كنّا قد قاربنا في مقالة أولى (راجع «الأخبار»: «في لبنان ومستقبله») سابقة مسألة الكينونة وتأرجح لبنان بين منازلها، ووقفنا على الأمارات أو الإشارات التي يمكن البناء عليها لتطوير منزلته إلى مجتمع سياسي معقول المبتنيات، وفي مقالة ثانية (راجع «الأخبار»: «في لبنان ومستقبله: الكيان وتحوّلاته») درسنا أبرز التحولات الكيفية التي يمّر بها الداخل اللبناني وضرورة تحديد العميق منها والجوهري والحيوي لاستيعابه في عملية تعمير الكيان وتطوير منزلته. ونوّهنا في مقالة ثالثة (راجع «الأخبار»: «في لبنان ومستقبله: البيئة الخارجيّة وتحوّلاتها») بطبيعة التغيّرات الدولية وأهمية أن نرقب الذي يكون منها منسجماً مع حركة التاريخ لكي نستفيد منه ونتفاعل معه بما يخدم غرضنا في تمتين كينونة البلد بدل أن يكون الخارج عامل إضعاف. لكن حريّ القول إنّ كل هذه الإحاطة ومساعي الاستشراف تبقى معلّقة على إخراج اللحظة الراهنة، فالتجربة اللبنانية اليوم بكلّها على المحكّ، والنظر إلى المستقبل لا ينفّك يرتبط بالحاضر وباللحظة وإخراجها التاريخي. هنا يصبح السؤال الملحّ، كيف نربط «الآن» بمخاطره وتحدياته الماثلة مع المستقبل الذي نريد تعميره أو ترميم بنائه؟ كيف يُفترض أن نُقارب هذا «الراهن» وبأي منظور؟ يقول العقل، عندما نكون في لحظة تنافر البناء الفوقي مع التحتي - المجتمع - وتنكشف هشاشة البنية الفوقية وعقمها، وفي لحظة تهاوي أعمدة ومرتكزات وبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية تاريخية شكّلت هيئة لبنان التاريخية وصورته، وفي لحظة موت القديم وفي لحظة تقدّم التهديد الاقتصادي ليحوي التراكمات والخلافات المتراكمة والأزمات المطّردة، وفي لحظة خارجية يغيب عنها الربط المفترض بين «القوة - السلطة - المسؤولية - القيم»، وفي لحظة ترسيم توازنات وحدود - ليس بالضرورة جغرافية - ولحظة إنتاج أدبيات ومفاهيم سياسية جديدة... بكلمة أخرى: في واقع مضطرب يعتريه السيلان، فإن العقل يفيد بضرورة أن تبحث في الأولوية الملحّة، وتجدّ بالعمل لتعزيز احتمالات الفرص من جهة ثانية، وربّما المبادرة لإنتاج فرصة ما أمكن بدل الانتظار. وما ميّز الشعب في لبنان هو قدرته على إنتاج الفرص في التجارة ردحاً من الزمن، وفي المقاومة والسياسة ردحاً آخر.
لكن قبل ذلك، نحتاج إلى أمرين: الأوّل، إعادة تفسير المشكلة وتأويلها بأمانة ومسؤولية - تحديد علّتها الأولى - والتمييز بين أصل المشكلة والعوامل المساعدة أو المحرّضة catalyst. فما وصل إليه البلد اليوم هو بالحقيقة نقطة تجمّع سياقات وأزمات ومفارقات استفحلت والتقت عند هذه النقطة، وفي لحظة إقليمية ودولية سيّالة ومتهافتة، ما جعل مصير الكيان اللبناني مهدّداً. والثاني، تحديد نقاط القوّة الوطنية بدقّة. فدون الأمرين لا يمكن إخراج هذه المرحلة بتقليل الخسائر وتخليق الفرص.
إنّ لبنان اليوم منقسم طولياً بين خطين عرضين، أو لنقل فهمين - بعيداً عن الاتهام والتخوين. الإيجابي الجديد في هذا الانقسام هو تميزه عن الانقسامات التي رافقت تاريخ لبنان، ليس انقسام «مسيحي - مسلم» ولا «لبناني - فلسطيني سوري» ولا «كينونته - من عدمها»، هو بامتياز انقسام بين «فئات لبنانية ممتدة في تاريخها على هذه الجغرافيا منذ قرون»، على «معنى ومضمون استقلال لبنان وكيفية تحقيق ذلك»، وعلى «دوره».
