هل من رابط ما بين الصّيام كعبادة، وما بين العدالة؟ الجواب: نعم.وبيان ذلك أنّ الصّيام في حقيقته يعني التّرفّع على الشّهوات والماديّات والغرائز والأهواء، والتّسامي روحيّاً ومعنويّاً وقيميّاً، بما يفضي إلى حضور التّقوى في النّفس الإنسانيّة، بما هي -أي التّقوى- فعل ردع عن ارتكاب الرذائل والآثام والذّنوب؛ ومن هنا نفهم ما جاء في القرآن الكريم من تحديد المقصد العام للصّيام بالتّقوى: «كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون». أي إنّ الهدف من الصّيام هو تعزيز التّقوى في النّفس من أجل لجمها عن ارتكاب المعاصي والموبقات.
وما ينبغي أن يضاف إلى ما تقدّم هو أنّ صلة جوهريّة قائمة ما بين العدالة والتّقوى، حيث يقول القرآن الكريم: «واعدلوا هو أقرب للتّقوى». فكلّما كانت التّقوى حاضرة كانت العدالة أقرب إليها، وإلى جنبها. وتفسير ذلك أنّ العدالة -كفعل إنصاف- تستلزم أن يخرج الإنسان من سلطان أهوائه وشهواته وأنانيته حتّى يمكن أن تستوي نفسه مع الآخر، فيكون منصفاً معه. وهذا ما تحقّقه تقوى الله تعالى، لأنّها عندما توفّر القدرة على لجم الشّهوات وضبطها، فهي توفّر القدرة على فعل العدالة.
وعندما نصل ما بين الصّيام -كعبادة- وما بين العدالة، يضحى واضحاً الوصل ما بين الصّيام والإصلاح، لأنّ العبادة -بما فيها الصّيام- تهدف إلى خروج الإنسان من جميع العبوديّات الأخرى، من عبادة الدّنيا والأهواء والأنانيّات... للولوج في عبادة الله تعالى الواحد الأحد. وهو ما يفضي إلى صناعة روح العدالة في الإنسان، والتي تؤدي في مجمل أبعادها التّربويّة والأخلاقيّة والقيميّة إلى صناعة إنسان العدالة، حيث لا تستوي هذه الصّناعة إلّا من خلال إصلاح النّفس الإنسانيّة، إذ إنّ حقيقة صناعة إنسان العدالة هو إصلاح هذه النّفس في داخل إنسانها.
وعندما ننتهي إلى هذا الوصل ما بين العبادة والعدالة وإصلاح النّفس، فهو ما يمهد ويساعد على تحقيق الإصلاح في مختلف مدّياته وجميع أبعاده الاجتماعية والاقتصادية...، لأنّ أيّ إصلاح مهما اختلفت تسمياته واتسعت مدّياته، لن يصل إلى غايته ما لم يبدأ من إصلاح النّفس الإنسانيّة. ولن تصلح هذه النّفس ما لم تكن لديها إرادة قويّة وواعية ومؤثرة لتحقيق هذا الإصلاح. وقد لا تستطيع أيّ أيديولوجيّة أو ثقافة أو قيم أن توجد تلك الإرادة وذاك الوعي، كما يستطيع الدّين في قيمه الجادّة وعبادته الهادفة وفهمه الحقّ.
إنّ أهميّة هذه القراءة أنّها تصل ما بين العبادة وما بين الإصلاح، حيث تضحى العبادة في حقيقتها فعل إصلاح للنّفس وللمجتمع، ويغدو الصّيام دعوة إلى الإصلاح بالعدل، وتصير الصّلاة فعل نهي عن جميع المنكرات السّياسيّة والاقتصادية والماليّة وعن أيّ فحشاء اجتماعيّة أو أخلاقيّة، ويصبح الحجّ براءة من طواغيت المال والاقتصاد والسّياسة وسوى ذلك.
إنّ العبادة -بما فيها الصّيام- بناء على ما تقدّم، لا تبقى شأناً فرديّاً أو مجرّداً أو طقوسيّاً أو محصوراً في جدران المساجد والكنائس، بل تصبح أيضاً شأناً اجتماعيّاً وعمليّاً وإصلاحيّاً، قد يبدأ من المسجد والكنيسة، لكنّه يتّسع في دلالاته ليشمل المجتمع -كلّ المجتمع- في جميع أبعاده. بهذا المعنى لا تستقيم عبادة المؤمن وتحقق هدفها ما لم يكن صالحاً بل مصلحاً، ولا يمكن لعبادته أن تكون ذات مغزى ما لم تفض إلى صناعة العدالة، ولا يمكن للمساجد والكنائس أن تحقّق رسالتها ما لم يثمر صوت آذانها وأصوات تراتيلها إصلاحاً في مختلف ميادين الحياة الإنسانيّة وشؤونها.
إنّ من يعود إلى سيرة جميع الأنبياء والرّسل يجد أنّهم كانوا إصلاحيين بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، بل كانوا يجدون أنّ معنى عبادتهم هي أن يكونوا حاضرين في المجتمع بكلّ قوّة لمواجهة جميع أشكال الفساد سواء كان اجتماعيّاً أو اقتصاديّاً أو أخلاقيّاً أو ثقافيّاً أو ماليّاً...
نعم، ولتحييد دور الدّين في المجتمع، والعبادة في العدالة والإصلاح، عُمل على الفصل ما بين الدّين والاجتماع العام، وعُمل على طقسنة فعل العبادة، وعُمل على تحريف الوعي الدّيني ليكون مجرّداً من دوره وتأثيره في الإصلاح ومواجهة الفساد، بل ليكون -إن أمكن- في خدمة السّلاطين والمترفين وطواغيت المال والفساد.
إنّها دعوة إلى وعي فلسفة العبادة ورسالة الصّيام، التي يجب أن تكون في خدمة الإنسان وصلاحه، والوطن وإعادة بنائه. وهذا لا يستقيم إلّا من خلال مواجهة الفساد بجميع أشكاله وصوره. وهذه المواجهة لن تؤتي أكلها ما لم نعِ أنّ العمل على اقتلاع جميع جذور الفساد هو فريضة دينيّة كغيره من الفرائض، وأنّ تحقيق الإصلاح من أبلغ العبادة، وأنّ مواجهة جميع أشكال الظّلم الماليّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ من أهمّ ما يتقرّب به عبدٌ إلى الله تعالى.

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة