دُهش كثيرون لما يحصل في العراق من انهيارات كبيرة. سبب الدهشة يعود الى غرق المتتبعين في تفاصيل المشهد وفي حركته اليومية المتسارعة الظاهرة، أو العكس الغرق في التأويلات السياسية والنظرية العموميّة الجامدة. إن لوحة الواقع العراقيّ الحقيقيّة تشير كلّها، من دون أي غموض، الى أنّ الانهيار المجتمعيّ صيغة سياسيّة مخططة، اتفق عليها السياسيّون العراقيّون المؤيدون للاحتلال سرّاً أو علناً، وقبل بها معارضو الاحتلال تعبيراً عن عدم قدرتهم على تغيير واقع ما بعد الاحتلال إلا من طريق القبول بخراب المعادلات كافة، بما فيها معادلة بقاء وطن اسمه العراق.
من الدولة إلى العنف وبالعكس

لماذا فشل العراقيون في تحقيق توافق سياسي في بلد يعيش على بحار من النفط، انهكته حقب طويلة من الحروب المتلاحقة والويلات السياسية المتواصلة؟ ظهرت تفسيرات عديدة لهذا الأمر، لكن التفسير الحقيقي ظل بعيداً من الأنظار، لذا بدا المشهد الراهن صادماً حينما مَثُل أمام الأبصار في هيئة انهيار مفاجئ، يفوق الخيال.
رغماً عن فساد نظرية «الديمقراطية التوافقيّة» في العراق، إلا أن التوافق الدستوري، المتعلق ببناء الدولة الجديدة، لم يقم استناداً إلى وحدة مفاهيم توافقيّة صادقة وحقيقيّة. وإنما بُني على مجموعة من المضمرات السياسية الفئوية الأنانية، جرى قبولها وتمريرها من قبل الجميع. واستناداً إلى قوانين بريمر جرى انتقاء وتجميع وحياكة حزمة متسلسلة، مبوّبة، من القوانين الإرضائية، سميت بالدستور. وغدا كل طرف فرحاً بمقدار ما استطاع تمريره من مضمرات خاصة، وحشوها في ثنايا هذا الدستور. ولم يكن القبول الجماعي بتلك الشروط المضمرة سهواً أو غباء أو انفتاحاً سياسياً على الآخر، كما يتصوّر البعض. كان الجميع يسعى الى تحقيق خطوات جزئية، تمكنه بمرور الوقت، من الانطلاق لتأسيس خطوات أوسع وأشمل. وكان عامل الزمن هو السيف الحاسم الذي راهن الجميع عليه. وهذا يعني أن الدستور التوافقي، كان مؤامرة طائفية عرقية مشتركة، نُفّذت على حساب مبدأ المواطنة، وعلى حساب مفهوم الوطن، اتفق الفرقاء عليها علناً، بالضد من مصالح الشعب العليا. لقد سعى كل فريق إلى تنفيذ مضمراته، بأسرع وقت ممكن، على حساب مضمرات الآخرين. ثم عمل كل واحد منهم، في الوقت عينه، على تعطيل إمكانية تحقيق مضمرات الخصوم، أو تأجيل أوان حدوثها. كان الجميع يناضل دستورياً، بواسطة الدستور وباسمه، ولكن من أجل إقامة سلطة قائمة على الصراع الدائم، اللادستوري، لتحقيق المصالح السياسية الخاصة. هنا، في هذا الموقع نشأ الفساد في بناء الدولة وفي مضمونها وسلوكها، وانعكس على مجمل البنى السياسية والتنفيذية والتشريعية والإدارية، بما فيها القطاعات العسكرية والأمنية.

إن ما يخشاه البارزاني هو قيام حكومة قوية تملك «شرعية حمل السلاح»


