يُعدّ التواضع أمراً جميلاً ومرغوباً في إطار الإيمان، كما يُعدّ الله مصدر كلّ حقيقة في هذا الكون، فهو الذي وضع قوانين هذا الكون وأسّسها على معادلات رياضيّة يكتشفها الباحثون والباحثات أجيالاً بعد أجيال، وهو الذي أسّس قماشة هذا الكون الفيزيائيّة - الكيميائيّة ووضع في وسطها أواليّات (mechanisms) دفعت البيولوجيا، أي الحياة كما نعرفها، إلى أن تولد من الفيزياء والكيمياء. انطلاقاً من هذه الرؤية، لا يمكن أن نرى حقيقة في هذا الكون إلّا ونرى الله وراءها، وهو في هذه كلّها ينكشف ويختبئ معاً أمام عين الإيمان. فبينما نكتشف الحقائق ويقرأها القلب ولكأنّها رسالة حبّ من كاتبها (أي الله)، يعرف الإنسان أنّ الله يبقى أبعد وأكبر بما لا يُقاس من كلّ الحقائق التي «كتبها» لنا في هذا الكون، من كلّ الجمالات التي وضعها في «زجاجات» العلوم والتي يُخاطب بها القلب كي يجد ضالّته التي تناديه في عمق الكيان الإنسانيّ. ففي عين الإيمان كلّ كلمات الكون، ومنها كلمات العلوم، تشير إلى الكلمة الإلهيّة الخالق: «كُن فيكون».وهناك أيضاً الحقائق الاجتماعيّة والاقتصاديّة حول ما خلقناه نحن كبشر من خلال علاقاتنا بالطبيعة وببعض. هذه الحقائق أكثر تعقيداً من الفيزياء والكيمياء أحياناً لأنّ العلاقات أصعب من أن تُختزل في معادلة. رغم ذلك، هناك ملامح واضحة لأنواع من العلاقات والشخصيّات تعرّفنا عليها علوم النفس (نرجسيّة، ساديّة، مازوشيّة، استغلاليّة،...). وأبعد من ذلك، فإنّ الأمر المحسوم في العلوم المختلفة هو أنّ الظواهر التي نراها لها أسباب ترتبط بالبيئة، والبيئة ترتبط بالهيكليّات والبنى. حتّى ولو كانت أسس الظواهر بيولوجيّة، جينيّة مثلاً، فالظواهر غير حتميّة، فالجينات نفسها ليست حتميّة، بل تُشكّلُ ميلاً لحدوث أمر لا يُصبحُ حقيقة إلّا في حال كانت البيئة تحفّز الجينات. فمثلاً قد يكون لدى الإنسان جينات سكّري، ولكن حظّه بأن يُصاب بالسكّري يتصاعد إن كان يعيش في بيئة غير صحّية (يأكل طعاماً غير صحّي مثلاً)، والبيئة غير الصحّية هي البيئة الحتميّة لكلّ فقير. ولكن بيئة الفقر غير الصحّية هذه هي وليدة البنية الاقتصاديّة - السياسيّة لبلد ما؛ فإن كانت البنية الاقتصاديّة - السياسيّة تسمح لمجموعة صغيرة من الناس باستغلال المجموعة الأكبر، فلا بدّ أنُ من تُنتِجَ بيئة الفقر.
