مع عبور منتصفِ الثّمانينيات من القرن العشرين، بدأت اللّطميّةُ البحرينيّة تتمركزُ بقوّةٍ على رأسِ منصّات التّبليغ والتّداول المعنيّة بمواكبةِ المستجدّ السّياسيّ والأحداث العامّة في البلاد وخارجها. جاء ذلك بعد محاولاتٍ متكرّرة من النّهوض الحثيث للتّيار الإسلامي (الشّيعي)، وعلى أثر إسهاماتٍ مبعثرةٍ تحرّكت في الأجواء المحليّةِ من غير تكاملٍ أو تنسيقٍ وظيفيّ متواصل، وقادَه جيلٌ دينيّ تمدّد في السّياق العموميّ تحت تأثير الزّلزال الإيراني عام 1979، وأخذَ واجهته الأولى الشّيخُ جمال العصفور (استُشهد داخل السّجن عام 1981)، والشّيخ محمد العكري (1941-2010)، إضافة إلى السّيّد هادي المدرسي (مفكّر عراقي معاصر تجنّسَ في البحرين ثم أُبعِد منها عام 1979). وبعد الأحداثِ السّاخنةِ منتصف الثّمانينيات، وما أفرزته من حلباتٍ غير متكافئةٍ من الصّراع الإيديولوجيّ داخل التّيار الشّيعي (الحركي والتّقليديّ على حدّ سواء)، تربّعَ على المشهدِ جيلٌ دينيّ جديد تولّى إنتاج شعبيّةٍ متحرّكة بدت أكثر ترشيداً وتوظيفاً وديناميكيّة، وعلى رأسه السّيّد أحمد الغريفي (1946-1985) والشّيخ عيسى قاسم الذي سيظلّ حتّى اليوم عنواناً للحقبةِ الجيليّة (الدّينيّة) الغالبة في البحرين. سرعان ما تولّت اللّطميّة البحرينيّة منصّة الإبلاغ العام، وبالتّعويل على رواديد تجمّعت فيهم، شيئاً فشيئاً، الملامحُ النّموذجيّة للجيلِ الدّيني (المعجونِ بألقِ الثّورة في إيران، ونكباتِ الظّلم الدّاخلي) المُراد تعميمه بين الأتباع، وبينها خامة الصّوت المؤثرة، وقدرة الاستقطاب العام، وسرديّة النّضال المكتسبة بسبب الاعتقالِ المتكرّر وما أُضفي عليهم من حكايات الجرأة والبطولةِ داخل السجون والتي صاغها المخيالُ الشّعبي بإتقان خاص، من قبيل السّرديّة تُطوّقُ الإخوةَ الرّواديد من آل سهوان: جعفر، حسين ومهدي.
من النّاحيةِ الوظيفيّة؛ كانت هذه المنصّةُ معنيّةً، في الجوهر، بتقديم فهْمٍ خاصّ لما يجري، بغرَض خلْق التّأثير المباشر على الأتباع وعموم الجمهور. يجري ذلك وسْط الحشْدِ التّفاعليّ الذي يوفّره موكبُ اللّطم في مظهره الثّابت داخل المأتم (الحسينيّة) أو المتحرّك بين الشّوارع المتفرّعة داخل البلدات. هذا الحشدُ الموكبيّ كان بمثابةِ السّياق التّفاعليّ الأوّل، أو اللّحظي، الذي يتجمّدُ، في البدء، في وضعيّةِ الاستقبال المتحمّس (المؤيّد) للتّقرير الذي تعلنه «اللّطميّة» -بوصفها «خلاصة الضّمير الجمعيّ»- إزاء الأحداثِ وما يشغلُ الرّأي العام من همومٍ وقضايا. وفي وقتٍ لاحق من الحدث الموكبي -وبحسب الزّمن ووسائل التّواصل والتّداول التي يوفّرها- يتشكّلُ تعاطٍ آخر مع هذا الإعلان الموكبي، يتمّ فيه التحرّر من اللحظة الأولى التي يُمليها الاستقبالُ الانفعالي (الحماسي/العزائي) مع الموكب، ليأخذ أشكالاً مختلفةً تُراوحُ بين التّرويج الدّعائي المؤدلج، والتّداول النّقدي المتفاوت، وهو ما صاغَ، مع الوقت، المشهديّة