مقدمات وإضاءات- من حيث المبدأ، يكسب العمل الجبهوي أهمية كبيرة بمقدار ما ينطوي على عملية توحيد جهود مجموعات وأفراد لخدمة هدف واحد مشترك لهؤلاء في مرحلة تطول أو تقصر.
- يصبح هذا العمل ضرورياً وشديد الأهمية عندما يكون الهدف ذا طابع وطني أساسي، أي يعني كل أو أكثرية المواطنين ويؤثّر في مجرى حياتهم أو مصيرهم.
- موضوعياً، وكمنطلق للعمل الجبهوي، يجري استكشاف وفرز المشتركات والتقاطعات في برامج ومواقف القوى والمجموعات والمواقع والشخصيات المعنية به أو تلك التي يمكن أن تكون كذلك، ثم يجري تحويل هذه إلى برنامج حد أدنى ذي أولوية في مرحلة زمنية محددة، ومن ثم توضع خطة العمل والصيغة المناسبة للشراكة والتعاون عل المستوى: القيادي والتنظيمي والإداري.
- مع توحيد الهدف في بند أو أكثر (أولويات)، يصبح تنظيم الجهد أمراً أساسياً لجعله مؤثراً وفعّالاً وقادراً على تحقيق أو صنع إنجاز أو انتصار: سواءً في مواجهة خطر داهم (عدوان خارجي)، أو في التصدي لمشكلات وصعوبات ومهمات داخلية، أو الاثنين معاً.
- في تاريخ القوى السياسية اللبنانية، منظمات أو أحزاباً أو جماعات وتكتلات، أو حتى أفراداً مستقلين، تجارب عمل مشترك أو جبهوي، قديمة وحديثة. وتشكل المنعطفات والصراعات الحادة، كما أشرنا، حافزاً موضوعياً للتكتل وتوحيد الجهود وتفعيل الحضور والتأثير والدور في خدمة الهدف العام المشترك سواءً كان مباشراً ومرحلياً، أو حتى مؤجلاً وبعيد المدى.
أبرز تلك التجارب كانت تجربة «الحركة الوطنية اللبنانية» ذات الخلفية اليسارية، و«الجبهة اللبنانية» ذات التوجه اليميني... ودون أن نقيّم هنا سياستهما، فقد لعبتا كلتاهما، في اتجاهين متضادين، دوراً مهماً في الصراع وفي السعي إلى تحقيق الأهداف التي اختارتها كل جبهة.
- تجارب أقل استمرارية وحضوراً كانت ماثلة في مراحل سابقة أو لاحقة كـ«الحلف» و«النهج»، و«الكتلة الوطنية» و«الكتلة الدستورية»... آخر التجارب كان لقاء «البريستول» ( 14 آذار) و«لقاء عين التينة» (8 آذار)، وبينهما كان «التجمع الوطني للإنقاذ والتغيير» كخيار ثالث مستقل. في السياق، قبل وبعد، جرت عشرات المحاولات، هنا وهناك، لكن لم تتوفر لها شروط الاستمرارية والتأثير. ولقد أدى الصراع الضاري المستمر الراهن، خصوصاً بسبب غياب مركز وحاضنة وطنيين، إلى تشتيت الجهد وفقدان الزخم وتراجع الحشود وزيادة التدخل الخارجي لملء الفراغ واستغلال وتوجيه النقمة وفق أجندة هذه القوى الخارجية. برز ذلك في التحضير للانتخابات وأثناءها. استفادت من ذلك التشتت والفراغ والتدخل الخارجي، المنظومة الحاكمة المتمرّسة والممسكة بأدوات تأثير متنوعة (أبرزها العصبيات الطائفية والمذهبية)، للبقاء في السلطة وللإفلات من المحاسبة والعقاب.

الأزمة المدمِّرة
كشفت الأزمة الطاحنة المتمادية والمتفاقمة الراهنة الخلل الكبير والخطير الناجم عن غياب مركز وطني موحّد معارض في مواجهة السلطة من جهة، والتدخل الأجنبي الذي تقوده واشنطن، من جهة ثانية. لقد كان هذا المركز حاضراً غالباً، بهذه النسبة من الفعالية والشمولية أو تلك، في مراحل متعددة من التاريخ اللبناني. يمكن، بشكل خاص، التوقف عند تجربة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» (جمول) التي كانت تجربة جبهوية فعلية في قرار إنشائها، وفي أهدافها، أو حتى في الكثير من عملياتها (لبنانيين وفلسطينيين). لكن، وخلافاً لما يقتضيه الظرف والواجب في سنوات الأزمة الراهنة، فإن هذا المركز لم يكن، قبل، موجوداً ليأخذ دوره المنشود والطبيعي في هذه المرحلة المصيرية، أو أن تبذل المساعي والجهود المطلوبة ليؤسّس بعد اندلاعها. والأكثر إثارة للاستياء أن كل المحاولات التي بذلت، تكراراً، من أجل البحث بإنشائه قد باءت بالفشل، لينصرف كل تنظيم من التنظيمات المعنية، أو من المجموعات التي طاولتها الأزمة بشكل حاد، إلى تحليله الخاص وأولوياته وتحالفاته التي يراها مناسبة (على تنافس وتشرذم)!
كشفت الأزمة الطاحنة المتمادية والمتفاقمة الراهنة الخلل الكبير والخطير الناجم عن غياب مركز وطني موحّد معارض