عندما نكتشف هذه الروابط بين الظواهر الاجتماعيّة (الصحّية وغيرها) وبين البيئة والبنى، ونبيّنها إحصائيّاً (المراجع أكثر من أن تُحصى) فهذا يعني أنّنا نُقارب حقيقة اجتماعيّة اقتصاديّة سياسيّة لم يخلقها الله على هذه الأرض، وإنّما خلقتها خيارات الإنسان داخل الحياة التي خلقها الله، أي نحن نكتشف مبادئ حول الإنسان وعلاقاته الفرديّة والجماعيّة. وفي هذه الحقيقة التي نكتشفها بين الظواهر والبيئة والبنى يقرأ المؤمن أيضاً حضور الله في الأواليّات التي خلق الإنسان عليها، فمثلاً، يمكن للمؤمن أن يرى في هذه الحقيقة أنّ الله خلق الإنسان للمشاركة والتعاضد اللذين يسمحان للفرد والجماعة البشريّة بأن ينتعشا صحّياً ونفسيّاً؛ ويمكنه بذلك أن يفهم أنّ وصايا الأنبياء بالمحبّة والتراحم وبأن يشارك الإنسان خيراته ويدافع عن المظلوم فلا يترك الناس فقراء، ليست وصيّة خارجيّة مفروضة فرضاً على الإنسان بشكل يُعاكس مصلحته، وإنّما هي تنبيه إلى طبيعة العلاقات التي تُحقّق للإنسان الفرح، وتنعش الجماعة البشريّة، يكتشف أنّها وصايا متناغمة مع «طبيعة» الإنسان وليست ضدّها.
لهذا كلّه، ليس من المهمّ في عينَي المؤمن إن كان مكتشف الحقيقة الكونيّة أو الإنسانيّة مُلحداً أو مؤمناً، ففي اكتشافات هذا وذاك يقرأ القلب كلمات الله وملامح وجهه القيّوم. ولهذا فإنّ الفوقيّة والشوفينيّة الدينيّة التي يتعامل فيها كثير من المؤمنين مع الملحدين والمؤمنين من الطوائف والأديان الأخرى، والتي تجعلهم يرفضون حقائق يكشفونها للناس في هذا العالم، فقط لأنّهم لا يدينون بنفس الموقف الدينيّ الذي لا علاقة له بالحقيقة المكتشفة، هو موقف الإنسان المنغلق المكتفي بذاته الذي لا يريد أن يُتعِبَ نفسه باكتشاف الجديد، فيتمسّك بالجهل وهو يظنّه إيماناً. والحقيقة أنّ موقف الرفض هذا موقف منافق لأنّ ما من أحد من هؤلاء المتديّنين يشترط ليأخذ حبّة دواء أن يكون مخترعها مؤمناً، أو مؤمناً من دينه وطائفته؛ فعندما تكون المصلحة الشخصيّة الصحّية في الميزان يفقد هؤلاء فوقيّتهم ويعيدون اكتشاف التواضع أمام الحقيقة.
بالنسبة إلى ماركس - رحمه الله وأعلى من شأنه في الملكوت - فهو كشف حقيقة لا لُبسَ فيها أنّ البنى المستغِلّة التي تُسَمّى الرأسماليّة، تولّد بيئة قاتلة جسديّاً ونفسيّاً وروحيّاً (المراجع أكثر من أن تُحصى هنا أيضاً)، ولكن بينما البعض يرى الحقيقة ويتمسّك بها ويقرأ فيها ملامح الله وخلقه البشر على طبيعة تنمو وتنتعش بالمحبّة المشارِكة ولهذا تتوق إلى العدل وتعمل من أجله، يرتع البعض الآخر في العتمة منغلقين ومتمسّكين بفوقيّة وهميّة، وما ذلك إلّا من أثر بيئة مجتمع الاستهلاك وبريقه الذي يُفقِد البصيرة، ودخان الدعاية الرأسماليّة والتديّن المنغلق الفوقيّ الذي يخفي طبيعة حياة الزومبي التي تقدّمها الرأسماليّة لسكّان هذه الأرض: أن يعيشوا طوال العمر يحلمون بغدٍ أفضل، بينما هم يتمسّكون ببيئة استغلال وقمع تسبّب الموت المعنويّ والجسديّ بالفقر والعزلة والجهل والتفكّك والحروب، وتحجّم في الناس رغبتها بالمحبّة والمشاركة.
* كاتب وأستاذ جامعي