ولد المفكر اللبناني حسين مروة (1910-1987) في قرية حداثا قضاء بنت جبيل في جبل عامل، وهو ابن رجل الدين الشيخ علي مروة. تلقى دراسته الإسلامية في جامعة النجف في العراق، ثم عمل مدرساً لمدة شهر في مدرسة ابتدائية في البلد، وبعدها أبعد عن العراق على أثر مقالة نشرها بعنوان «العقل والعاطفة عند نوري السعيد». إلا أنه كان يلتقي في دمشق الشاعر أحمد الصافي النجفي والكاتب التقدمي سليم خياطة ومعروف الأرناؤوط ثم انحاز إلى الفكر العربي. نال جائزتي «اللوتس» و«بيروت» وغيرهما. كما تأثر بالفكر العربي والوطني المعادي للاستعمار وكان لأثر نكسة 1967 نصيب في كتاباته. انتظم رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني عام 1951 ونشر العديد من الدراسات والمقالات في جريدة الحزب «النداء». دعاه الصحافي كامل مروة للعمل في جريدة «الحياة»، فكتب زاوية يومية سمّاها «أدب»، ثم عنوان «مع القافلة»، أي قافلة التقدّم، لتكون هوية الزاوية يسارية، لكنه ترك العمل فيها عام 1957 غداة مقتل الصحافي نسيب المتني. كتب «تراثنا كيف نعرفه» و«دراسات نقدية على ضوء المنهج الواقعي» وأصدر كتاب «النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية» في عام 1978.

قومي، شيوعي، فلسطيني

تشكّلت حركة مقاطعة المنتجات الداعمة للكيان الإسرائيلي في الخمسينيات في ظل الأجواء القومية والعروبية التي كانت تحيط الفكر العربي آنذاك من مصر إلى سوريا فالعراق. آمن حسين مروة بهذه الحركة وبسلاح المقاطعة الاقتصادية ولكنه لم يغفل أن يوجه نقده إلى هذه الدول أو الحركات. نرى ذلك في كتاباته بوضوح، فهو يقول: «ولكن مجرد اختيارِك هذا السلاح في حرب العدو، لا يكفي للقضاء على العدو، ما لم تضربْ به فعلاً، أو ما لم تُحسن الضربَ في المَقاتلِ والمَفاصلِ ذاتِها، لا في الأطراف والحواشي وحدِها».
لم يشهد مروة حركة التطبيع التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة، ولكنه تحدث عن حركة التهريب بين إسرائيل والدول العربية، قائلاً: «فهل يعلمُ ضباطُ مكاتب المقاطعة أنّ حركةَ التهريب بين إسرائيل والبلاد العربية لم يهدأْ نشاطُها قط منذ قيام إسرائيل حتى اليوم». لقد كان لمروة رؤية سياسية حول حركة المقاطعة، فهو الذي آمن بها من دون أن يغفل عن طرح بعض النقاط المهمة التي أظهرت سبب ضعف حركة المقاطعة الجماهيرية في ما بعد (أنظر مقالته «نريد مقاطعة جدية»).
أمّا فلسطين، فكانت أيضاً في كتاباته، وقد نظم لها خطاباً بمناسبة عام 1985 ولكنه لم يلقه لسبب إلغاء المؤتمر الذي كان مقرّراً انعقاده في لقاء تكريمي له. يقول في الخطاب الذي لم يلقه: «وحدة القضية القومية تعني بالضرورة وحدةَ الأهداف الوطنية والقومية تعني وحدةَ المطامح التحررية والديموقراطية والتقدمية. على أساسٍ من هذيْن الوحدتيْن المتلازمتيْن، موضوعياً، تقوم نظريةُ الوحدة العربية الشاملة بمضمونها التحرري الديموقراطي التقدمي، وعلى هذا الأساس نفسِه نهضتْ، تاريخياً، أحلام الشعراء العرب وأفكار المفكرين العرب، طوال عصرٍ مديد نسميه عصر النهضة» («جئتكم بفلسطين التي تسكن دمي»-«النداء»).

