في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عشر سنوات (نهاية كانون الثاني عام 2014)، ألقاها المفوّض الأعلى (السابق) لشؤون اللاجئين أنتونيو غوتيريس، الأمين العام (الحالي) للأمم المتحدة، ورد فيها: «إنّ عبء اللاجئين على البلد الصغير لبنان، على سبيل المثال، يماثل تدفّق نحو 15 مليون لاجئ إلى فرنسا، و32 مليوناً إلى روسيا، و71 مليوناً إلى الولايات المتحدة». ومع بداية العام الـ13 على استضافة لبنان للاجئين السوريين، فهو يواجه اليوم أزمة وجودية غير مسبوقة، كونه الدولة التي تضمّ أعلى معدل للاجئين في العالم بالنسبة إلى مساحة الأرض وعدد السكان. وبينما يتناقص عدد اللبنانيين نتيجة هجرة الشباب ونقص الولادات، تتزايد بالمقابل أعداد النازحين واللاجئين، ما أدى إلى تحولات كبيرة في البنية السكانية الإجمالية. وحيث يهاجر اللبناني للبحث عن عمل وجنسية ووطن في الخارج، تتوفر رعاية أممية شاملة لغير اللبناني على الأرض اللبنانية، من التعليم إلى الصحة والعمل ورعاية الأطفال، حتى تم تحويل لبنان إلى خزان كبير على وشك الانفجار.

تصويت البرلمان الأوروبي لإبقاء النازحين في لبنان
يُعتبر تصويت البرلمان الأوروبي بعدم الموافقة على عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، والمطالبة بحمايتهم في لبنان، بمثابة سابقة خطيرة لم تشهدها أيّ دولة في العالم منذ تاريخ إنشاء المفوضية العليا للاجئين عام 1951، وهو اعتداء بارز على سيادة دولة صغيرة قدّمت نموذجاً عالمياً لا مثيل له في تاريخ اللجوء، وفتحت حدودها وكامل أراضيها لاستقبال اللاجئين طوال أكثر من 12 سنة، حتى بات عددهم يُقارب ثلاثة ملايين لاجئ، أي ما يوازي قرابة نصف عدد المقيمين على الأراضي اللبنانية.

(أ ف ب)

وتعود أهمية القرار على المستوى الدولي، إلى أنه يمثل 27 دولة أوروبية، «موجّه إلى المفوضية، والأمين العام للأمم المتحدة، والأمين العام لجامعة الدول العربية، ورئيس الجمعية البرلمانية الأورومتوسطية، والحكومة والبرلمان في لبنان».
وهو أيضاً يتطابق مع كلام وزير خارجية الفاتيكان، أمام الوفد البرلماني اللبناني الذي زاره في 21 تشرين الثاني 2018، حيث قال إنّ «المجتمع الدولي برمّته ضدّ عودة النازحين السوريين إلى وطنهم».
وبينما كان ينتظر لبنان تقديم الدعم والمساعدة من المجتمع الدولي في مواجهة المخاطر والتداعيات الناجمة عن تكاثر أعداد النازحين السوريين وغيرهم من اللاجئين، فقد فوجئ عندما صوّت البرلمان الأوروبي، يوم الأربعاء بتاريخ 12 تموز 2023، بأغلبية ساحقة على قرار يدعم إبقاء اللاجئين السوريين في لبنان، حيث بدأت تتوالى المواقف السياسية المعارضة للقرار والمؤيّدة لعودة النازحين، من الأطراف اللبنانية كافة، وذلك في غياب السلطة الحاكمة التي لا تزال تلتزم الصمت الرسمي في مواجهة الموقف الأوروبي للخوف من تداعياته، حيث سارع وزير الخارجية للاعتذار عن ترؤّس الوفد الوزاري الذي كان يتحضّر لزيارة دمشق بقرار من مجلس الوزراء، للاتفاق على نقاط خطة العودة والمراحل الزمنية للتنفيذ.
لقد فشلت السلطة السياسية في لبنان في إدارة وتنظيم ملف النزوح السوري، كما فشلت سابقاً في إدارة ملف اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948، بينما استغلّت المنظمات والهيئات الدولية والمحلية حالة الفراغ والتصدع والانقسامات السياسية في الداخل، فاستباحت سيادة الأراضي وتسلّمت ملفات اللاجئين وباتت تتلقّى الدعم المالي وتضع البرامج وتنفذها على امتداد الجغرافيا اللبنانية، حتى أصبحنا اليوم أمام خريطة ديموغرافية جديدة. فقد تحوّل لبنان، البلد الصغير بمساحته وعدد سكانه، إلى مخيّم كبير تديره المفوضية العليا للاجئين بالتعاون مع العديد من المنظمات الدولية والجمعيات الأهلية، وبالتعاون مع الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود «فرونتكس». وذلك في غياب السلطة الحاكمة التي تخلّت عن إدارة الأزمة.

