تعود قصة مصر في ٢٠٢٣ بتطورات مهمة، تمثّل عودة الروح إلى كيانٍ، أو سلطة جديدة، يستقوي على البعض، في ظل حراك جديد وغريب عن الساحة. ما بين حوار وطني جمع بعض المعارضة وقدّم نقداً علنياً على مسمع ومرأى الجميع لأول مرة منذ 2011، وشمل اعترافات بتجاوزات، نجمت عنها توصيات بإطلاق سراح سجناء سياسيين، وعودة المرشح المحتمل أحمد طنطاوي من منفاه في لبنان إلى القاهرة، هناك شيءٌ ما يحدث في مصر. ولكن بعيداً عن التفسيرات السياسية والتكهنات المستقبلية، وتجنيد إعلاميين مصريين من قبل الإمارات وتوجيه انتقادات عبر منصة إعلامية جديدة اسمها «المشهد»، نسرد هنا أربع واقعات اجتماعية واقتصادية تحمل رسائل ومؤشرات سياسية جديدة حول هذا الحراك. ربما أوّل هذه المؤشرات هو عودة سطوع نجم المستشار مرتضى منصور، بعد تنفيذ حكم حبس وصدور حكم بعزله من رئاسة نادي الزمالك. أن يعود في ظروف غامضة ويتمسّك برئاسة النادي، وكأنه ولد من جديد، وبمباركةِ جهةٍ ما، حتى إن هيئة قضايا الدولة، بالنيابة عن وزير الرياضة، طعنت في حكم عزله أمام الإدارية العليا، وهو الطعن المنظور أمام القضاء حتى الآن. كيف عاد منصور، وما علاقته بمصر؟
تمثّل عودة مرتضى منصور، الشخصية الجدلية، عودةً لجناح آخر للدولة، وسط أنباء عن سقوط نادي الزمالك في مديونية ليست بقليلة، والاتجاه السائد نحو خصخصة الأندية في ظل ارتفاع ديون مصر وعدم قدرتها على الوفاء بشروط برنامج صندوق النقد من تعويم وخصخصة بعض شركات القوات المسلحة وقطاع الأعمال. وبحسب تقرير صادر عن المركز المصري للدراسات الاستراتيجية، القريب من دوائر الحكم، فإنّ اقتصاد الرياضة في العالم له عوائد مجزية وهو ما يمكّن من دخول موارد دولارية إلى مصر من مستثمرين أجانب. كما تقول مؤسسة «كارنيغي» إنّ الدولة المصرية تعوّل على الاقتصاد الرياضي لجلب المزيد من الموارد، بحسب رؤية مصر 2030 الرسمية، وهو ما سمح بظهور فرصة جديدة لمعارضة الدولة غلقَها الأندية المصرية وحصر نشاطها بالرياضة والأنشطة الاجتماعية فقط، ولا سيما إذا جاءت هذه الدعوة من حليف إماراتي يموّل اقتصاد مصر الهش الذي أصبح على حافة الإفلاس: خلف الحبتور، برغم نفيه. دعا رجل الأعمال الإماراتي، في أيار/ مايو الماضي، في تغريدة مثيرة للجدل على حسابه في «تويتر»، إلى تحويل الأندية المصرية، التي يمتلكها أعضاؤها كونها مؤسسات غير هادفة للربح، إلى شركات مساهمة، على غرار الأندية الإنكليزية. تمثّل هذه الدعوة، حسب الرؤية الأمنية للنظام المصري، تهديداً. في غضون 2011، تحوّلت هذه الأندية إلى أرضية خصبة للانتخابات من خلال صالونات مناقشة وتعبئة حزبية وشحن لمرشحين مختلفين.
ربما يستعجب البعض هذا التحوّل، إلا أن هناك إجابة بسيطة: في ظل السيطرة الأمنية على الحياة الحزبية، لجأ المواطن إلى النوادي والنقابات للتعبير عن نفسه والبحث عن ممثلين له، وهو ما يفسّر سقوط نقابتين من قبضة الأمن في هذا العام فحسب، وكأن هذه الانتخابات نوع من الاستفتاءات على شعبية السيسي في ظل انعدام الحياة الحزبية والسياسية. ولكن سرعان ما تغيّر الوضع في أحداث ٢٠١٤ حتى دفعت الدولة أعضاء مجالس إدارة الأندية في الانتخابات النيابية إلى سحب أعضاء النوادي، الذين يمثّلون ثروة اجتماعية وقوة تعبوية، ومن ثم عودة هذه النوادي إلى دورها اللاسياسي. إذاً، في ظل دعوة خلف الحبتور، نصبح أمام قراءة مغايرة لعودة المستشار مرتضى منصور، الذي سُرّبت رسالة صوتية لأحد أبنائه منذ عام، لتحجيم نفوذه، وقد غضب عليه من فترة، حتى إنه رجع ليلعب دوراً يستنكر فيه شائعات عرض الحبتور شراء نادي الزمالك.
