلافات العقائدية، وإنما حكم إدارة روما العميق المحبّ للسيطرة، وغيرتها من الانتشار الواسع لكنيسة المشرق. في كتابه «كنيسة المشرق» (ص: 46)، المترجَم إلى العربية، يقول كريستوف باومر: «أدّت عملية تنصير الدولة الرومانية، التي بدأت بالإمبراطور قسطنطين، إلى تأميم الكنيسة عندما مَنَعَ في سنة 381 م التحوّل من المسيحية إلى دينٍ آخر»؛ وكان نيرون قبلَهُ قد سَنَّ قانوناً يعتبِرُ كل من اعتنق المسيحية خارجاً على القانون. ولم يكن الهدفُ في الحالتين إلّا سيطرة الدولة وتحكُّمَها بالكلّ، والخلْط بين الدين والدولة، والتعدّي على المسيحية كمنهجٍ روحي إنساني. وروما التي منحت الجنسية لكل إنسانٍ يعيشُ في إمبراطوريتها لم يكن شيئأً نبيلاً تُشكرُ عليه حين نكتشف أن هذا القانون جاء لتشديد الخناق على كلِّ من ليس رومانيّاً، وإخضاعهِ لقوانين أباطرتها الجائرة.
ظهر نسطوروس على المسرح حين عُيِّن أسقفاً على القسطنطينيّة عام 429 م، أي حوالي ثلاث سنواتٍ قبل مؤتمر أفسس، الذي تَمَّت فيه القطيعة بين كنيسة المشرق وكنيسة روما. وكانت القسطنطينية مسرحاً لفوضى دينية وأخلاقية حاولَ نسطور معالجتها وإصلاحها، لكنَّه اصطدم بقوةٍ من سيدة تُدعى بولكيريا هي شقيقة إمبراطور القسطنطينية وكانت تكبرهُ سنّاً، فاستقوت بالجيش، وقبضت على الدولة والكنيسة. «وقد جاءت محاولات نسطور في التهدئة متأخرة كثيراً، لأنَّهُ وُضِعَ في عزلةٍ ولاقى معارضةً من التحالف المعادي، المتكوِّن من بولكيريا، الحاشية، والقيادة العسكرية، والمتوحدين والغوغاء في المدينة...». وقد أدى هذا كلُّه إلى طرده في مؤتمر أفسس عام 431. وفي تصرُّفه كان «مثل ثورٍ في دكانٍ لبيع الخزف الصيني» (كتاب كنيسة المشرق، ص: 51-54 م).
والخلاف الفارسي الروماني أدّى بالفرس إلى اكتساح إنطاكية عام 260 ميلادية وأعادوا السيطرة عام 538 ميلادية. وكان سقوط إنطاكية في يد الفرس مرّاً. ولم يَمحُ هذه المرارة إلّا أذينة الابن، ملك تدمر. ولا يزال البطاركة في الهلال الخصيب يُكَنَّون بـ«بطريرك إنطاكية وسائر المشرق»؛ والمشرق هو الهلال الخصيب. ويصف الدكتور فيليب حتي إنطاكية أيّام عزّها فيقول إنها كانت «أعظم مدينة سياسية في المنطقة كلها. وبالإضافة إلى أهميتها كعاصمة سياسية، كانت مركزاً استراتيجياً عسكرياً وتجارياً. فقد قامت إنطاكية بدور رئيسيّ في التداخل الذي حدث بين الثقافة اليونانية والسامية (المشرقية)، هذا التداخل الذي أدّى إلى ما يسمّى الحضارة الهِلَنْتِسِيَّة (هلينية - سورية)، وقد شملَ هذا التداخل: الميثولوجية، والفن، والفلسفة، والإدارة الحكوميَّة، والتاريخ والجغرافيا، وإلى ما هناك من نشاطات فكرية» (تاريخ سورية، ج1، ص:265-276 ). ويجب أن لا ننسى أن الأيونيين الإغريق في القرون الستة قبل المسيح هاجروا شرقاً إلى غرب آسيا، وتأثَّروا بالمدرسة المشرقية - الخصيبية (يوسف كرم، كتاب الفلسفة اليونانية، ص: 1). والنشاطات الحضارية توزَّعت على مدن الهلال الخصيب المتعددة، إلاّ أنَّ إنطاكية كانت الشمس الساطعة، وكانت تلك المدن كواكبَ تدور في مدار فلكها. وبحقٍّ كانت إنطاكية عاصمة العواصم، إلى أن تمَّ خطفها من قِبل تركيا عام 1939.
