لم تستطع التظاهرات المناهضة للفيفا (1)، والتي تجوب شوارع ريو دي جانيرو البرازيلية حَرفَ الأنظار عن الحَدث الذي يراد له أن يبدو وكأنه الحدث الأكثر أهمية لهذا العام؛ مباريات كأس العالم. وعلى ما يبدو فإنَّ المشاركة في مشاهدة هذه المباريات تُشبع الرغبات الدفينة لعبيد روما عصرنا على دروب الملح؛ جماهير هذا العصر، عصر الاستعراض المُعولم فائق التقنية.
وفي صميمها، تميط لُعبة كُرة القدم القِناعَ عن تَواضع مُتطلبات السعادة الانسانية، إذ يكفي انْ تَهُز كُرةٌ كاملةُ التدوير في حركة التفافية رشيقة شِباك مَلعب الخصم، ليهُبَّ الجمهور مغموراً بسعادة لا توصف فيعود كطفلٍ إذ تُكفكِف رَجفةُ جناحي فراشة دُموعَه.
ليس الوهم وحده ما يصنع من قطعة جلد مكورة قمراً! وقد نستطيع، جزئياً، تقبل ما يدعيه المؤرخ الماركسي البريطاني تيري ايجلتون في مقالته: «كُرةُ القدم؛ الصديقُ الحَميم للرأسمالية» (2) ويدعي فيها بأن طواقم الأبحاث والإرشاد (Thinktank) الأكثر يمينية لن تجد وسيلة أكثر جودة من كرة القدم، لصرف أنظار الجمهور عن أزمة الرأسمالية. ولعبة كرة القدم، وفق ما يراه هي أفيونُ عَصرنا، في إشارة الى جملة ماركس الشهيرة: «الدين أفيون الجمهور» (والتي تمت ترجمتها خطأ الى «الدين أفيون الشعوب»، وغالبا ما تمت إساءة فهمها) (3). على أنه أفيون تفوق جودته، برأيي، جودة الأفيون القديم. إذ أنك ها هنا لست مضطراً الى الالتزام الحصري بإله واحد، فتستطيع إذا التنقل بين فريق وفريق وبين مباراة ومباراة من دون أن يوصم جبينك بوصمة الكفر أو الزندقة، وتستطيع إذا أن تحب من تحبه الآن لتتركه غداً.
وفي عالم بلا روح، وحيث يغيب التضامن الانساني الحقيقي، يُشكِّل تضامن الحشود الكرنفالية المتحلقة حول شاشات العرض الباهرة في ساحات العواصم والمدن وعلى مدرجات الملاعب وفي المقاهي والبيوت تعويضاً ما، تعويضاً خيالياً نعم، إلا انه تعويض ما. فها أنت الآن تتضامن مع فريق جارك أو زميلك في العمل أو ابن مدينتك العاطل من العمل، من دون أن تكون مضطراً إلى أن تسأله عن ظروف معيشته وعمله أو أسباب بطالته. إنه تضامنٌ رثٌ لعالم طُردت منه الروح نهائياً. وهو تضامن الند مع نده على ساحة الملعب، وفقط لولا الصدف لكان المدرب المشهور قد اكتشفك أنت وأنت تلعب الكرة في إحدى الحارات بدلاً من أن يكتشف أرنستو مارادونا. وها أنت الآن تتقزز من شراسة اللاعب في خط الدفاع الذي قذف ببطلك المفضل أرضاً كاسراً له فقرة من فقرات عموده الفقري، من دون أن تكون مضطراً إلى أن تخرج عن طورك من إجرام حكومة دولتك في البلاد البعيدة. فعلى مدخل مقهى العولمة ترتفع اللافتة: «لدينا جميع أصناف الكحول، أما قهوتنا فإنها خالية من الكافيين».