برزت هذه الحاجة إلى هذا المركز نتيجة أسباب عدّة:
1- عمق وشمولية الأزمة بحيث طاولت آثارها المدمِّرة نحو 95% من اللبنانيين. وهي أزمة مديدة ومفتوحة على أسوأ الاحتمالات، بما فيها الخراب والفوضى والتقسيم والاحتراب الأهلي والحرب الإقليمية.
2- عدم تمكن أطراف المعارضة الشعبية، العفوية وغير العفوية الواسعة جداً، التي جذبتها الأزمة إلى الاحتجاج في الشارع، من بلورة إطار وبرنامج وقيادة، وبالتالي من عدم اعتماد خطة متكاملة للمواجهة ولقيادة عملية التغيير ولأولويات هذه العملية، ما مكّن قوى السلطة، رغم ارتكاباتها الهائلة، من الإفلات من العقاب والمحاسبة قبل الانتخابات وبعدها.
3- افتقار التيار الوطني وقوى التغيير التقليدية اليسارية الديموقراطية القومية التحررية، هي الأُخرى، قبل اندلاع الأزمة وبعد انفجارها، إلى إطار جبهوي يمكنها من لعب دورها الطبيعي في قيادة الاحتجاجات أو التأثير الوازن والمبادر فيها، بما يسهل عملية العبور إلى مرحلة جديدة ونوعية من الحلول والمعالجات.
لقد استمر الأمر على هذا النحو ما حرم مئات آلاف المحتجين وملايين المتضررين والتيار التقدمي التحرري الإصلاحي من فرصة تجاوز الأزمة وإحداث التغيير المساهمة في إنقاذ الشعب والبلاد.
4- افتقار التيار المقاوم إلى برنامج متكامل للتحرر، ما جعله عاجزاً عن إدراك حجم الأزمة ومتمسكاً بخياراته في بناء مقومات شرعية ومشروعية خياره بالاستناد إلى توازنات النظام المثقل بالطائفية والفساد أو في كليهما معاً. قاد ذلك إلى تحوله مدافعاً عن النظام في ذروة عجزه وأزمته ومفاعيله التدميرية على لبنان واللبنانيين. وهو بذلك وضع نفسه في «بوز المدفع» من حيث الاستهداف الذي سرعان ما انتقل، عبر المتربصين في الخارج والداخل، إلى تحميل سلاحه الموجه ضد العدو الصهيوني مسؤولية الأزمة برمتها. أما في واقع الأمر فهو شريك طارئ ومحدود التأثير في النظام السياسي ومنظومته التحاصصية. لا ننسى هنا أن برنامجه التحرري نفسه وحيد الجانب في تركيزه على البعد الإيماني والمذهبي دون الالتفاف الكافي إلى جوانب أخرى في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي اللذين احتلّا المركز الأول في الصراع بسبب عمق الأزمة وبسبب استغلال هذه الأزمة لفرض الخضوع على الشعب اللبناني عبر التجويع والعجز والفشل، وبمشاركة إعلام فاجر تمّ شراؤه وتسخيره بأبشع الصور وأكثرها دناءةً.

استنتاجات
التيار الوطني، بسبب عراقة تجاربه وشمولية برنامجه التحرري العام، في شقه المعادي للهيمنة الغربية الاستعمارية، وفي شقه الاقتصادي الاجتماعي الموجه ضد سلطة التبعية والنهب ونظامها، ولتحرير النظام السياسي من الطائفية، هو المؤهل الوحيد لصياغة برنامج تغيير وطني شامل وإنقاذي. وهو حين كان يوحد قواه كتيار واسع عابر للانقسامات الطائفية والمذهبية وذي حساسية اقتصادية واجتماعية، استطاع الحضور بقوة في الميادين التحررية والإصلاحية والمطلبية والنقابية والشبابية... هذا التيار مطالب اليوم، بإلحاح استثنائي، أن يقدم برنامجاً وطنياً إنقاذياً على مستويين:
الأول: القدرة على النهوض، وبالتالي على الحضور والمشاركة.
الثاني: قطع الطريق على الأسوأ من الخيارات من نوع بقاء قوى السلطة المرتكبة في موقع التحكم بالقرار، وتكريس نظام الطائفية السياسية بدل إلغائها (بكل ما يؤدي إليه بقاؤها من تعاظم المفاعيل التدميرية)، أو انتصار التوجه الأميركي الذي يستهدف المقاومة من ضمن مشروع هيمنة في المنطقة يلعب فيه العدو الصهيوني دوراً محورياً.

مهمات
بعد نقاش وإقرار هذا المشروع، تتشكل لجنة من «اللقاء» للاتصال بأحزاب وشخصيات وهيئات وجمعيات ونقابات وروابط وأندية واتحادات شبابية وطلابية ونسائية... وفق معطيات ومعلومات موضوعية وواقعية، بهدف العرض والنقاش والعمل المشترك وفق الأهداف المشار إليها والأولويات والصيغ القيادية والتعبوية التي يمكن التفاهم بشأنها واعتمادها عبر لجنة مشتركة تتشكل من الأطراف المتبنية لهذا المشروع والتي تُعد برنامجاً وأولويات وصيغ عمل وتحرك نضالي يناقشها ويقرها ويطلق الكفاح من أجلها جميعاً مؤتمرٌ جبهوي ووطني عام.

*وثيقة أقرّها اجتماع موسّع لـ«اللقاء الوطني الديموقراطي» الذي انعقد في 8 تشرين الأول 2022 في بلدة بافليه الجنوبية. وهو تجمّع تأسّس عام 2017 ويضم في عضويته شخصيات مستقلة تناضل من أجل التغيير الشامل