ولهذا السبب أيضاً، رأينا عبارة «ستة أشهر»، تتكرر بطريقة لافتة، في الساعات المحتدمة من الصراع بين الكتل، وتُنطق غالباً، بطريقة التهديد السافر، الذي اصطلحوا على تسميته: «كسر العظم!».
وكانوا حقاً، مجتمعين ومن دون استثناء، يشتركون بحميّة عالية، في عمليات تكسير العظام. ولكن، ليس عظام خصومهم فحسب، بل بدرجة أولى عظام الوطن كله.
ففي ذروة خلاف التحالف الكردي مع حكومة إبراهيم الجعفري عام 2005، أطلق رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، تهديده الشهير: «سنعطي الأطراف الأخرى (الجعفري) فرصة لمراجعة أنفسهم، ولكننا لن نمنحهم أكثر من ستة أشهر، بعد ذلك سيكون لنا رأي».
كان «الرأي»، الذي لم يفهمه الجعفري جيداً، هو مقدرة القيادة الكردية الفعلية على إزاحة كل من يقف في طريقها بالوسائل كلها، المتخيلة وغير المتخيلة.
وقد فهم الجعفري الدرس، ولكن بعد أن وجد نفسه خارج السلطة قبل أن يُتمّ شهره السابع رئيساً للوزراء.
بيد أنّ نجاح القيادة الكردية في إبعاد الجعفري، رافقه سوء طالع، سببه خسارة الرهان على مرشح جماعة المجلس الأعلى عادل عبد المهدي، وصعود قيادي آخر من حزب الدعوة نوري المالكي.
المشكلة التي واجهها القادة الكرد حينذاك، هي أنهم أُرغموا، باسم «تحالف الكتل»، على القبول برئيس وزراء جديد، طبقاً لقوانين المحاصصة؛ لكنهم لم يتمكنوا من فرض شروط التحاصص داخل كتلة الائتلاف الشيعي، بسبب وجود غير تيار داخلها، يتعارض بعضها تعارضاً حاداً مع تيار المجلس الأعلى، كحزب الفضيلة والصدريين، الذين مالوا إلى مرشح الدعوة، نكاية بمرشح المجلس الأعلى. وبذلك سقط نصف الانقلاب الكردي الأول، الهادف إلى حسم موضوع السيطرة على مركز القوة والقرار في العراق الجديد، كخطوة أولى مرحلية. أما الخطوة التالية والحاسمة فهي تقاسم العراق القديم تقاسماً تاماً سياسياً وجغرافياً، تحت ذريعة شرحها البارزاني في تصريح مقدم إلى إذاعة «صوت أميركا»، الناطقة باللغة الكردية في 10 آب 2006 : «إن حكومة مركزية قوية لن تقوم في العراق بعد الآن».

توزيع القوة يرسم حدود الوطن

لم تكن «مركزية» الحكومة هي المشكلة التي يعاني منها البارزاني. فهو يؤكد دائماً، بالأقوال والأفعال، أن كردستان تقع خارج السيطرة العراقية، وبوضوح أكبر تقع عملياً خارج السيادة العراقية. إن ما يخشاه البارزاني هو قيام حكومة قوية. أي حكومة تملك السيادة والسلطة، وتملك «شرعية حمل السلاح». وهي الشروط التي رأى منظرو الشيوعية العراقيون توافرها في المالكي، ولكن ليس في علاقته بكردستان، وإنما في ما يخص علاقته بسكان مدينة الصدر أو البصرة والناصرية وكربلاء والنجف.
لكن هزيمة التحالف الكردستاني وحليفه المستتر جماعة الحكيم، لم تمرّ من دون ثمن. فقد اشتكى الحليفان لدى الأب الحامي الأميركي، متهمين المالكي بالضعف وبأنه لا يستطيع أن يدير السلطة مستقلاً، وأن حكومته ستكون موضع ابتزاز من قوى لا تؤمن حقاً بالعملية السياسية. وقد دللوا على أقوالهم من خلال أمثلة مأخوذة من سلوك حزبي الفضيلة والصدريين المتذبذب وعلاقتهما المتأرجحة بالحكومة. وحينما لم تنجح المحاولة جرى توتير الوضع في الموصل، لكي يتم إثبات الميول الطائفية للمالكي. ما دفع المالكي الى وضع قواته على أبواب المدينة والتهديد باقتحامها. لكنه بدلاً من ذلك اقتحم مدينة الصدر والبصرة ومدن جنوبية أخرى، لكي يبرهن للآخرين على «لا طائفيته». لكن تلك الشكوى، المقدمة الى الراعي الأميركي، تشي بأمر أكثر خطورة من الصدريين والفضيلة. عند التمعن في الشكوى: ضعف الحكومة في ضبط العملية السياسية، يتوجه فكر الأميركيين فوراً الى ناحية أخرى. لأن العملية السياسية في مفهومها الأميركي، هي غير تلك التي يعنيها السياسيون العراقيون الحاكمون في نقاشاتهم العقيمة. إن العملية السياسية لأي نظام اجتماعي لا تنحصر في اتفاقات الكتل الحاكمة، بل في توازنات من يحكم ومن يقف خارج السلطة. وهنا يكون الإرهاب والتكفيريون وبقايا البعث، وجموع غفيرة من المستقلين عن الفريقين، هم العنصر الحاسم في إنجار صورة المشهد السياسي. هنا في هذه الشكوى، نعثر على أحد محركات الإرهاب الخفية: إضعاف سيطرة الخصم السياسي الحاكم، وإظهاره بمظهر العاجز أمام مواطنيه، وبدرجة أولى أمام الأب الأميركي. إن الإرهاب في العراق لعبة مركبّة!
وكان هوشيار زيباري هو من تولى هذه المرة مهمة تحديد فترة التهديد المقررة رسمياً من جانب القيادة الكردية لرؤساء الحكومات العراقية. فقد نقلت صحيفة «الشرق الأوسط» تهديد زيباري للمالكي، قائلة: إن الوزير حضر مناقشات مجلس الأمن بشأن تمديد وجود القوة المتعددة الجنسيات بقيادة القوات الأميركية، وصرح لمراسلها في نيويورك، صلاح عواد قائلاً: «إن الأشهر الستة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة إلى حكومة المالكي، حتى تثبت أداءها وكفاءتها لقيادة البلاد».
جاء هذا التصريح (وزير يهدد رئيس حكومته، ويمهله ستة أشهر، لكي يثبت له حسن أداء الحكومة المركزية!) في ذروة تصاعد الصراع حول تطبيق المادة الدستورية الخلافية 140.
حينما جاء المالكي إلى السلطة جاءها ضعيفاً، هزيلاً، بفارق صوت واحد. لكنه أتى وهو يحفظ عن ظهر قلب درس غريمه الجعفري جيداً: ستة أشهر، لا أكثر!