ولكن معارك الرد والتحدي لم تنتهِ بهزيمة حنّابعل في زاما وهزيمة الجيش السوري في مغنيزيا. فكما أنَّ الهيلنة، وكذلك الرومنة، لم تستطيعا أن تقضيا على الإرث المشرقي في روحانيته وأخلاقيته وثقافته، وعلى إرادة البقاء والعطاء فيه كما تجذَّرَت وتأصّلت في ضفاف الرافدين وضفاف العاصي، فقد مشت على درب التحدي مدنٌ كالبتراء وتدمر ومكة وبغداد ودمشق وبيروت أمِّ الشرائع، تارةً سيفاً وتارةً فكراً، وتارةً أخرى شرعاً. ولم ينتهِ نفوذ روما إلا على يدِ الإسلام المشرقيِّ برؤياهُ الروحية والدنيوية حين طرد الرومانَ في معركة اليرموك، والفرسَ في معركة القادسية.

اليوم الدودة نمت وترعرعت تحت الأتربة والمُقَنَّعات العديدة، فَوَلَدَتْ تنّيناً في أرضنا المحتَلَّة. ولقد آن الأوان اليوم للمشرق أن يستعيدَ عروبته، ومن أيّ مكانٍ في أرضهِ


الأنباط، في رأي المؤرخ جرجي زيدان، هم من العرب البائدة أو العمالقة، الذين جاؤوا من دولة حمورابي بعد تبدُّدها. وكان زيدان قد قسَّم تاريخ العرب إلى: العرب البائدة، وعرب الجنوب القحطانيين، وعرب الشمال العدنانيين (العرب قبل الإسلام، ص: 11-49). والأنباط بدأوا كبدو الآراميين، وتاريخهم في تأسيس الدولة وانتقالهم من البداوة إلى الحضارة حدث ما بين عام 600 قبل الميلاد إلى أواخر القرن الأول الميلادي.
فالأنباطُ العرب ضمَّت دولتهم سورية الجنوبية وشمال الجزيرة العربية، بينها الحجاز. ويضيفُ المؤرخ الدكتور نقولا زيادة أنَّ رقعة دولتهم شملت صحراء سيناء. وقد ساعد الأنباطَ على إنشاء دولتهم وصمودها في وجه الطامعين بأرضهم طبيعتُهم البدوية التي تتحمَّلُ التقشُّف، فاعتصموا في أرضهم الجبلية الصخرية متمتّعين باستقلال تام. إلّا أن هذه الطبيعة المتقشِّفة لم تمنعهم من الانفتاح على دورة الحياة الاقتصادية في الهلال الخصيب، ومن التفاعل مع حضارته. وتدريجيّاً انتقلوا من البداوة إلى الحضارة. وفي رأي الدكتور فيليب حتي، كان هذا مثالاً على تكرار حادثة في المشرق وهي تحوُّلُ الرعاة إلى مزارعين ثم إلى تجار (تاريخ سورية، ص: 417). أمّا المؤرخ نقولا زيادة فوَصَفَ هذه الحادثة من أروع ما عرفه المشرق من انتقالٍ من البداوة إلى الحضارة (نقولا زيادة ، كتاب شاميات، ص:34). ومظاهر الحضارة عندهم شملت الفلسفة والفنَّ والأدب والتاريخ والجغرافيا، والهندسة والبناء، وصناعة الفخار والفضة والذهب، ومعاصر لاستخراج الزيت من السمسم، ووسائل لاستغلال مياه الأمطار وتخزينها، واستخراج المياه الجوفية التي حَوَّلَت الصحارى إلى أراضٍ زراعية، كما أن عاصمتهم بترا (البتراء) كانت مركزاً تجارياً عالمياً، وكانت قوافلهم تسيطر على طرق التجارة وشرايينها في المشرق. وبلغ الأمن في هذه االبلاد والثقة بشعبها أنَّ الناس في جميع المنطقة كانوا يستودعون أموالهم ومقتنياتهم في خزنة الأنباط في بترا، بعكس ما نراه اليوم من سرقة المصارف لأموال الناس.
