«نظرتُ في كتابك (قطرات من يراع) فآنستُ فيه طموحاً إلى الأدب الرفيع، وجنوحاً إلى الفن الممتاز، وحباً للقدماء لا يعادله إلا رغبتك في التحرر من جمود التقليد، وميلاً إلى التجديد، يلطفُه حرص على الاحتفاظ بما ينفع ويغزو العقل والروح من التراث القديم، وآنستُ فيه توخياً لإجادة اللفظ، وانتقاء الكلام، والملاءمة بين الكلام المتميز والمعنى المُستقصى إلى رصانة في الأسلوب ومتانة في النظم وصدق في اللهجة وإرسال للعاطفة على سجيتها يشيع في الكلام حرارة حلوة وإخلاصاً مستحباً وهذه كلها خصال تهيئك للرقي في منازل الأدب إلى حيث تحب وتنبئ بأنك خليق أن تنتج من الروائع والبدائع ما يروق ويشوق» (طه حسين، 30 يناير 1949)
عام كامل مرَّ على رحيل شيخ الأدباء الليبيين علي مصطفى المصراتي (1926–2021) الذي «طرق جميع الأبواب المتاحة أمامه» كما يُقال عنه دائماً. مع هذا، بدا المصراتي، بصفته أديباً موسوعيّاً، أكثر حضوراً بتراثه الثقافي الكبير ـــ أنتج أكثر من ستين كتاباً ومخطوطاً تراوحت بين السيرة الذاتيَّة وتراجم الأعلام والدراسات الأدبيَّة والتحقيقات التاريخيَّة والقصة والرواية والأدب الساخر ـــ مقارنةً بسنوات عمره الأخيرة. كأن الموت في هذه الحالة وسيلة إشهار وإعادة اعتبار. والمصراتي ليس مجرد مؤرخ مُجتهد أثرى المكتبة الليبيَّة بأبحاثه في الفنون والأمثال الشعبيَّة وبتراجم المجاهدين والمؤرخين وتحقيق مؤلَّفات الشعراء ومشائخ الحركة الصوفيَّة ورصد التاريخ الصحافي والأدبي، وربط ليبيا بمحيطها العربي والإسلامي، فحسب، وإنما حياته نفسها تماس واشتباك مع تاريخ البلاد المعاصر. فهو ابن عائلة هاجرت إلى مصر أثناء الاحتلال الإيطالي الفاشي لليبيا، حيث وُلد في الإسكندرية ودرس في جامعة الأزهر بالقاهرة، ونال شهادتين عالميتين (ماجستير) في أصول الدين واللغة العربيَّة، فلم يزده المنفى إلا تعلقاً بالوطن ووحدته؛ ليعود إليه خطيباً مفوهاً أواخر الأربعينيات، مع الزعيم الوطني بشير السعداوي، المنفي الآخر، ويجوب غرب البلاد وشرقها وجنوبها، إفشالاً لمشروع التقسيم المُسمى «بيفن ـــ سفورزا»، وحرصاً على وحدتها، وتحقيقاً لاستقلالها أواخر عام 1951.

إلا أن حقبة الاستقلال، التي شهدت حظر الأحزاب وعلى رأسها حزب «المؤتمر الوطني» الذي ينتمي إليه، ونفي زعيم الحزب السعداوي، ضاعفت الحمل على أكتاف الشاب العشريني، الذي سجن ثلاث مرات بسبب مواقفه المناهضة للوجود الأجنبي، فساهم أولاً في تأسيس مجلة «هنا طرابلس» عام 1954، ونشر أوَّل كتبه عام 1955، «أعلام من طرابلس». ولم ينتهِ عقد الخمسينيات إلا بفوزه في انتخابات 1960 وحصوله على مقعد في مجلس النواب، ليصبح الصوت المدوي لطرد القواعد البريطانيَّة. وبعد خسارته مقعده البرلماني في انتخابات 1964، بسبب ما شابها من تزوير، أسَّس المصراتي صحيفته «الشعب»، ليعكس من خلالها آراء الحركة الوطنيَّة في حقبة ما بعد اكتشاف النفط. في الأثناء، خلال عقديْ الخمسينيات والستينيات، توالت إصداراته في بيروت، عن دار الكشاف ومطبعة غندور والمكتب التجاري ودار لبنان، كأنه يسابق الزمن ليعوض النقص الكبير الذي عانته ليبيا في إنتاجها التاريخي والثقافي من جرَّاء الاحتلال والفقر وشبه الإبادة التي تعرض لها شعبها. «هذا التنوَّع (في كتاباتي) هو أولاً نتيجة المطالعات المتعددة الجوانب، ولكنه أيضاً ناتج من شعوري بفراغ المكتبة العربيَّة في ليبيا، فعندما عدت من المهجر، أردت أن أسد جانباً من هذا الفراغ»، يقول.

بيد أنَّ الأثر المهم في سيرة المصراتي، هو تلك العلاقة والرعاية التي حظي بها من طه حسين، منذ أن كان في بدايات العشرينيات من عمره، بما في ذلك تقديم مخطوطه الأوَّل «فردوس الأدباء» الذي لم ينشر بعد. تنبَّأ «عميد الأدب العربي» مبكراً لما يمتلكه من خصال تؤهله لينتج من «الروائع والبدائع ما يروق ويشوق»، شرط أن يتمهل ولا يضعف ولا يدركه الملل، فثابر المصراتي وصبر ما يربو على نصف قرن قبل أن يصدر كتابه «قطرات من يراع» عام 1994. والقطرات ومضات وخواطر بين الشعر والنثر من فيض الحس، لا يَخفى على القارئ تأثر صاحبها بأستاذه طه حسين وكتابه «جنة الشوك»، وكذلك «قطراتُ ندى» لراجي الراعي، «وكرمٌ على دربٍ» لميخائيل نعيمة. وهي أيضاً تمثل تنوَّع المصراتي في إنتاجه. لكن لا شيء يُميز المصراتي أكثر من صلابته واجتهاده، من المنفى إلى حقبة الإدارة البريطانيَّة، ومن العهد الملكي إلى نظام القذافي وما تلاه من انتفاضة عليه، رغم كل الظروف الصعبة المحيطة به في كل واحدةٍ منها. احتفظ في جميع الحقب التي عاصرها بالشخصية نفسها، عنفوان الشباب الذي لا يخبو ولا يشيخ، مستكملاً المشروع الوطني الذي بدأه خطيباً ثم باحثاً فمؤرخاً حتَّى أصبح أديباً موسوعيّاً لا غنى عنه في قراءة تاريخ ليبيا المعاصر وفهم ثقافتها. وعندما رحلَ لم نجد ما يفي حقَّ الرثاء حتَّى وإن كانت «كلمات الرثاء دموعٌ بحروف» كما يقول المصراتي نفسه في قطراته.