بالنسبة إلى الفريق الأوّل، لبنان المفضّل لديه والمأمول هو الذي على صورة 1943، أي ميثاق جبل لبنان - بيروت، بينما يرى الفريق الآخر أنّ صورة لبنان هي ما علينا النظر فيها للمستقبل على وقع التحوّلات الداخلية والخارجية المنسجمة مع حركة التاريخ (وليس أيّ تحولات). ويرى أنّ الحالة القديمة (الميثاق) هي قاصرة عن تلبية أسئلة اللبنانيين للحاضر والمستقبل، فضلاً عن أنّها مسألة إشكالية بين بنيه (اللبنانيين).
الفريق الأوّل لا يزال يرى في الغرب النموذج ومثال الحياة والمعنى، بينما يرى الفريق الثاني أنّ العالم تغيّر والغرب بالخصوص تراجع بشكل مريع في أنظومته الفكرية ونموذجه وما استتبع ذلك في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع ونظام الحكم، وأنّ العالم الآخر قد استفاق. وعليه، فإنّ لبنان لا يمكن أن يقوم إلا بتنويع نظرته وخياراته والتقاط إشارات العالم الجديد الناشئ وتحولاته الإنسانية والحضارية الطابع والتفاعل معها.
الفريق الأوّل يرى أنّ هويّة لبنان مهدّدة بسبب المقاومة (حتّى لو كانت لبنانية الانتماء والجذور وليست فلسطينية أو غيره كما من قبل)، بينما يرى الفريق الثاني أنّ المقاومة أصل في لبّ هوية لبنان وأنها استعادت الروح والثقة لشعوب المنطقة وأتاحت بنواتجها حظّاً لكل اللبنانيين في التقديم لهذا البلد والبذل وإعلاء شأنه وحفظه، ما أشعرهم بأنّ لبنان بلدهم وأنّهم سواسية مع الآخرين في عمارته. وهذا بدوره مهّد لنظرية عدالة ومساواة فعلية بين مكوناته، لأنّ العدالة لا تقتصر على «التوزيع»، بل أيضاً على «العطاء» للوطن.
الفريق الأوّل يرى في لبنان طفلاً صغيراً مدلّلاً يعطف عليه الآخرون ويحتضنونه، لذلك يرى قوّته في ضعفه ودمعته، بينما يرى الفريق الثاني أنّ هذا غير عقلائي ولا يمكن أن يكون مقبولاً في أيّ زمن ولا في عالم اليوم. وأنّ من يفترض لبنان رسالة وحديقة فوّاحة، فهل يمكن أن تكون الحديقة بلا سياج حامٍ يقيها الأعداء ويسمح بتدفّق قيمها وتقديم نموذجها – سياجاً وليس جداراً. التجربة، وليس فقط النظرية، أوصلتنا إلى حقيقة مفادها أنّ لبنان لا يقوم إلا بـ«بسطةٍ في العلم والجسم»، وإلّا بأن يبني ذاته بذاته لا باعتراف الآخرين. وأنّ درب الجلجلة والمجاهدة فتح سبلاً كثيرة وحرّر البلد من أطواق وأغلال، وأعطى أملاً فعلياً للتخلّص من بقية الأغلال.