لماذا ستة أشهر؟

عبارة «ستة أشهر»، لمن لا يعرف، موجودة في نص قانون الدولة، المشرّع من قبل بريمر. وعند إمعان النظر في مواده يعثر المرء على مواطن مثيرة أخرى، أبرزها أن عبارة «ستة أشهر» ظهرت في موقعين آخرين، هما المواقع الخلافية الأكثر حدة في الصراع السياسي بين الكتل والجماعات. الأول في موضوع التعداد السكاني، الذي حددت فترة تنفيذه بـ«ستة أشهر»، وفي موضوع المادة 140 المتعلقة بتسوية الخلافات حول المناطق المتنازع عليها قوميّاً. وقد اشترط صائغ النص أن يطبق الأمران خلال الفترة الزمنية المنصوص عليها في القانون. ومن المفارقات العجيبة أن هاتين المادتين المشروطتين زمنياً، هما المادتان الوحيدتان اللتان لم يسر عليهما التطبيق على الإطلاق. علما أن العراق أجرى أربعة انتخابات من دون القيام بتعداد سكاني، وأنه خطط سياساته الاقتصادية والاجتماعية والتنموية على ضوء معطيات البطاقة التموينية الاحصائية، وعلى ضوء التخمينات التحاصصية. ومن المفارقات المرافقة لهذين الأمرين، أن وزير التخطيط، في حكومة علاوي، التي تسلمت مقاليد السلطة من مجلس الحكم، ينتسب الى الفريق الشيوعي؛ وأن إدارة الملف المتعلق بالمادة 140 أوكلت الى الأمين العام للحزب الشيوعي، وأن بعض مسؤوليات وزارة الخارجية، التي تخص السيادة، كانت من نصيب سياسي شيوعي.
ولم تكن تلك المفارقات العجيبة محض مصادفات. فقد بات العنصر الشيوعي الأرخص في سوق السياسة العراقية، بعد أن أضحى التجييش الطائفي والعرقي عقيدة سياسيي ما بعد الاحتلال.