الباحث والأديب

لا يمكن لمن يستخدم الأدوات العلمية في البحث العلمي إلا أن يقدّم دلائل وبراهين، وهذه هي المنهجية التي اتبعها المفكر والأديب الفلسفي والصحافي في مختلف أعماله البحثية أو الفلسفية أو الأدبية منها. إنه رجل من الطراز العلمي الأوّل حيث لا يمكن للبحث الاجتماعي أن يكون من دون أدوات بحثية علمية صرف. يعتمد حسين مروة في مؤلفاته على الأحداث التاريخية بأكثر من حقبة وفي سياقها السياسي والاجتماعي. كما يعتمد في تحليلاته على تفسيرات العديد من فلاسفة الفكر الإسلامي في محاولة منه لفك شيفرة التدخل الإيماني بالخط العقلاني على مستوى العالم العربي.
إنّ هذا الفكر الصاخب قد تأسّس منذ نعومة أظافره، إلا أن طارئاً فكرياً «أخذ الطفل الشيخ» إلى عالم مبني على التحليل العلمي والعقلاني للظواهر الاجتماعية حين أصبح ماركسياً. يقول الصحافي إبراهيم عيسى: «إنّ ما كتبه حسين مروة حول عدد من الأدباء العرب الكبار، ابتداء من مارون عبود وانتهاء بأدونيس وخليل حاوي مروراً بميشيل طراد وميخائيل نعيمة، فما كتبه حول بعض أعمال هؤلاء (وجمعه في دراسات نقدية) يمثل أمامنا انعطافاً مهماً في النقد العربي الندرة الذين لم يتناولوا الإبداع بمعزل عن بيئته الفكرية والاجتماعية على السواء. فالنقد بالنسبة إليه هو دراسة عملية الإبداع».

