ثَمَّ حرقٌ لأحداث الفيلم، لكن الحرق في العنوان. فالفيلم يحكي قصة الشاب التونسي، علي، الذي يحلم بأن يهاجر إلى أوروبا «حرقة» (سرّاً، بشكل غير قانوني)؛ وقصة الغضب الذي يحرقه بينما يشعر بالعجز أمام واقع يغلق أمامه فرص العيش الكريم، وحرقة قلب علي، والمشاهد العربي معه، على أحلام انتفاضات 2011، وأخيراً حرق علي لنفسه أمام مبنى الولاية في استعادة للمشهد الذي ألهب هذه الانتفاضات.
علي الذي يحترق بنار القهر
تدور أحداث الفيلم، الذي أخرجه المصري-الأميركي لطفي ناثان، بعد هذه الحادثة بعشر سنوات من إحراق محمد البوعزيزي لنفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد ومن انطلاق الانتفاضة في تونس ثم مصر. وقد أصبحت السلطات من بعد تلك الحادثة تضبط بيع الوقود وتمنع بيع البنزين من دون رخصة (كان القانون التونسي بالفعل يتطلب ترخيصاً خاصاً لبيع تلك المواد لكن السلطات أصبحت تمعن في تنفيذ هذا القانون من بعد حادثة البوعزيزي)، فنمت على أطراف هذا المنع سوق سوداء للمازوت المهرب وأصبحت الأجهزة الأمنية تمارس سلطتها عن طريق اقتطاع خوة يومية من البائعين. وهنا وجد علي، الشاب الطموح الذي يحترق بالأحلام وبالرغبة في أن يحقق شيئاً لذاته، والذي لا حظّ له في التعليم ولا في الوظائف الرسمية، نفسه يبيع المازوت المهرب، ويرفض في أول الأمر أن يعمل مهرباً، بالرغم مما في ذلك من مكسب أكبر، لأن المخاطرة هي الأخرى أكبر.
ثم يموت والده فيعود إلى بيت العائلة الذي كان قد تركه وهو يطارد أحلامه، فيجد أن البيت مهدّدٌ بالحجز إذ إنّ الأب كان مديوناً للبنك. يتجدّد إحساس علي بالمسؤولية نحو أختيه الأصغر منه، ويقرر أن يعمل في التهريب لكي يجني مالاً أكثر. ولكن المال الذي يجنيه لا يكفي فتتصاعد حسرات علي إلى أن تصل إلى صدام مع الشرطي الذي جاء ليحصل رشوته في يوم لم يجن فيه علي كثيراً ليضربه الشرطي ويسرق ما معه من مال فيبدأ علي في الانفجار غضباً في الشارع ولدى المؤسسات الرسمية انتهاء باحتراقه أمام مبنى الولاية.

توظيف العناصر
أبدع الممثل التونسي الفرنسي آدم بيسا في دور علي، وبالذات في تصوير تصاعد الإحباط والغضب كأن ناراً بالفعل تحرقه.
وبالتوازي، وظّف مخرج الفيلم النار لتكون عنصراً من عناصر الحكاية. في أحد المشاهد يقول علي «كنت ناوي نحرق»، في إشارة إلى حلمه بالهجرة، وفي نبوءة قاسية بالموت الذي سينتهي به الفيلم والذي يخيم على تفاصيله من البداية. نسمع عن النار في نشرات الأخبار التي تتكرر خلال الفيلم وتعيدنا مرة بعد المرة إلى حادثة البوعزيزي، وإلى تكرارها مع تنامي الأزمة الاقتصادية. ونرى النار في المازوت الذي يسيل حول علي، والذي تجد أخته رائحته فيه، وفي الدخان الذي يحيط بعلي الذي يدخن بشراهة، وكذلك في سيجارته المطفأة أمام مبنى الولاية في مشهد مبكر، إذ يذكره العامل أنه من الممنوع أن يدخن أمام المبنى فيقول له «وهل تراني أشعلتها»، وذلك في نفس المكان الذي سيحرق نفسه فيه في نهاية الفيلم.
وبشكل ما، فإن حكاية الفيلم هي حكاية هذه «الحرقة» التي نظنها في أول الأمر شرارة الأمل (سواء كانت حلم علي بالهجرة حرقة، أو كانت تضحية البوعزيزي التي كانت شرارة لحلم وئد مبكراً) ثم تستحيل ناراً تأتي علينا وعلى أحلامنا.
وفي مقابل توظيف النار، نرى الماء: في البحر الذي يحمل الأمل في الهجرة، والذي يود علي أن «يحرق» من خلاله، والذي يجد فيه لحظات مسروقة من المتعة عندما يسبح فيه بمنأى عن المكان المخصص للسياح، والذي تأتي منه أخبار الغارقين الذين حاولوا الهجرة، وفي دلو الماء المثلج الذي يغوص فيه برأسه، ربما ليطفئ نار غضبه، وربما لأنه يفكر في الانتحار. وفي اللحظات الأخيرة قبل إشعال النار في نفسه، يرى علي نفسه جالساً على شاطئ البحر يتطلع بعينيه إلى الأفق. هذا التوظيف يسهم في رسم رسالة الفيلم القاتمة: إذ إن النار ونقيضها، النار وما يطفئها، قد يمثلان الأمل في لحظة معينة ولكن هذا الأمل قد استحال يأساً.