يقول الدكتور فيليب حتي (تاريخ سورية، ج1، ص: 426-427 ): «كانت حضارة الأنباط عربية في لغتها، آرامية في كتابتها، سامية (شامية) في ديانتها ويونانية - رومانية في فنِّها وهندستها المعمارية... ولكنها عربية في أساسها وبقيت كذلك... وبالتدريج انفصلت (اللهجة) النبطية عن (اللهجة) الآرامية. وممّا يزيدُ من أهمية الحروف النبطية أنَّ الأبجديةَ العربية قد انحدرت منها مباشرةً». كل هذا لم يعجب «الدودة الرومانية»، فقضت على الدولة النبطية في أواخر القرن الأول الميلادي وربما في أوائلِ القرن الثاني للميلاد.
في صلابتهم البدوية، كان الأنباط أقوى من الصخر الذي شقّوهُ ونحتوه، وفي حنكتهم واستعدادهم الحضاري كانوا أسلس شعبٍ عرفه التاريخ. في خسارتهم للصراع ضد روما، كان فيه مرارة جَسَّدَها الرحابنة في مسرحية بترا خلال هذا الحوار:

«الوزير: حضرات الزوار،
من بلدان،
حكمها الرومان، وصلوا مع القوافل،
جايين يودعوا بخزنة بترا أموالُنْ،
وكنوزُن وذهبهُنْ،
لأنّو روما عم تنهَبهُنْ.
الملك: يا أهالي بترا،
جايي روما تِحْكُمْكنْ،
جايي تِنْهَبْكُن،
تاخذ نسوانكُن سبايا،
وولادْكُنْ عبيد.
الشعب: تسقط روما... تسقط روما... تسقط روما»

وقُرابةَ ذلك الوقت بالذات، كانت دولةٌ سورية عربية أخرى على درب التحدّي والردّ تجمعُ قواها شيئاً فشيئاً بالتمركز في تدمر. واسم تدمر، بحسب تفسير الأستاذ عبد الله الحلو، اشتُقَّ من جذر الفعل الأرامي «دَمَرْ» الذي يعني عَجبَ واندَهَشَ، واسمُ التأنيثِ الأرامي هو «تدمرتا»، فاستُغنيَ عن حرفَي التأنيث الأخيرين. وبالفعل فمدينة تدمر كانت عجيبة ومدهشة (كتاب تحقيقات تاريخية لغويَّة في الأسماء الجغرافية السورية، ص: 150 - 151). أوَّلُ ذكرٍ لتدمر جاء عام 1800 قبل المسيح، وورد ذكرها في وثائق الملك الآشوري تغلات بيلاسر الأول.