النزعات المادية في الإسلام

تشكّل في صدر الإسلام، وما تلاه من فتوحات تكلّلت بالنصر في توسّع أهل الجزيرة العربية على جيرانها وصولاً إلى بيزنطة والفرس، وأثناء حكم الخلفاء الأربعة، ما سمّاه المفكر حسين مروة بالنزعة المادية في الفكر الإسلامي، أي الأصول الفلسفية للأفكار ومفاهيم المعرفة والحكمة لدى الإسلام، والتي مردها إلى الجذر الطبقي والسياسي الذي يفسر حركة التفاعلات الاجتماعية في الإسلام، وكيف تفاعلت الرسالة الدينية مع هذه العوامل.
كل هذا تطرّق إليه المفكر حسين مروة مقدّماً مشروعاً يضيف إلى العامل الديني في الإيمان العاملَ الموضوعي في الحياة والظروف المادية التي تحيطه، ليأخذ شكل ثورة على الخليفة عثمان بن عفان أثناء حكمه الذي اتصف بحكم الأوليغارشية، أو الصراع الذي بدأ مع الخلافة الأولى، فظهر سباقاً على أحقيتها بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب. أو ما يفتحه باب الاجتهاد من المعارف العلمية التي قد يحد الإسلام من حرية الجدال بها وأحياناً العكس.
ففي داخل الفكر الإسلامي والعربي هناك شرخ، أو نزعة، تميل نحو التفسير المادي للقضايا. هو في الأصل الفكر المترسخ داخل الفكر الإنساني المتدين. أي أن ميوله ليست خالصة للفكر الديني الغيبي. كما أن المفكر كماركسي جمع تحليلات حول الصراع الطبقي في التاريخ الإسلامي فقسمها إلى فرق ومذاهب فكرية بخاصة المعتزلة والمتصوفة وغيرها.
لم يكن صوت العلم مغيباً حينما تم الحكم على ابن رشد -الذي ترجم أعمال أرسطو ونقلها لنا- بالنفي، وأحرقت كتبه، بالعكس، لقد كان يصدح حتى أثار استفزاز الفرق الإسلامية المتناحرة سياسياً آنذاك، برغم دعم الخليفة له. ولحسن الحظ، سرّب عدد من كتبه إلى فرنسا التي كانت تحاكم من يؤيد فكر أرسطو الذي شرح نظرية النشوء البيولوجية. لكن كثيراً من العلماء والفلاسفة والمفكرين العرب فتحوا باب الاجتهاد في الإسلام، الأمر الذي أضفى على التراث العربي روحه العلمية كما فعل ابن رشد من دون المساس بالروح الدينية. لكن جميع أصحاب هذه التيارات، ومن مختلف الحقبات الإسلامية والسياسية، تم تكفيرها أو نفيها أو اتهام صاحبها بالهرطقة أو الزندقة لما تشكل من خطورة على مناصب السلطة الأمر الذي يتعارض مع روح الإيمان أحياناً (لقد حكم أيضاً على حسين مروة بالقتل من قبل القوى الظلامية نفسها وإن اختلفت التسميات. من نفّذ حكم القتل بهذا المفكر لم يدرك أنّ الفكر لا يقتل، فقط الأجساد هي التي تفنى).
اتخذ حسين مروة من النشأة الاجتماعية للنبي محمد، كونه من الفرع القريشي الهاشمي الأقل ثراء، وعمله في التجارة واتصاله بالحنفاء، خلفية لتفسيره لردود الفعل الطبقية التي حدثت أثناء إعلان الدعوة. فقد اعتبر أن محمداً كان يقف على زعامة غير زعامة قريش وهي الزعامة المتمثلة بكبار التجار والمرابين. فهو يقول: «من هنا كان رد الفعل سريعاً بوجه محمد، وهو رد فعل لا يمكن أن لا نرى الواقع الطبقي في أساسه وإن كان صحيحاً القول بأن الانقسام الطبقي لم تكن قد نضجت ظروفه بعد».
قسّم مروة الناس في مكة لدى إعلان الدعوة إلى فريقين: فريق الأغنياء، أي كبار أصحاب الأموال والتجار والمرابين ومالكي الأرض في الطائف وذوي الامتيازات المتعلقة بالسيطرة على شؤون الحج والأسواق الموسمية. وفريق آخر من الفقراء والمعدومين والمستخدمين منهم في الأعمال والرحلات التجارية والعبيد والموالي والمضطهدين ذوي الأصول غير العربية. مرد ذلك إلى مناداة محمد منذ بدء الدعوة إلى تسفيه من يكدسون الأموال ويأكلون أموال اليتامى والمساكين ويمارسون الربا ويحتكرون مواد المعيشة، ثم تسفيهه عبادة الأصنام وتعددية الآلهة. فكان نصيراً لطبقة الفقراء والعبيد. «فوجدت زعامة قريش في مضامين هذه الدعوة، شبح انتفاضة اجتماعية وفكرية إذ هي انتصرت ستقضي، أولاً، على المكانة الدينية الوثنية للكعبة من حيث هي جاذب استقطاب تجاري، ثانياً، على امتيازات الزعامة القرشية بما هي امتيازات اقتصادية وسياسية جوهرياً».
يرى مروة أن ليس في النصوص-الأصول (القرآن والسنة) موقف مطلق أو محدد، معتبراً أن الدلالات الظاهرة للنصوص الخاصة بهذه المسألة تتردد بين الموقف الإيجابي والسلبي، مستشهداً ببعض الآيات القرانية: «من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» (الزلزلة). وفي آية أخرى: «من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر» (الكهف). ليستشهد في الجانب الآخر بالآية: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون» (الأنعام). ومثال آخر: «والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا» (آل عمران).
فما دلالة هذا الحديث؟ إنه يدور حول مسألة القضاء والقدر. أي مسألة حرية إرادة الإنسان أو جبريتها. إذاً، يقول مروة صراحة عن التعارض الظاهر في الآيات الذي رصد له العلماء المسلمون الأقدمون.