المهزوم بطلاً
ينحو سرد الفيلم، على لسان أخت البطل، إلى نوع من الأسطورية. ولكن هذه الأسطورة لا تحكي لنا قصة صعود بطل على طريقة الأساطير القديمة أو على طريقة الأفلام التجارية الرائجة، بل قصة العامل وهبوطه، إلى عالم التهريب السفلي، وإلى الفشل والإحباط.
طبعاً لا ثورية في الفشل والإحباط—ومن مميزات الفيلم أنه لا يضفي هالة مثالية على إحباط البطل أو انتحاره. ولكن الثورية هنا في أن الفيلم يفرض التعاطف مع علي من دون أن يروضه من أجل عين المشاهد.
وبالرغم من أن الفيلم هو فيلم تجاري يستهدف جمهوراً برجوازياً عالمياً -وجمهور المهرجانات بالذات، وبالتالي لا يمكن تصنيفه ضمن «السينما المناضلة» أو «سينما الطبقة العاملة»- فإن الفيلم لا يحاول استئناس علي ليناسب ذائقة هذا الجمهور؛ لم يحاول أن يجعله قريباً إلى القلب في تصرفاته العادية بل إنه في بعض الأحيان يبدو ثقيلاً، حتى على نفسه، وإن كان طبعاً قريباً إلى القلب في مثابرته وقدرته على التضحية.
وفي الوقت ذاته، نرى بطولة هذا الشخص العادي الذي تجبره الظروف على مواجهة المخاطر مرة بعد مرة من أجل لقمة عيش إخوته. هذه البطولة فريدة إذ لا تجعل البطل منتصراً، بل على العكس تفرض علينا التعاطف معه في خيباته وهزائمه. مرة أخرى لا نريد، ولا يريد الفيلم، إضفاء هالة مثالية ما على الخيبة والهزيمة، ولكن ثمة ما هو ثوري في كسر أيديولوجيتي الفردية والنجاح الفردي اللتين تفرضانهما هوليوود على الذائقة العامة.

مأساة علي
ربما كان الفيلم بحاجة إلى المزيد من التفاصيل لدفع حبكة الفيلم؛ فبينما يمتلئ الفيلم بإشارات إلى نهايته، فإننا لا نرى انفجار غضب علي وصولاً إلى إحراقه لنفسه إلا في الدقائق الأخيرة. أو ربما كان ذلك مقصوداً: إذ إن النار تأكل علي طوال الفيلم حتى ينفجر في النهاية.
وبنفس المنطق، فإن لحظة احتراق علي قد تبدو محيرة إذ لا ينتحر في أكثر لحظات الغضب ولا في أكثر لحظات اليأس، وإنما بعد أن يكون قد أسهم في تأمين حلول مؤقتة لأختيه، إذ وجدا سكناً مؤقتاً وإذ سلمهما المال الذي كان قد جمعه من التهريب والذي لم يعد مجدياً في فك رهن بيتهم القديم. فلربما لم يكن احتراق علي مجرد رد فعل انفعالي على ما مر به، بل قراراً واعياً أن يكبت رغبته في الانتحار إلى أن يترك لأختيه حلولاً مؤقتة ليتدبرا أمرهما من دونه.
لا ندري هنا إن كانت هذه التضحية الأخيرة قراراً بالتخلص من وجوده الذي كان يشعر به عبئاً عليه وعلى الآخرين أم احتجاجاً على ما مر به من قهر وظلم. ولكن العمل الذي أقدم عليه هو في حد ذاته عمل يمحو الحد الفاصل بين ما هو شخصي وما هو سياسي، عمل يرى الجسد واقعاً في قبضة القهر ولا يرى خلاصاً من القهر إلا بالخلاص من الجسد.
وهنا تتجسد مأساوية هذه الحكاية إذ يحترق جسد علي بينما يمر المشاة من حوله من دون أن ينتبهوا له. فإذا كانت شرارة البوعزيزي في عام 2010 قد أشعلت ثورة في تونس ثم مصر -ثم البرتغال واليونان وصولاً إلى وول ستريت- فإن الشرارة التي يشعلها علي في نهاية الفيلم تذهب أدراج الريح.
* باحث عربي