الفريق الأوّل يرى التسوية مع «إسرائيل» هي الحلّ للمنطقة ولا يستحي أن يقول بالتطبيع بذريعة أن لا نكون ملكيين أكثر من غالبية الأنظمة العربية، وأنّ لبنان يدفع فوق طاقته في هذا الصراع (علماً أنّ أيّاً منهم لم يكن شريكاً فعلياً في الصراع ضد إسرائيل، بل كلّ صراعاته كانت تنافسات داخلية وأحياناً برّر لنفسه التحالف معها)، بينما يرى الفريق الثاني أنّ مسار التسوية دُفن إلى غير رجعة وأصبحنا في مكان آخر، وأنّ أميركا، في ظل أحاديّتها مطلع التسعينيات، فشلت في إنجاز تسوية وتطبيع مع الشعوب، فأنّا لها أن تنجح اليوم بعدما أصبحت هي أضعف وعدّوها أقوى ممّا كان عليه. وأنّ «إسرائيل» في تخبّط غير مسبوق وأضعف من أيّ وقت مضى وسرديتها وفكرتها المنشِئة تهاوت. وأنّ الشعوب العربية تعود لتجتمع على القضية التي مهما حاول البعض الهروب منها والتخفّي عنها، فإنّها تلاحقه وتطارده، فمن أينما بدأت تنتهي بفلسطين! ولا يقول فريق المقاومة إنّ لبنان هو الذي عليه الاضطلاع بقضية فلسطين وتحميله فوق طاقته، كأن يكون المسؤول الأوّل في المسألة، بل يرى أنّ قوّة لبنان ومنعته إزاء العدو الإسرائيلي واستقلال قراره الفعلي هما الهديّة الأمثل للشعب الفلسطيني ومقاومته الشريفة والملهم الأبرز لكل المقاومات ضد الهيمنة في منطقتنا.
المقاومة ترى نفسها في موقع أفضل من الأميركي والغرب في الساحة اللبنانية، وهي اليوم بعدما وصل البلد إلى ما وصل إليه من واقع أليم أكثر قدرة للمبادرة ومبرراتها تتقوّى عمّا قبل


الفريق الأوّل، حتّى لو قبل بهذه النتيجة، أي أنّ الصراع مع العدو الصهيوني هو لب الصراعات في المنطقة، إلا أنه يسأل إلى متى سنبقى في هذا الصراع، نحن نريد أن نرتاح. بينما يرى الفريق الآخر أنّ أمام لبنان خيارين؛ إمّا أن نعتبر أنّنا في لعنة الجغرافيا ونقمتها، أو أنّنا أمام احتمالية فرصة وعلينا تخليقها، ومن جهة ثانية إنّ الأصعب في هذا الصراع قد ولّى حين كنّا ضعافاً وكان أعداؤنا أقوياء، ليس المطلوب اليوم إلا توحيد الصفوف ورصّها وتحصين البنية الداخلية لانتزاع مصالحنا. والوقائع تفيد بأنّ لبنان اليوم قادر على فرض شروطه وتجيير عناصر قوّته لتعزيز موقعه ومكانته واقتصاده وغير ذلك، بأسرع وقت، وتقديم نموذج ومدرسة للجميع؛ كيف أن البلد الأصغر والأقلّ سكاناً والأكثر تنوّعاً وتسامحاً هو الأقدر على إنجاز أشبه بمستحيلات وبثّ روح التحرّر والتقدّم في الإقليم.
الفريق الأوّل يرى أنّ لبنان ليس له إلا أن يكون حيادياً «نظرياً»، بينما يرى الفريق الثاني أن لا معنى للحياد في عالم تتداخل مجالاته وقضاياه وموضوعاته وتندكّ، كما لا معنى للرسالة إذا لم تكن التزاماً وشهادة حق، وهو ما يميّز لبنان عن غيره من الكيانات، ويرى أنّ استمرارية أيّ كيان، ومنها لبنان، بفرادته، تتوقّف على أن يكون في الجانب الصحيح من التاريخ وأنّ لبنان الأكثر أهلية من بين العرب لقول الحق والشهادة «ولو بقدر»، كيف وأنّ الصراع في منطقتنا يتمحور حول «إسرائيل» وتكاد لا توجد مشكلة في منطقتنا إلّا ولها جذر في هذا الصراع أو أنّها من نواتجه.
الفريق الأوّل يروّج في خطابه أنّ الفساد ظاهرة إلى حد ما «جديدة» أو نشأت مع الطائف وأنّها نتاج تواطؤ بين الفاسدين والسلاح وأنّه لا يمكن مواجهة الفساد طالما السلاح موجود.