لقد نوه حسين مروة إلى أن الفكر الفلسفي الديني يرغم في نهاية الأمر الوقوف عند التحليلات المادية ضمن المجتمعات ويلقيها إلى الغيبيات. مفسراً ذلك بأن العقائد تعتمد النقل عن المصدر الديني فتلتزم به كحل في القضايا كافة التي يرى البعض الآخر، من خلال العقل، وجهاً في التعامل معها وحلها. في الجانب الآخر نراه يتكلم عن بعض الفرق الدينية النشطة والتي تعتمد التحليل العقلي في الدين ومنها المعتزلة. ليظهر لنا النزعة المادية لدى هذه الفرق.
وضع مروة مسألة المعرفة في علاقة مع الإيمان الديني، ذلك لأن الإسلام يحصر المعرفة بمصدر واحد وهو المصدر الإلهي. فقد تحدث عن أثر هذه العلاقة بإلغاء قدرة العقل على تحصيل المعرفة وبالتالي إلغاء علاقات الجهاز الإدراكي للعقل البشري مع العالم المحسوس. فهو يفسره بتسليم إيماني مطلق، معتبراً أن إذا كان للناس حق الجهد في تحصيل معرفة ما، بمداركهم، فذلك ينحصر بكيفية فهم النصوص الحاملة تفاصيل العقيدة والشريعة.
أمّا الحكمة، فقد انطلق في تعريفه لها في الإسلام من جذرها، المتأصل من «النظر العقلي» البسيط في الجاهلية ومن استخلاص الأحكام العامة من التجارب الشخصية آنذاك، معتبراً أن الجاهليين كانوا يرون الحكمة في أخذ المعرفة من المحسوسات.
يستشهد مروة في هذا السياق بما رواه ابن عبد البر في كتابه «جامع بين العلم وفضله» أنه يفسر الحكمة في كثير من آيات القرآن بالفقه في دين الله والعمل به. كما استشهد بتفسير الطبري للآية: «واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة» (الأحزاب). وبذلك يضع مروة العامل الإيماني كمرجع في فهم الحدود المقررة لمسألة المعرفة في الإسلام.
كان للجانب الاجتماعي في حروب الردة الأثر الواضح، فقد نشب العديد من هذه الحروب التي أطلق عليها اسم «حروب الردة» برغم أنها كانت رداً في عدم الالتزام بالضرائب المفروضة على المسلمين آنذاك (الزكاة)، ولا سيما أن أكثرها تمرداً كان في المناطق الزراعية. يفسر مروة هذه الحروب قائلاً: «إن حروب الردة تمثل الجانب الاجتماعي من ردود الفعل التي أحدثها فوراً موت النبي، أي إن هذه الحروب لا يصح أن تفسر كارتداد ديني فقط. فذلك تفسير أحادي الجانب ومثالي. إنما هناك عوامل اجتماعية تكمن في هذه الظاهرة».
وقد تطرق لإظهار العامل المادي كأساس مهم في الدولة والتوسع الحاصل على جيرانها، مبيناً أن مرد ذلك يرجع إلى تناقص أموال الجزية التي كانت مفروضة على غير المسلمين، بعد أن دخل العديد منهم الإسلام ولحقوا بالأمصار. «ودلالة هذه الشكوى ذات قيمة في هذا المجال، وهي الدلالة على أن المورد المالي للدولة كان في المركز الأول من الاهتمام، بدل أن يكون إسلام السكان هو صاحب المركز الأول».
وهنا يستنتج مروة السبب الكامن وراء العامل الإيماني وهو أن عدم رغبة العرب الفاتحين في توسيع القاعدة الإسلامية في البلدان المفتوحة يستند إلى قاعدة مادية، وأن هذه القاعدة نفسها تصلح مستنداً أيضاً للتسامح الديني الذي تميز به حكم الفاتحين العرب.
ظهر الشرخ الكبير بين الصحابة المهاجرين والأنصار في ما بينهم، وبدأ منذ اللحظة الأولى لموت النبي صراع على الخلافة. هنا لم يفت الكاتب تشريح الحالة المنقسمة المترسبة بالفوارق القديمة في الجاهلية والتي تحمل فروقات طبقية واضحة. فهي بين بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب من جهة وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم من الذين ينتمي إليهم سائر المهاجرين. «إذ كان الغالب من بني هاشم يمثل الفرع الفقير بين الفروع الأخرى العليا في قريش بمكة في الجاهلية» فهو يرى الدوافع الحقيقية السياسية والاجتماعية، لهذا الصراع الواقع تحت ستار من المظاهر الدينية. حلل هذا الحدث الاجتماعي ضمن سياقه التاريخي الموضوع في ذلك العصر. كما أنه وصف هذا الصراع بالتاريخي إيجابياً فهو يفسر هذه الظاهرة بطريقة علمية ضمن قانون التطور الاجتماعي، معززاً رأيه هذا بأن هذه الحركات «كانت مصدراً خصباً لنشوء حركات فكرية أصبحت، في ما بعد، من مكونات حركة تطور الفكر العربي الإسلامي، ولا سيما الفكر الفلسفي منه».
نهبت أموال الدولة وراح الكثير منها يتجمع بيد طغمة من الحكام والولاة الأمويين الذين هم من أقرباء الخليفة الثالث. ضعفت إرادة الخليفة ولعب منشأه الطبقي الأرستقراطي دوراً. وكونه ارستقراطي المنشأ في الجاهلية ومن الفئة السائدة في ذلك العصر والمسيطرة في التجارة، فقد زادت الفوارق الطبقية لا سيما بوجود طبقة من المستخدمين والفقراء والعبيد وجميعهم من المسلمين. حلل الكاتب هذا الحدث التاريخ بالرجوع إلى العوامل الاجتماعية والطبقية السابقة الذكر. إذ لا بد من حدوث ثورة اجتماعية في الإطار الديني.
تعتبر هذه الثورة وجهاً من أوجه التفاعل الاجتماعي إذ لا بد من المطالبة بتلبية الحاجات الاقتصادية وبالتالي حدوث ثورة عند عدم تنحي الحاكم. تحدّث الكاتب عن الفرق بين عمر الذي كان يتصف في عصر الراشدين الذهبي بالعدل. يرى الكاتب أن هذه الفروقات في التطبيق العملي للشريعة الإسلامية أثارت حفيظة المسلمين الذين يريدون العمل على تطبيق روح القرآن وسنة النبي التي تنص على العدل والزكاة وعدم أكل مال اليتامى وغيرها مع وجود العامل الطبقي، فكانت «ثورة البسطاء».