المثقف الشيوعي ينظّر إلى تمزيق الوطن

إن التنظير الدعائي لموضوع القوة والسلطة بدا متناقضاً وانتهازياً، حينما جمع في وحدة تلفيقية بين المتناقضات، غير القابلة للحل: الدعوة إلى مركزية حمل السلاح من جهة، ومن جهة ثانية حق التمرد عسكرياً عليه باسم خصوصية كردستان والمناطق المتنازع عليها. ومثلها الجمع بين واحدية السيادة وبين حق التمرد عليها باسم ديمقراطية الأقاليم، ومثلها سلطة رئيس وزراء العراق المحدودة بشروط جغرافية وسياسية في مواجهة سلطة رئيس إقليم كردستان المطلقة، وصولا الى فرضية حكومة العراق غير المعتدلة مقابل حكومة كردستان «القوة المعتدلة الوحيدة واقعياً» في نظر منظّري الحزب الشيوعي العراقي، وأخيراً المالكي شخصياً أمام البرزاني شخصياً. هذا الجمع النظري للمتناقضات، لم يكن سهواً في الحساب. كان تنظيراً دعائياً تسويقيّاً معروف الثمن، في ضوء ما أوضحناه.
لقد عمل المالكي فور تولّيه الحكم، بحماسة وهمّة، في مسار محدَّد وثابت، هو حماية دوره الفردي كحاكم وتقويته، أكثر من عنايته حتى بدوره الحزبي، مستنداً إلى قوتين، الأولى: الجهاز العسكري، حتى لو أدى ذلك إلى ارتفاع عدده إلى ما يقرب من مليون عنصر، من طريق الاستعانة ببقايا الجيش «المنحل»؛ والثانية: تعبئة القوى القبليّة، وحتى التحالف الموقت مع المليشيات و«الصحوات».
لقد قام المالكي بـ«شراء» مئات الآلاف من عناصر الأمن والشرطة والجيش والقبائل والصحوات، واشترى معهم جهازاً للإحصاء الانتخابي أسماه البطاقة الانتخابية الذكية، لم تعرفه حتى أكثر الديموقراطيات عراقة وغنى، واشترى معها أصوات جوقة من الإعلاميين، الذين روّجوا لحملة المالكي الانتخابية، مفسرين ومشيعين بين الناس سر تسمية البطاقة الانتخابية الالكترونية بالذكية: لأنها تستطيع كشف اسم المصوّت والجهة التي صوّت لها. بذلك ضمن المالكي أصوات مئات الآلاف من العسكريين، وأضحى النائب الأكبر. بهذا خرج العراق من دكتاتورية صدام «الشوارعية» المتفسخة الى ديمقراطية «زقاقية» أشد تفسخاً وتخلفاً. وفي الجانب الآخر من معسكر القوة سارت قيادة إقليم كردستان في الاتجاه المعاكس: تقوية وتعزيز الانفصال، وجعله أمراً واقعاً. أمّا الطرف السنيّ فقد ظل مبعثر الإرادة، لا يستطيع، رغم الزخم الشعبي الكبير وقوة الدوافع صوغ شعارات سياسية تعيد للفرد وللجماعة توازنها. فلم يزل يبكي على مركزية تاريخية مضاعة، ربما الى الأبد، ولم يستطع أن يجد بديلاً يعوضه فقدها، سواء عن طريق تبني مشروع المواطنة، الذي يضعه على قدم المساواة مع الآخرين، أو عن طريق فرض وإقرار حجم مرض ومطمئن للحصة الطائفية. لم يزل هذا الفريق ضائعاً في مجرى العاصفة، تتقاذفه لجج الأحداث، فيترنح بين الاصطفاف مع القاعدة تارة، ومع القيادات الكردية أخرى، ومع دولة القانون حينا ثالثاً، ومع علاوي رابعاً، وأخيراً مع كل عابر سبيل، يحسبه منقذاً.
إن السياسيين الحاكمين الجدد لم يقوموا بصوغ دستور توافقي، بل قاموا بتبادل المضمرات الأنانية دستورياً. ولبث كل واحد منهم، يخطط لتنفيذ مضمراته التآمرية على حساب الآخر، من طريق تعطيل ما جرى التوافق عليه.
مثل هذا التوافق الدستوري لا يشرّع دستوراً، ولا يبني وطناً، وإنما يقيم ساحة معركة مزورعة بالألغام. وتالياً لا يبني دولة مركزية، أو حتى دويلة لا مركزية، وإنما يقوم بصناعة جزر طائفية وعرقية ومناطقية متناحرة.
(مقطع من فصل من كتاب «المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (التجربة العراقية)»، الصادر تواً عن دار الجمل، بيروت)
* ناقد وروائي عراقي