بينما يرى الثاني أنّ الفساد هو منظومة بدأت مع نشوء الكيان، فكان فساداً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، مقنّناً تارة، وسافراً تارة أخرى، وتعزّز مع الطائفية التي لم يقبل الفريق الآخر بغالبيته بإلغائها منذ 1926. ويعتبر أنّ تملّص الأطراف الذين أداروا البلد منذ النشأة من مسؤوليتهم حيال ما وصل إليه لبنان ورميها على الفترة الأخيرة مجافاة للعلم والحقيقة. وأنّ محاربة الفساد بشكل خشن في ظل غياب مؤسسات قضائية دونها حرب أهلية، كون الفساد متغلغلاً في المؤسسات الاجتماعية والسياسية، بل وحتّى الدينية، ومؤسسات الدولة، ولا سيّما القضائية. ويشير إلى أنّ المؤسسات لا يمكن أن تعمل في بيئة سياسية مضطربة ودولة جزر أو أرخبيل كما هي الحال في لبنان. ومع ذلك، لا ينكر هذا الفريق، أي فريق المقاومة، أنّ مسألة الفساد عابرة للانقسام القائم وموجودة عند غالبية من في الطرفين ولو بدرجات متفاوتة، لكنّه يسأل: مَن من القوى المخاصمة له بادرت بشكل عملي إلى مقاضاة الفاسدين ومحاكمتهم وحالَ هو دون قيامهم بذلك، بل تراه هو قد بادر وقدّم اقتراحات عدّة لمواجهة الفساد، ويعتبر نفسه أنّه أوّل المتأذّين من الفساد، وخصوصاً أنّ بيئات المقاومة هي الأكثر معاناة تاريخياً على الصعد الاقتصادية والمالية مقارنة بالآخرين الذين رُعوا من الخارج لقرون واحتضنهم الخارج بكل الأبعاد (لا بأس من قراءة متأنية للتاريخ والتمييز الضارب في أصل نشأة الكيان اللبناني في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمكونات).
يختلف الرأيان في كل شيء تقريباً، إلّا ما نوّهنا له في النصوص السابقة والمقال الأوّل، ولكن أيضاً يتشابهان بأنّ لكل منهما سنداً عربياً وإقليمياً ولو بتفاوت، وأحياناً دولي - بغضّ النظر عن مدة الرعاية الخارجية زمنياً وأهداف وغايات اهتمامه وإلخ - ويتّفقون على أنّ الكلّ في الخارج يحتاج إلى لبنان، إن لأسباب جيوبوليتيكية أو ثقافية بحتة أو أيديولوجية أو إنسانية وغيره. إنّ هذا التوافق يحقّق نقطة قوّة لأنّه يقود الجميع عملياً؛ يدفع الموقف اللبناني لـ«يرفع السعر» بغضّ النظر إذا كانت خلفيته خلفية تاجر، أو معتدّاً بنفسه إذا كان شوفينياً، أو مقدّراً لذاته ومكانتها إذا كان مقاوماً.
آخر الخلافات بين الفريقين هو على تفسير ما وصل إليه البلد اليوم من انهيار شبه تام وكيفية التعاطي معه. فما وصل إليه لبنان اليوم هو ليس إلا نتاج تباينات ومفارقات لبنانية وخارجية وتجلّياً لها. إنّ اللحظة التي يمرّ بها لبنان اليوم هي تعبير عن أعلى مراحل الصراع وتجلّياته في لبنان وعليه. الأوّل يقول إنّ مشكلتنا الاقتصادية والنقدية والمالية سببها وجود المقاومة وقوّة تأثيرها، ولولاها ما وصل البلد إلى هذا الدرك وكان قد لاقى دعماً خارجياً وفيراً وانتعش، وعليه لا يجب أن ندخل بحلّ لا يحسم هذا الأمر ولا يجب أن نوافق على انتظام سلطة تتوافق مع المقاومة حتّى لو كان ذلك يرتبط بموقع الرئاسة ورمزيته في لبنان. بينما يرى الفريق الآخر بطلان هذا الرأي وأنّ المشكلة كامنة أولاً وأساساً في الضغوط والمنع الأميركي المباشر لمآرب سياسية معلومة، وأنّ الفساد الداخلي، وسوء الإدارة والتخطيط، رغم خطورتها لكنها تبقى عاملاً محفّزاً، أي catalyst، للمنع الغربي ومدخلاً للابتزاز (الموقف الأوروبي حتّى لو كان متمايزاً نظرياً، لكن لا يرقى إلى أن يكون مختلفاً في الواقع).