تقع تدمر على رأس المثلّث الذي رسمه المؤرخ جرجي زيدان لطرق النقل الاقتصادي في المشرق، الذي ساقُه الشرقية الخط الوهمي بين بابل وتدمر عبر الحيرة، والساقُ الغربية الخط الوهمي بين تدمر والبتراء، وقاعدته الجنوبية الخط الوهمي بين بابل والبتراء عبر الحيرة، والبضائع القادمة من الشرق خلال ميناء البصرة كانت تسلك الساق الشرقية إلى تدمر، وتستعمل الساق الغربية إلى البتراء، وذلك لصعوبة الطريق الصحراوية على قاعدة المثلث (جرجي زيدان، كتاب العرب قبل الإسلام، ص: 112). وكان وجهاء تدمر قد أمَّنوا سلامة طرق القوافل إليها ومنها وبالاتجاهين بفِرَقٍ من الهجّانة. ويرجع الفضل في هذا التدبير إلى أذينة الأب الذي حاز احترام وحماية القبائل العربية في البادية السورية. ومن واحة لاستراحة القوافل، نَمَتْ تدمر واغتنت وكبُرَت إلى أن بلغَتْ أوْجَها كعاصمةٍ لأكبر إمبراطورية في صدر الإسلام. وكان أذينة الأب يجاهر بعدائه للروم ويريد طردهم من بلاده، فقتلوه وتخلَّصوا منه في القرن الثالث الميلادي، وجاء بعده ابنُه أذينة زوج زنوبيا، وكان شجاعاً، اكتسب كأبيه ثقة ودعم القبائل السورية العربية، كما أنه أضَمَر رغبةً في الانتقام لأبيه من روما. جاملته روما وقتيّاً، باعتبارهِ قوةً سورية مشرقية تجابه عدوها الفارسيّ. يومَها كان أباطرتُها في ضعفٍ وخمول، فأُعطِيَ لقبَ أغسطس وملك الملوك عام 262 م وبعدما هزمت تدمرُ فارسَ واستولت على عاصمتها بيرسابوليس، شعرت «الدودة الرومانية» بخطر أذينة ودولته السورية العربية في تدمر، فدبَّرَت له مؤامرة عن طريق ابن أخيه، واغتالته مع ابنه البكر في حادثٍ غامض خلال احتفالٍ في مدينة حمص، فتولّى العرش ابنُه «وهب اللات» (=عطا الله) وكان قاصراً، فتولَّت زنوبيا شؤون الدولة كوصيةٍ على ابنها، وبذلك أعادت سيرة الملكة السورية - الأشورية سميراميس (سمورامات) بحذافيرها حين تولَّت عرش آشور، بعد موت زوجها شمش أَدَدْ، وَأصبحت وصيةً على ابنها القاصر أَدَدْ نيراري، وكان من أحفادها الملك المثقف والشجاع آشور بانيبال (راجع كتاب جيوفاني بيتيناتو، ترجمة د. عيد مرعي).
وبالفعل، وبالرغم من عدمِ إنصاف الروايات العربية لها (في: الأغاني للأصفهاني، وفي تاريخ الملوك للطبري، وفي ياقوت الحموي)، فإن المؤرخ جرجي زيدان ينصفها في كتابه «العربُ قبل الإسلام» فيقول: «لم يبلغ مثلها في النساء، شجاعةً ودهاءً، فضلاً عن جمالها وهيبتها، وكانت سيرتها أقربَ إلى سِيَرِ الأبطال من سير النساء، فلم تكن تركبُ في الأسفارِ غير الخيلِ، وندَرَ أن تُحمل على الهودج. وكانت تُجالسُ قوّادها وأعوانَها وتباحثهم، وإذا جادلتهم غَلَبَتهُم بقوة برهانها وفصاحة لسانها». ويصفها المؤرخ الروماني پولِّيو (Pollio) بأنها كانت سمراء، سوداء العينين، بارعة الجمال، تنتقلُ من مكانٍ إلى آخر في العربةِ وعلى الجوادِ وعلى الأقدامِ وكأنَّها النارُ نشاطاً، وكانت تقاطيعُ وجهها شديدة التعبير عمّا يدورُ في نفسِها من طموحٍ وحُبٍّ للعظمة، ومن قدرةٍ على تحقيق ذلك. كانت قادرةً على أن تظهرَ بمظهر الطاغيةِ الجبّارِ، ولكنها كانت إلى ذلك مثالاً للحُلُمِ والعدلِ، وكانت تجالس قوّادها في المناسبات الضروريَّة.