ويفتقد الشكل الباهت لكرنفال المونديال المعاصر، والذي تجري قوننته وتنظيم إحداثياته من قبل المؤسسات الرسمية والتجارية الكبرى، الى الخصائص الثورية الكامنة في كرنفالات العصور الوسطى في أوروبا، حيث كانت تخرج جموع الفئات الشعبية المهمشة الى الساحات العامة قبل عيد الفصح، في مهرجانات ضخمة للغناء والرقص ومعاقرة الخمر، مرتدية أقنعة غريبة متمادية على التراتبية الهرمية السائدة. ووفق ميخائيل باختين (4) تكونت في مثل هذه المهرجانات ثقافة شعبية ناقدة ومتمردة على سيطرة رجال الدين وأمراء الإقطاع، ثقافة باحت بها شخصيات أدبية إشكالية كالمهرج والأبله والساخر ووفرت تربة خصبة لنشوء الثورة البرجوازية على الإقطاع. أما في مثل هذه الكرنفالات المعاصرة فلا تنشأ ثقافة تُسائل النظام القائم ولا هي بقادرة على توفير بديل جذري منه. يكفيها فقط أن تفرغ الهيجان الشعبوي والقوموي المتحلق حول أمة فريق ما، في عربدة تجوب شوارع المدن والحارات. ومقابل الثقافة الشعبية المتمردة على النظام القائم والتي قدمتها كرنفالات العصور الوسطى يقدم لنا المونديال كرنفالاً مُعلباً ومُعولماً ينتفي فيه الصراع ويتحد فيه الكلُ في الكل، كما يبدو صريحاً في أغنية المونديال الرسمية:
«ارفع علم بلادك الى الأعلى، نحو السماء
وقم عندها بالتلويح به يُمنة ويُسرى
أظهر للعالم من أين أتيت
واظهر له أننا جميعا كلٌ واحدٌ».
وتغيب المرأة في الكرنفال المعاصر عن ساحة المشهد الرئيسي ولا تظهر الا كمشجعة جميلة على هامشه، تاركة المجال لعالم الرجال بكامل أدرينالينهم، تجذب نظرنا بتألقها وتذرف الدموع حين يخسر فريقها، بينما كانت في الكرنفال القديم في مركز الحدث تقوده وتصوغ أناشيده.
وإذا ما كان عصرنا وفق فيورباخ «يفضل الصورة على الشيء، النسخة عن الأصل، التمثيل على الواقع... وما هو مقدس بالنسبة له ليس سوى الوهم، أما ما هو مدنس فهو الحقيقة...»(5) فإنَّ الكرنفالية المعاصرة للمونديال تلقي بالذات خارج ساحات مدن العصور الوسطى كمشاركة وفاعلة في أحداث الكرنفال الى موقع المُشاهِد السلبي موقع المتلقي في مجتمع الفرجة المعاصر. فوفق المحلل الألمع لمجتمع الاستعراض جي ديبور (6)، تقوم وظيفة الاستهلاك الاستعراضي على المحافظة على الثقافة السائدة في حالة من الجمود ويتضمن التكرار المستعاد انعدام أي تواصل حقيقي، لأن المقصود هو إعلان المصالحة مع الوضع السائد للأمور، فوظيفة الاستعراض هي جعل التاريخ منسيّاً في الثقافة، واستراتيجة التقنية الفائقة والزائفة لوسائل الاتصال الحداثية تتكامل مع المشروع العام للرأسمالية المتطورة والتي تستهدف الإمساك من جديد بالعامل المفتت باعتباره «ذاتاً متكاملة جيداً في الجماعة» في مسعى إلى إعادة بناء البنية الاجتماعية المسيطرة.
*كاتب فلسطيني

هوامش:
(1) http://rt.com/news/162672-brazil-world-cup-protests/
(2) Football: a dear friend to capitalismhttp://www.theguardian.com/profile/terryeagleton
(3) والجملة الكاملة التي تُجتزأ منها هذه العبارة هي كالتالي: «إنّ التعاسة الدينيّة هي، في شطرٍ منها، تعبيرٌ عن التعاسة الواقعيّة؛ وهي، من جهةٍ أخرى، احتجاجٌ على التعاسة الواقعيّة. الدين زفرةُ (تنهد) الإنسان المسحوق، روحُ عالمٍ لا قلبَ له؛ كما أنّه روحُ الظروف الاجتماعيّة التي طُردت منها الروح. إنّه أفيونُ الشعب (أو الجمهور People )». كارل ماركس: نقد فلسفة الحقّ عند هيجل (1834-1844).
(4) ميخائيل باختين ( 1895ـ 1975) فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي - سوفياتي. ولد في مدينة أريول. درس فِقه اللّغة وتخرج عام 1918، وعمل في سلك التعليم وأسس «حلقة باختين» النقدية عام1921.
(5) ل. فيورباخ، مقدمة الطبعة الثانية من جوهر المسيحية.
(6) جـي ديبـور مجتمع الفرجة، ترجمة: أحمد حسان، دار شرقيات.