الحيويّة لموسم «عاشوراء البحرين»، بما هو أولاً موسمٌ مفعمٌ بالإصداراتِ والفعّاليّات والابتكارات التي تتسابقُ القوى الفاعلة (والمتغالبة) في إنتاجها بهذه المناسبة المركزيّة (سوق الإنتاجات المتنافسة)، وبما هو ثانياً إطارٌ زمنيّ تتماوجُ فيه أعدادٌ كبيرة من النّاس، ومن ألوانٍ وأجواء وفئات متنوّعة، وفي أماكن محدّدةٍ ومركّزة (المآتم، مجالس العزاء، المواكب، المضائف، التجمّعات المصاحبة...)، ما يجعلُ من عاشوراء البقعةَ الأكثر إغراء لتوظيفِ أدواتِ وخطاباتِ التّأثير والضّبط والهيمنة والسّلطة (بالمعنى الفوكوي، وبالمعنى السّلطوي كذلك). كان من الطّبيعي، في النهايةِ، أن تتبلورَ «عاشوراء» بما يتجاوزُ المحتوى الطّقوسيّ، أو لا تكتفي بهذا المحتوى فقط، ليكون ذلك مؤشّراً إلى أمرين، الأوّل: تشكّل وعي عموميّ جديد، على مستوى النّخبةِ الدّينيّة، وعلى مستوى الدّوائر التي تحيطُ بها من فاعلين مؤثّرين ووسائط اجتماعيين. والثّاني: السّجال الدّيني والفكريّ الذي يدور رحاه في المؤسّسةِ الدّينيّة (الحوزات وملاحقها وتوابعها)، حول طبيعةِ الممارسةِ العاشورائيّة، والجدال بين الموروثِ الطقوسي والعقل الحداثي، والموقف النّقدي حيال اجتهاداتِ الإحياء والتوظيفيّاتِ المستحدثة، وآليات التحكّم أو ترشيد الجريان السّياسي في إحياءِ عاشوراء، وخاصّة على صعيد الموكب وقصائد الرّثاء التي تُصاغُ –شكلاً ومضموناً– بتجاذبٍ غير يسير مع الأُطر التّقليديّةِ للمؤسّسة.
في الحقبةِ بين التّسعينياتِ وحتى بداية الألفيّة الجديدة؛ أخذت اللّطميّةُ البحرينيّة قوّتها المكتسبة على يدِ الخلاصة الجيليّة التي توزّعت بين أصوات (مدارس) فاضل البلادي، حسين الأكرف ومهدي سهوان. واستطاعت هذه الخلاصة (وفروعها المدرسيّة) أن تُحدثَ تأثيراتٍ غير محدودة، ولا سيما مع الإضافات التي تراكمَت على مواصفات النّموذج الموكبي المطلوب، وخصال الرّادود «المحبوب»، وعلى سوق الإنتاج العاشورائي عموماً. لم يخلُ ذلك من صراعاتٍ بين التّقليديين والتّحديثيين، حيث كان موضوعُ الممارسةِ العاشورائية، على الدّوام، مجالاً دائماً لإظهار هذا التّباين والصّراع، ولكن نموّ المجموعات الثّقافيّة –المحايثة للمؤسّسة الدّينيّة، والمجايلة لها– صعّدَ من المقارباتِ النقديّة للممارسة العاشورائيّة في البحرين، ما أدّى -كما هو متوقّع - إلى احتدامٍ أكثر مع المؤسّسةِ العائمة التي ترعى موسمَ عاشوراء، من غير أن يمنعَ ذلك من إنتاج آثارٍ إيجابيّة على صعيدِ إحداثِ «تصحيح وإصلاح» في جوانبَ من هذه الممارسةِ وأشكالها، رغم أنّ ذلك بقي محدوداً لأسبابٍ عدّة، بينها الحظوة غير المسبوقةِ التي احتلّها الرّادود –مع الألفيّة الجديدة وما بعدها– بعد أن استطاعَ أن ينشئ هويّةً جديدة في حكاية عاشوراء والرّثاء الحسيني، تدمجُ (هذه الهويّة) بين الخصالِ الرمزيّة (النّموذج المُتوّج في فترةِ التّسعينيات)، ومواصفات السّوق الحرّة (معايير النّجوميّة والانتشار التّجاري).