الاغتيال

كان لمرحلة الثمانينيات في لبنان والدول العربية طابع تقدمي وصل إلى ذروته عبر مثقفين ومحللين ومفكرين كبار من حسين مروة ومهدي عامل وغيرهما. غير أن بعض الدول الاستعمارية، أو الأحزاب والفرق العقائدية، لم يعجبها الأمر. فهناك دائماً دول تطارد الكبار كونهم يكشفون عن حقائق لا تناسبها أو لا تناسب المجموعات أو الأحزاب. كانت هذه الأحزاب مسلحة فأرسلت للقضاء على التقدميين في العالم العربي (الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الرابط بين خفوت الأحزاب التقدمية اليوم وبروز هذه الفرق العقائدية والمتزمتة). إن القوى الظلامية لا تزال تسيطر على أراض في العالم العربي أو على دول منه. نسمع في كل حين عن عملية اغتيال لواحد من التقدميين. لكن الأفكار لا يمكن أن تطمس إنما يمكن تغييبها في وقت من الأوقات نتيجة استخدام العنف عبر الاغتيالات المتتالية. لقد قتل مروة ولكن فكره بقي اليوم محفزاً للأجيال الجديدة على النقد العلمي الذي من شأنه أن يرفع الفكر العربي الفلسفي إلى المستوى الذي وصل إليه في عهد المفكرين السابق ذكرهم.
قتل حسين مروة في سريره يوم 17 شباط بمسدس كاتم للصوت. وجه الحزب الشيوعي اللبناني الاتهام إلى «قوى ظلامية». إضافة إلى أن الحزب الشيوعي اللبناني بمفكريه كان يشكل ثقلاً للقوى التقدمية في لبنان، الأمر الذي يتعارض مع التنظيمات العقائدية، فقد قتل سهيل طويلة والمفكر مهدي عامل. ترجع أصابع الاتهام إلى الفاعل نفسه في حلقة من سلسلة تصفيات، رداً على الحالة الشيوعية التي نبعت في البيئة الشيعية فترسخت في فكر كثيرين وتوسعت وأنتجت مفكرين مثل حسين مروة.
شكلت طريقة اغتياله صدمة للشارع العربي، كما وفدت برقيات التعزية إلى الحزب الشيوعي اللبناني من كل حدب وصوب، أمّا بيان الحزب فقد بدأ بالكلمات التالية: «يا للعار يا لفظاعة الجريمة، فقد قتل الظلاميون المذهبيون الطائفيون العابثون بأمن الشعب العابثون بمصير الوطن العاملون تدميراً وتهديماً بكل ما له علاقة بالحرية وكرامة الإنسان والثقافة والديموقراطية والمعرفة. هؤلاء القتلة المجرمون السفاحون الآثمون قتلوا شيخ الثقافة والفكر(...) إن من يقتل حسين مروة وقبله خليل نعوس وسهيل طويلة، يحكم على نفسه بالموت والزوال ولن يستطيع أن يعيش وسط شعب أنجب كل هؤلاء مهما تستر بالدين تارة وبالطائفية تارة أخرى».

* كاتبة فلسطينية