لازاريني: العالم مدين للشعب اللبناني
إنّ ما يثير الاستغراب في قرار البرلمان الأوروبي، كونه «يعرب عن قلقه من تصاعد الخطاب المناهض للاجئين من قبل الأحزاب السياسية والوزراء اللبنانيين»، وهو «يحثّ لبنان، في حالة اتخاذ أي إجراء بشأن الهجرة، على الامتناع عن الترحيل وفرض إجراءات تمييزية والتحريض على الكراهية ضد اللاجئين السوريين».

وهذه أبرز النقاط التي تضمّنها قرار البرلمان الأوروبي:
- يشدد على عدم استيفاء الشروط للعودة الطوعية والكريمة للاجئين في المناطق المعرّضة للنزاع في سوريا؛ وأن عودة اللاجئين يجب أن تكون طوعية وكريمة وآمنة، وفقاً للمعايير الدولية (المادة الرقم 13 من قرار البرلمان الأوروبي)
- يدعو إلى استمرار تقديم المساعدات الإنسانية للسكان اللبنانيين واللاجئين، مع ضوابط صارمة؛ وإلى تشكيل فريق عمل دولي بمشاركة الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والسلطات اللبنانية لمعالجة قضية اللاجئين
- يدعو لبنان إلى الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967
- يعرب عن قلقه من تصاعد الخطاب المناهض للاجئين من قبل الأحزاب السياسية والوزراء اللبنانيين. ويحث لبنان، في حالة اتخاذ أي إجراء بشأن الهجرة، على الامتناع عن الترحيل وفرض إجراءات تمييزية والتحريض على الكراهية ضد اللاجئين السوريين
هذه العناوين لا تتطابق مع ما قدّمه لبنان من تضحيات، وذلك بالمقارنة مع مقالة كتبها فيليب لازاريني، المنسّق المقيم ومنسّق الشؤون الإنسانية في لبنان (سابقاً)، قبيل انعقاد أول قمة عالمية للعمل الإنساني في إسطنبول عام 2016، فهو يعتبر أن «العالم مدين للشعب اللبناني والسلطات اللبنانية على كرمها»، وهي بحسب قوله: «مناسبة لتقديم لبنان كمثال في تحويل الاستجابة الإنسانية» (مقالة منشورة بعنوان «دروس من لبنان لمؤتمر القمة العالمي للعمل الإنساني»، أخبار الأمم المتحدة، 2016).

هل نسيت أوروبا ماضيها وتاريخها؟
لقد احتضنت أوروبا أوكرانيا لأنها داخل حدودها، وقامت بتوزيع اللاجئين وتوطينهم ومساعدتهم داخل بلدانها، بينما هي تحاصر اللاجئين في بلدان الشرق الأوسط وتمنع عبورهم البحر المتوسط، فقد نسيت أوروبا أن سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، هي التي استقبلت ملايين اللاجئين الذين غادروا أوروبا عبر البحار خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قامت إدارة الشرق الأوسط للإغاثة واللاجئين، بإنشاء مخيمات لاستقبالهم ورعايتهم في مخيمات: حلب في سوريا، والنصيرات في فلسطين، ومخيّمات الشط وخطاطبة وطولمبات في مصر.
اليوم، لا يحق لأوروبا التي شهدت موجات هجرة ضخمة وعانت من حروب الإبادة والتهجير أن تقفل أبوابها وتطرد اللاجئين، بينما يعتبر الاتحاد الأوروبي لبنان بمثابة خط دفاع، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأردن وتركيا التي فرضت شروطها لمنع اللاجئين من العبور إلى بلدان أوروبا.

عصر الحدود في العالم لحماية أوروبا
وبينما تقفل أوروبا أبوابها وحدودها بوجه اللاجئين وتنفق المليارات على مراقبة وضبط الحدود، تبدو الحلول للاجئين طويلة الأجل، بما في ذلك إعادة التوطين أو العودة إلى الوطن أو الاندماج في المجتمعات المحلية. لقد سمحت بلدان أوروبا بمحاصرة اللاجئين حيث يعيش على الجزر اليونانية الكثير من طالبي اللجوء في «مخيمات جماعية» معزولة، وهم ممن فروا من ويلات الحروب في سوريا وأفغانستان. وتُظهر ظروف الإقامة في هذه الجزر إخفاقات أوروبا في إدارة الهجرة، حيث الاحتجاز الفعلي لطالبي اللجوء يتم في مركز تحميه الأسلاك الشائكة والمراقبة المتقدّمة، ويعزل الناس عن المجتمع المحلي.
إنه عصر الحدود عند أبواب أوروبا، بحيث إن النظام العالمي لحماية اللاجئين يُعاني من الانهيار، ويبدو هذا واضحاً من العشوائيات والمخيمات المنتشرة خلف حدود مغلقة في مختلف الأراضي اللبنانية، بينما تُشدّد الحراسة والمراقبة على الحدود والموانئ والمعابر البحرية، لمنع اللاجئين من الهروب في قوارب الموت، حتى تحوّل البحر المتوسط إلى مقبرة اللاجئين عند أبواب أوروبا، بينما يُهرّب البشر على متن قوارب الصيد من مختلف البلدان المتوسطية، حيث توجد أكثر طرق الهجرة خطورة في العالم.