أما المؤرح اليوناني كورنيليوس (Cornelius)، فيقول إنها مثقفة وتعرف الآداب اليونانية التي يبدو أنَّها تعلمتها من لونجينوس (Longinus)، الأديب والفيلسوف اليوناني الحمصيِّ الأصل (كتاب «العربيات»، نقولا زيادة، ص: 67)، حين كان يُلقّنها الآداب الإغريقية ويقرأ لها ملحمتَي الإلياذة والأوديسة وحوارات أفلاطون، وهو الذي أقنعها بالاستقلال عن روما.
في مقالٍ في جريدة «الحياة» (2 أيلول، 1999) يقولُ الدكتور حسن أحمد أمين إنّ أخلاقها كانت تفيض رقَّةً ودماثةً تُحبِّبها إلى قلوب رعيّتها. وأمّا عقلُها فمثل عقلِ أحكم الرجال، وقد هذّبَته وصقلته بالدراسة والقراءة والبحث؛ فهي كانت تجيدُ العربية واللاتينية واليونانية والسريانية والمصرية.
واستطاعت هذه الدولة بقيادة ملكتها زنوبيا أن تبني واحة حضارية في الصحراء، وأصبحت من القوة بأنها انتقمت لإنطاكية وبترا من الغزاة، واستطاعت هذه المملكة أن تستعيد سورية بالإضافة إلى آسيا الصغرى وشمال الجزيرة العربية؛ وكان مستشار الملكة زنوبيا أُسقفَ الكنيسة المشرقية في إنطاكية. وتحركت «الدودة الرومانية» مرةً أخرى لتقضي على مملكة تدمر عام 274 ميلادية. وكانت هناك مرارةٌ مَرَّةً أخرى، لم يمحُها إلّا مشرقية الإسلام العربيِّ الذي انتقم لتدمر وللبتراء ولإنطاكية، في اليرموك وفي القادسية.
و«الحروب الرومانية» 1095-1291 ميلادية، التي سمّوها «حروباً صليبية»، نعم حملت الصليب وبابا روما حرَّض لها، لكنّ هدفها كان الأرض ونهب خيراتها، وكان الصليب بريئاً منها، إذ كان اجتياح المسيحيين في الرها وضواحيها مقدمتها. وكان بين أولئك الغزاة بعضُ المتعبّدين، لكنَّ الأغلبية كانت قوّاداً عسكريّين طامعين بالاستيلاء على مناطق جديدة، وتجاراً من جنوى والبندقية وبيزا، وخياليين إلى البعيد، ونفوساً مضطربة، وعُشّاقَ مغامرات، ومجرمين وخطأةً أرادوا التكفير عن جرائمهم (تاريخ سورية، الجزء الثاني، ص:223).
والعروبة لم تسلَمْ من غزوِ قبائل المغول والتتار والسلاجقة، فاجتاحت الهلال الخصيب بشراسة الوحوش، وبأيديها اقترفت المذابح وأحرقت مدناً بكاملها.
وداخلياً، التشكيك بالعروبة تتبنَّاهُ الاصطفافات الطائفية والإقليمية في المشرق، مع بعض الذين يؤمنون بوحدة الحياة في الهلال السوراقي الخصيب؛ جميعهم يساهمون في «العروبة فوبيا».
اليوم، الدودة نمت وترعرعت تحت الأتربة والمُقَنَّعات العديدة، فَوَلَدَتْ تنّيناً في أرضنا المحتَلَّة. ولقد آن الأوان اليوم للمشرق أن يستعيدَ عروبته، ومن أيّ مكانٍ في أرضهِ. ولن تستعيد المرجعيةُ أصولَها الروحية - الأخلاقية - الثقافية - الجغرافية إلاّ بعيداً عن الطائفية التي تنهشُ أرضَ المشرق وشعبَه.

* كاتب وطبيب