هناك واقعة ثانية تتماشي مع قراءتنا لأسباب عودة مرتضى منصور، وهي عودة انقطاع التيار الكهربائي مثلما حدث في 2013. تعود الرواية الرسمية لانقطاع التيار الكهربائي لعدم قدرة شركات الكهرباء على التعامل مع الطلب الزائد للغاز الطبيعي بحسب بيان مجلس الوزراء، ولكن هناك عدة تساؤلات بخصوص هذه التفسيرات. أوّلها يتلخّص في عدم قدرة الحكومة على تدبير عملة صعبة لشراء مكونات المحولات الكهربائية وخفض كميات الوقود المستخدمة لتشغيل هذه المحطات، في ظل أزمة تدبير العملة لعمل مولداتها بكامل طاقتها، بالإضافة إلى تحويل جزء من الغاز السائل للتصدير في الخارج لتدبير عملة صعبة في ظل أزمة الدولار، وهو ما نجم عنه انقطاع التيار الكهربائي في مدينة دهب أثناء عيد الفطر لمدة يوم وخروج أبراج الاتصال من الخدمة بعد نفاد المولدات الاحتياطية، الأمر الذي لم يحدث قط من قبل ويثير عدة تساؤلات. فإذا جنّبنا السردية الهندسية حول هذه الانقطاعات، نتذكّر أن أغلب المواطنين يعون أن هذه الأحداث كانت مقدّمات لحراك سياسي في عام 2013 وشحنت الشارع، فهل تكون مقدّمات لحراك جديد في 2024؟
أروقة الحكم في مصر تعاني من التعدّد في الرؤى، وهذا ليس جديداً، أو سيئاً بالضرورة، لكنّ هناك جناحاً قديماً، منذ 2014، أصبح يواجه صعوبات متتالية في إنهاء صفقاته والحصول على أهدافه نتيجة تعثّره أمام جناح آخر


أمّا الواقعة الثالثة، فهي عدم إعلان نتيجة انتخابات نقابة المهندسين، بالرغم من مضيّ أكثر من شهرين، واعتداء أعضاء الحزب الحاكم على المهندسين المصوّتين في الانتخابات وتكسيرهم بعض صناديق الاقتراع بعد صدور مؤشرات فوز المرشح المعارض طارق النبراوي. وهو ما دعا وزير النقل، القيادي السابق في القوات المسلحة الفريق كامل الوزير، إلى مطالبة طارق النبراوي بالتنازل عن بلاغاته ضد البلطجية الذين تعدّوا على أعضاء النقابة. وعلى عكس الواقع السائد منذ 2014، لم تكن الكلمة الأخيرة لرجل القوات المسلحة الفريق كامل الوزير؛ قام وزير الري بمفاجأة الجميع بعقد مؤتمر صحافي مع طارق النبراوي وأعلن تجديد الثقة فيه بالنيابة عن جموع مهندسي مصر، وهو ما مثّل موقفاً مغايراً ومربكاً للخريطة السياسية في مصر.
أمّا الواقعة الرابعة، فلعلّها الأغرب والأقصر، تتمثّل في اكتتاب سهم شركة طاقة الإماراتية وقفز السهم من 50 قرشاً، أي نصف جنيه مصري، إلى عشرين جنيهاً. جاءت هذه الزيادة الطفيفة نتيجةً لتلاعب بعض المكتتبين بالسهم عبر بيعه ثم شرائه بسعر أعلى لخلق حركة طلب صناعية، وهو ما دفع البورصة إلى إلغاء جميع التعاملات على السهم في اليوم التالي.