لبنان خط دفاع أول عن أوروبا
عام 2016، أعلن فيل جونسون، رئيس الخبراء في المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة (الذي يُعنى بمشروع تعزيز القدرات الوطنية للإدارة المتكاملة للحدود في لبنان ومكافحة الهجرة غير النظامية) أن «الاتحاد الأوروبي يعتبر لبنان خط دفاع، ويمكننا القول إنّ حدوده قد تكون بداية حدود الاتحاد الأوروبي».
ولحماية حدود أوروبا فقد طالب البرلمان الأوروبي بدمج النازحين السوريين في البلدان المضيفة، لهذا فقد أعلن لبنان رفضه لمضمون البيان المشترك الذي صدر في 9 تشرين الأول 2019، عن لجنتي الشؤون الخارجية والميزانية في البرلمان الأوروبي، وجاء فيه: «ضرورة تأمين الاندماج والتوظيف على المدى الطويل بطريقة متماسكة مع المجتمعات المضيفة».
وفي عام 2021، استقبل وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي، نائب رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، الذي شكر لبنان على «كيفية تعامله مع النازحين السوريين»، متمنياً «المساعدة في الحد من الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من لبنان إلى بيلاروسيا باتجاه دول الاتحاد الأوروبي»، حيث تجاوب لبنان عبر حصر الرحلات من مطار بيروت إلى بيلاروسيا بواحدة أسبوعياً.

كيف يُعاد اللاجئون إلى أوطانهم؟
يتبيّن بحسب تفسير «القاموس العملي للقانون الانساني»، أن قرار البرلمان الأوروبي، وبالرغم من براءة الكلمات التي يتضمنها في تحليل الأحداث لجهة التحقيق في الفساد والدعوة إلى مساءلة المسؤولين في لبنان، فإنه يقع في مجال الدعاية السياسية والعسكرية لجهة محاصرة اللاجئين في لبنان، لحماية حدود أوروبا ومنع تدفق المهاجرين عبر البحر المتوسط.
والبارز في المواد التي تتعلق بعودة النازحين، أنها تتعارض مع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تتعلق بالقانون الإنساني وحقوق الإنسان وقانون اللاجئين والقانون الجنائي الدولي، والتي تنص على تقاسم المسؤولية الدولية في حالات اللجوء الطويل الأمد، لجهة «إعادة التوطين» في بلد ثالث، وبما يتلاءم مع مقدرة المجتمعات المضيفة على الصمود والاستيعاب، وبخاصة في البلدان التي تواجه تحديات جديدة هائلة تفوق إمكاناتها وتشكّل مخاطر على وجودها.
ويقدّم الدليل العملي للقانون الإنساني المعنى الدقيق المتعلق بعودة اللاجئين وفق عدة أسباب، أهمها:
- في حالة تغيّر الظروف السائدة في البلد الذي هربوا منه،
- يجوز للدولة المضيفة تشجيع العودة في حال عدم تمكنها من تحمل الأعباء التي يمثلها اللاجئون.
- كما يجوز إجبار اللاجئين على العودة إلى بلدانهم بسبب أنواع الضغوط المختلفة.
هذه البنود الثلاثة تكفي لأولئك الذين يحلّلون الأحداث المتعلقة بعودة النازحين لفهمهما بالمعنى الدقيق وتحليل الجوانب كافة، السياسية والأمنية والاقتصادية، وبما يتلاءم مع مصطلحات ومفاهيم وقواعد القانون الدولي الإنساني، لتطبيقها في لبنان.

مناطق آمنة في سوريا تقابلها عودة آمنة للنازحين
بينما يستمر الخلط بين «اللاجئين» و«المهاجرين» في لبنان، ودون تطبيق القوانين التي تنظم استقبال المهاجرين، نرى أن عدداً كبيراً من السوريين المسجّلين لدى المفوضية كلاجئين لا تنطبق عليهم شروط الحماية الدولية للاجئين، فهم يعودون إلى بلد المنشأ في سوريا من حين لآخر، وخصوصاً في فترة الأعياد، ويتنقلون عبر الحدود، ثم يستمرون في الحصول على الرعاية وقبض المساعدات الدولية في لبنان.
بحيث إنه «قد ينتقل المهاجرون عبر الحدود الدولية لتحسين حياتهم من خلال البحث عن عمل، أو في بعض الحالات من أجل التعليم أو لمّ شمل الأسرة... أولئك الذين يغادرون بلدانهم لهذه الأسباب لا يُعتبرون في العادة لاجئين بموجب القانون الدولي»، بل ينطبق عليهم مصطلح «المهاجرين الاقتصاديين» للبحث عن عمل (بحسب تصنيف المفوضية).
أمّا في حالة لبنان، فهو لم يوقّع اتفاقية اللاجئين لعام 1951، ولم يوافق على البروتوكول التابع لها عام 1967، كما أنه لم يوافق على إعطاء النازحين السوريين صفة لاجئين، حيث لا يزال يعتبرهم نازحين، وقد حان الوقت لعودتهم بعد استقرار الأوضاع الأمنية في سوريا، وذلك على قاعدة أن «إنشاء مناطق آمنة في سوريا تقابله عودة آمنة للنازحين في لبنان».

* رئيس مركز السكان والتنمية