الحلّ، من وجهة نظر الأوّل، مشروط بوضع خريطة طريق تؤدّي إلى إنهاء حالة المقاومة بالاستعانة بالغرب وبعض الإقليم، وبرأيه هذه الفرصة الأخيرة الممكنة أمامه، وهو لذلك يبرّر كل صنوف الضغط الخارجي على البلد للوصول إلى الهدف. وفي خط موازٍ يسعى على الصعيد المالي والاقتصادي في العودة إلى صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية والغربية المانحة. بينما الحلّ، من وجهة النظر الثانية، هو في تعزيز أوراق القوّة والتماسك الداخلي واستخدامهما لإسقاط ورقة المنع الأميركية أولاً، وبعدها، أو بجنبها، وضع مسار لوقف الفساد والهدر وتحضير البنية لمحاسبة الفاسدين، إذ دون بنية جدّية لدولة وقضاء ومؤسسات يمكن محاسبتها حربٌ أهلية! ويكمل فريق المقاومة متسائلاً: أوَليست الطبقة السياسية الفاسدة بغالبيتها من تركات الغرب وصناعة أميركية سراً أو علناً. يرى فريق المقاومة أنّ للمقاومة شرعية داخلية عابرة ولا يمكن مواجهتها كونها مصدر قوّة لبنان الرئيس الوحيد إلى جانب الجيش، ويرى في الرهان على الغرب رهان من يرمي «بأفوق ناصل»، ويهيب بخصمه النظر لقوى أهمّ بالنسبة إلى الأميركي والغرب كيف تخلّى عنهم في لحظة العسرة. كيف والحال أنّ سياسات أميركا تعاني من تهافت شديد في الإقليم، وأنّ مناخ المنطقة واتجاهاتها المتصاعدة تسير لفقدان مرتكزات هيمنة أميركا وسيطرتها، ناهيك عن وضعية الكيان الصهيوني وأزماته المستفحلة وتخبّطه التاريخي وغير المسبوق، وتراجع مكانة حلفائه العرب التقليديين ولا سيّما الخليجيين، وكذلك المسار الدولي والتحوّل الجاري عالمياً. لذلك يعتبر فريق المقاومة أنّ موقفه أقوى وحجته أبلغ.
الأوّل يرى أنّ المخرج من الأزمة الاقتصادية يمرّ بالغرب ومؤسساته، كما أسلفنا، ويراهن على العودة إلى القديم والإبقاء على نظام اقتصادي حرّ من دون أن يعرّفه، أمّا الطرف الآخر فيرى أنّ هناك فرصة لكسر الطوق ورفع الفيتو عن بلدنا وهناك جهات عدّة خارجية حاضرة في ظلّ التنافس الدولي المتزايد وإرادة القوى الدولية لبناء علاقات، وأنّ لكل اللبنانيين أصدقاء، والصديق وقت الضيق، وليتّجه كل طرف للإفادة من صداقاته للخروج من النفق حالياً وضخّ الروح، وبموازاتها نبدأ بالمسارات الإصلاحية المتوسطة والطويلة المدى. وأنّ لبنان يمتلك مقوّمات قوّة هائلة وطاقة بيضاء وهو مجتمع صغير بنهاية المطاف وليس عاجزاً عن أن ينهض بوقت قصير إذا توافرت الإرادة ونظّمنا جدول خلافاتنا.
وعليه، لا يبدو أنّ للفريق الأوّل أي رؤية أو مقاربة جدّية سوى تكرار المكرّر الذي أوصلنا إلى ما صرنا فيه وأنّه لا يمتلك قوّة داخلية للإنقاذ وأنّ رهانه على إسقاط المقاومة ليعيد بناء البلد تبدو سراباً وغير واقعية ومخالفة لمسار المنطقة ولإرادة غالبية اللبنانيين. بينما يبدو للفريق الثاني فرصة احتماليتها كبيرة لإنقاذ البلد مستخدماً أوراق قوّة لبنان الذاتية أوّلاً، كما حصل في موضوعة ترسيم الحدود البحرية وترقّب التعاطي مع الاستخراج بدون تسويف، وهو ما يمكن أن يُبنى عليه وعلى مثله الكثير. فالمقاومة ليست فرصة حماية للبنانيين والعرب فحسب، إنّما هي أيضاً فرصة نماء إذا ما أحسنّا استثمارها... وعلى خط آخر، يرى فريق المقاومة التهيؤ لملاقاة مناخات التحوّل الجارية على الصعيد الإقليمي (عودة تركية عربية إلى سوريا وتواصل يتقدّم بين الإيراني والسعودي) وانشغال أميركا بحروبها الفاشلة والعدو الصهيوني بمشاكله المتفاقمة.
