الإنسان مفطور على المواسم. قد يكون ذلك نتيجة بداياتنا البشريّة المتعلّقة بالأرض: مواسم فصول أربعة، مواسم زرع وحصاد بعد اكتشاف الزراعة، مواسم لموقع القمر والشمس والنجوم في السماء، إلخ. أحببنا المواسم وابتكرنا حتّى في الأديان أعياداً لتصبح مواسم جديدة. الأعياد فرح، ووعدٌ بشيء أكمل، إطلالة على الأبديّ وتعبيرٌ عن رغبتنا به.بعد ألق الأعياد الجميل، كيف يمتدّ معنى العيد إلى الأيّام العاديّة؟ لا معنى يبقى من دون امتداد الأبديّ في لحم اليوميّ، وينطفئ الألق بعد حين. ما من عيد بلا معنى. المهم أن ينتشر بهاء العيد في التفاصيل اليوميّة فيكون المعنى خطّاً مستقيماً عبر تعرّجات الأيّام. وحين يمرّ الناس بتمزّقات العوز والتهميش في مجتمع يتدهور يوميّاً من قعر إلى قعر، من دون أن يتخيّلوا طريقة للوقوف إلى جانب أنفسهم فيدافعوا عن حيواتهم ومستقبلهم، لن يبقى البريق طويلاً إذ يخنق الواقعُ البريقَ سريعاً مع إلحاح الأكل، والشرب، والطبابة، والتعليم، في اليوم التالي للعيد.
منذ أيّام مرّ عيد ميلاد المسيح، وتخبرُ الأناجيل أنّه حين قرّر أن يبدأ رحلاته التبشيريّة في محيطه جعل عنواناً لمهمّته الكلمات التالية للنبيّ إشعياء "روح الرب عليَّ، لأنّه مسحني لأُبشر الفقراء، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعميان بالبصر وأحرّر المسحوقين". مَن آمن بالمسيح جعل من هذه الكلمات عنوان حياته أيضاً، فالإيمان يُترجَم التزاماً. مَن يلتزم هذه الكلمات في حياته اليوميّة الشخصيّة، ومَن يجعل منها عنواناً لمهمّة جماعيّة في العمل الاجتماعيّ والسياسيّ في بلاد الانهيار الكبير، يكون قد تابع احتفاله بالميلاد في الحياة اليوميّة. تلك الكلمات على بساطتها هي ثوريّةٌ لو قرأناها في واقعنا وفكّرنا بكيفيّة عيشها شخصيّاً وجماعيّاً. كيف نبشّر اليوم الفقراء بأنّ الطعام موجود؟ بأنّ المأسورين في السجون ظُلماً، والمأسورين في بيوتهم وأعمالهم بالتعسّف والظلم، والمأسورين بالاستغلال، يمكن أن يتحرّروا من التعسّف والاستغلال؟ كيف يمكننا أن نبشّر المسحوقين بسياسات الإفقار والتهميش بالتحرّر؟ تخبرنا العلوم الجمعيّة بأنّ الفقر والأجر الضحل وسوء الصحّة والأمراض ليست قدراً ولا تحدث صدفةً ولا هي نتيجة ظروف طبيعيّة وإنّما تنتج من سياسات مقصودة تُفَقِّرُ السكّان، وتسبّب تدهور الصحّة، وتمنع عن الإنسان الدواء، وتقتل على أبواب المستشفيات، وتضعِف المعرفة، وتسجن العقول بالإعلام السامّ، وتسحق معظم السكّان بجشع لقلّة متفلّتة تريد جمع أكبر قدر من المال بالقتل البطيء للأكثريّة الساحقة من الناس.
امتداد الاحتفال بالميلاد هو التزام كلمات المسيح تلك عنواناً لحياة شخصيّة وجماعيّة، هو نشوء ثورة روحيّة كبرى تُتَرجَم ضغطاً شعبيّاً حقيقيّاً يودي بسياسات التحكّم والسيطرة والاستغلال ويُرسي بُنى المشاركة في المجتمع. عندها نترك عبادة أصنام الزعماء والطوائف، وعوض أن نختلف على ما هو في سلطان الله ناسين خدمة الإنسان ومرجئينها إلى ما لا نهاية، نستبق الخيرات فننتقل من ذهنيّة "التبرّع" والشفقة و"الخدمات" إلى ذهنيّة الحقّ والعدالة، إلى هدم بُنى الاستغلال وإرساء بُنى العدالة والمشاركة في خيرات الأرض التي منحها الله هبة مجّانيّة للجميع وهي ليست ملكاً شخصيّاً لأحد.
عندها قد يلامسنا روح الله بنعمته، فنبشّر الفقراء والمأسورين والمسحوقين بعالم جديدٍ، لنكون على شبه المسيح، أو لنلد المسيح في عالم اليوم على شبه مريم التي وضعته في العالم وقالت إنّه «شتَّت الْمُستَكبِرين... أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياعَ من الخيرات، وصرف الأغنياء فارغين». عندها تصبح كلمات وأفعال ومقاصد يسوع حاليّة وممتدّة ضوءاً في الحياة اليوميّة لشعبنا.