لكن، كيف تصوّر هذه الواقعات الأربع الحالة السائدة في مصر؟
تشير واقعة مرتضى منصور إلى حالة مزرية ومتدنّية في مصر، حيث الحلول الأمنية وحدود الأمن القومي أصبحت تُخوّل لمنتفعين وشخصيات جدليّة مثل مرتضى منصور، وذلك لخطورة فتح هذه الأندية سياسياً واستخدامها ككارت سياسي. يعلم جموع المصريين بالمشاكل التي كانت تمثّلها السعودية عندما تدخّلت في شؤون مصر، عندما حاول تركي الشيخ التقرّب من نادي الأهلي وتمويله والتبرّع له وربما شراءه لاحقاً، كما يعلمون بقصة محمد بن سلمان عندما مكث في مصر، وكما تقول الشائعات تزوج تركي الشيخ بالمطربة آمال ماهر، ثم منعها من الغناء، حتى سرت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لإنقاذها. وإذ فجأةً تدخّلت هذه القوة العجيبة، ثم عادت آمال ماهر إلى الساحة الفنية وأحيت حفلة في العلمين الجديدة بحضور نجوم، وسط توجيهات جديدة ومغادرة محمد بن سلمان مصر. مراد هاتين القصتين، أنه ربما في الماضي كانت الدول الخليجية تأخذ ما تشاء لكن لم يعد هذا الوضع مقبولاً، على الأقل لهذه الجهة.
تشير الواقعة الرابعة، في المقابل، إلى أنّ الحصار على الاقتصاد المصري من قبل الإمارات جاء في صورة دعم مباشر، وهو ما بدأ في 2013 في ظل ودائع دولارية في البنك المركزي المصري، ولكن جاء الآن زمن جني أرباح هذه الاستثمارات السياسية من قبل السعودية والإمارات، وإذا كان أوّل درس سياسي يتعلّمه أي حاكم، بل وزير، أن ليس هناك شيء مجاني أو خدمات بلا مقابل. بات علينا الاعتراف بأن الخليج هو أول من حاصر مصر اقتصادياً عندما قدّم لها طوق نجاة في 2013 في صورة ودائع بنكية لرفع الاحتياطي النقدي، ثم تطوع بخبرائه لإصلاح الاقتصاد، وذلك لأن هذا الإصلاح ما كان سوى فرصة سانحة للخليج لبسط عضلاته السياسية، واتضح أن أولئك الخبراء ما هم إلا مستثمرون ينتظرون فرصة لتدوير أموالهم، حتى وإن كان ذلك بمخالفة أبسط قواعد البورصات العالمية، والتي، في أي دولة أخرى، كانت ستنجم عنها محاكمة جنائية.
أمّا واقعة نقابة المهندسين، فهي تكشف أن أروقة الحكم في مصر تعاني من التعدّد في الرؤى، وهذا ليس جديداً، أو سيئاً بالضرورة، لكنّ هناك جناحاً قديماً، منذ 2014، أصبح يواجه صعوبات متتالية في إنهاء صفقاته والحصول على أهدافه نتيجة تعثّره أمام جناح آخر. ربما ما هو أغرب أن عودة الروح هذه المرة لهذا الجناح عادت بالتواصل مع كوادر من المعارضة وقيادات من الشعب. بمعنى، أنه بدلاً من اللجوء إلى حلول فوقية وحسم هذه الاختلافات داخلياً، أصبح هناك اتجاه نحو التواصل مع المعارضة والتعاون معها والتكاتف، وهو الدرس المهم على الجميع استيعابه: صحيح أنّ قوة الشعب تولّد فوضى ومشاكل ومتاعب، لكن الشعب في الآخر هو الحل الذي لجأت له هذه الجهة، فلا يمكن تجاهله أو مخاطبته في لقاءات عنجهية وخطب انتقائية وتوجيهات أبوية. لا ندري ما سيحدث في الانتخابات الرئاسية المبكرة، وإن كانت ستتم في ظل رقابة قضائية حسب الدستور، ولكن ربما تكون انتخابات نقابة المهندسين بوادر لما قد يحدث في الانتخابات الرئاسية، بمعنى أن يتم الدفع بمرشحين متعددين، ولكن النظام يجد صعوبةً في إعلان النتيجة.
على صعيد آخر، علينا الاعتراف بأن واقعة انقطاع التيار الكهربائي والمياه عن بعض القرى والمدن تنذر باقتراب أزمات جديدة، ربما لعدم قدرة مصر على تدبير موارد دولارية، أو ربما لسببٍ آخر. ولكن ما يمكن أن نقوله هو الآتي: آخر فصل في الصراع على الحكم لم يُكتب بعد، وهناك لاعبٌ جديد استرجع روحه وعاد إلى الحلبة.

* باحث مصري