لذلك، فإنّ مقاربته للمرحلة الحالية هي مقاربة سياسية بامتياز، وإذا كان الانتظام السياسي سيبدأ من رئاسة الجمهورية لحفظ مؤسساته والإصرار على حفظه، فيفترض أن تكون المقاربة لرئاسة الجمهورية سياسية، نحتاج إلى رئيس قادر على الإفادة من نقاط قوّة لبنان وعلى التواصل مع أوسع شريحة داخلياً ومدّ الجسور والتوصيل خارجياً، ويمتلك شجاعة الانحياز لمصلحة لبنان وصاحب موقف واضح من القضية الفلسطينية وأحقّية مقاومتها... فالإنقاذ لا يمرّ في هذه اللحظة إلا بهذه المقاربة.
لكن، ماذا لو ذهب الأميركي إلى الأمام بدل التراجع؟ فغامر بدفع البلد إلى الفوضى لفرض شروطه؟
نقول إنّ المقاومة ترى نفسها في موقع أفضل من الأميركي والغرب في الساحة اللبنانية، وهي اليوم بعدما وصل البلد إلى ما وصل إليه من واقع أليم أكثر قدرة للمبادرة ومبرراتها تتقوّى عمّا قبل إذا ما عزمت أو إذا لم يراجع الأميركي سياساته. هي تحوز اليوم غطاءً شعبياً عربياً وإسلامياً كبيراً في لبنان والمنطقة يرتقب منها التحرّك والمبادرة، ناهيك عن أنّ المسيحيين بجلّهم تراجعوا أن يكونوا سند الأميركي أو بيدقه في لبنان كما الخمسينيات، لقد اكتووا بما فيه الكفايه من سياسات أميركا ومجازفاتها بهم وما أوصلتهم إليه. ربّما تعيد أميركا النظر في سياستها وما وصلت إليه، لقد هيأت لعدوّها الأوّل في لبنان، أي المقاومة، مسرحاً بلا تهديدات جديّة تُذكر، أراحتها من معادلات مستحكمة لعقود، كسلطة المال والنقد والمصارف والاقتصاد الريعي والتركيبة الحزبية التقليدية المكبّلة نتيجة الـ«فيتوات المتقابلة» بين القوى. من حيث لا تدري أو تدري، ضربت أميركا أبرز مرتكزات نفوذها التاريخي، واقعاً هي تخسر بالمعنى الكلّي حتّى لو ضغطت أو حققت مكسباً بالمعنى الجزئي. هل حسبت أميركا لذلك حساباً أم هي كما حال سياستها أخيراً: أساءت التقدير؟
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نلفت إلى أنّ تعثّر أميركا في ملفاتها الدولية وفشلها البائن قد يُلجئها إلى مقايضات مع القلقين والمتخبّطين عموماً في كل مكان، وخصوصاً «إسرائيل» من خلال تبادل خدمات فنصير أمام تحالف القلقين الأميركي - الصهيوني، فتورِّط أميركا الغير في أزمتها العالمية الملحّة مقابل ثمن لهم. أميركا اعتادت التضحية بالآخر من أجل مصلحتها فقط. والتعاطي مع الهيمنة الأميركية في هذه المرحلة من التاريخ لا يمكن أن يقوم بعيداً عن تفعيل النظرية الاستباقية أو الوقاية، وتوسعت خيارات وأوراق اللعبة كون الأخيرة تعمل بكل طاقتها لإحداث انقلاب في المسار الدولي لاستعادة نفوذها المتراجع، والتراجع عكس التقدّم، تراه سريعاً ويصعب إيقافه.

* باحث لبناني