اليسار والتّوظيف السّياسي لعاشوراء
لم يتبلور هذا الوعي الوظيفيّ لعاشوراء فجأةً في البحرين، ففي مطْلع السّتينيات وحتّى ما بعد منتصف السّبعينيات من القرن المنصرم، قدّمت مواكبُ العزاء إسقاطاتٍ سياسيّة عديدة، وبإرشادٍ مباشر من القوى اليساريّة التي كانت تسودُ وتقودُ الواقعَ السّياسي والاجتماعي في البحرين آنذاك. وقد حرصت هذه القوى -وبينها قوى يساريّة متشدّدة إيديولوجيّاً (مثل جبهة التحرير الوطني البحرينيّة)- على الاحتفاءِ بذكرى عاشوراء في صدْر نشرتها الحزبيّة الأساسيّة، وكان من المنطقيّ أنْ يستثمر اليساريّون والقوميّون انتشارَهم الواسع بين النّاس للتّوغّل في البناءِ العام للمجتمع البحرينيّ، ولا سيما أنّ الوعي بالفارقِ «الإيديولوجيّ» لم يكتمل بعد في الأوساط العامّة (المتديّنة برخاوة)، على النّحو الذي يفسّرُ التمدّدَ اليساري في أوساط القرى وداخل العوائل التّقليديّة والدّينيّة، وكان من لوازمِ هذا التمدّد أنْ تضعَ قوى اليسار يدَها على محتوى اللّطميّات بوصفه مدخلاً لإدارةِ المواكب والنّجاح في توجيهها لتبليغ الرّسائل العامة، وتسجيل المواقف، وتحديد خيارات الصّراع مع السّلطة وقتئذ.
تعدّدت اجتهاداتُ جبهةِ اليسار في توظيفِ ذكرى عاشوراء، وكان الموقفُ اليساريّ العام في البحرين –طيلة النّضال السّتيني والسّبعيني– يكرّسُ تغطيةً تعبويّة حازمة للموسم


تعدّدت اجتهاداتُ جبهةِ اليسار في توظيفِ ذكرى عاشوراء، وكان الموقفُ اليساريّ العام في البحرين –طيلة النّضال السّتيني والسّبعيني– يكرّسُ تغطيةً تعبويّة حازمة للموسم، حيث حرصت الأدبياتُ والمنشوراتُ الحزبيّة على تقديم توجيهٍ سياسيّ مباشر في الإحياء، من قبيلِ الاستعراض الموجّه الذي قدّمته نشرةُ جبهة التّحرير «الجماهير» (عدد شهر أيار/مايو، 1965)، للإحياء العاشورائي في البحرين آنذاك، وذكرت أنّ المعزّين كانوا يُحيون الذّكرى وهم يستحضرون «المعارك الدّمويّة التي خاضتها ضدّ سلطات القتل والإرهاب والظّلام»، وأدرجت النشرةُ مواكبَ المعزّين في إطار «التّصميم على نيل الحقوق»، كما قدّمت أمثلةً على «الرّدّاديّات» (الشّيلات) التي رفعتها المواكبُ ذلك العام، ومنها «اللّي يريد حقوق لازم تضحية»، «القوم ظلام ما فيهم رحم... ثورة الأحرار لازم تنتصر». ويكشف الأرشيفُ المنشور، وكذلك الذّاكرة الشّفاهيّة التي تُتناقل حتى اليوم، بأنّ قوى اليسار في البحرين كانت شريكةً في إدارةِ المسار الموكبي العام، وفي تركيبِ النّصوص وصياغةِ الهتافات أثناء توافد المعزّين في المواكب، وكان الغرضُ الأساسيّ هو إلحاق الموسم بعمليّاتٍ متعدّدة من التّوجيه المسيّس الذي يجعل من عاشوراء «تعبيراً مجسّماً عن تصميم وعزْم جماهيرنا لتحقيق أهداف شعبنا في التحرّر الكامل من السّيطرة الاستعماريّة وفي إشادة نظام ديموقراطي» (نشرة «الجماهير»، عدد أيار/مايو، 1965).
لم يستقر هذا الوضع طويلاً، فمع صعود الإسلام الحركي نهاية السّبعينيات، بدأت تندلعُ احتكاكاتٌ جديّة على حدودِ عاشوراء وجمهورها المُتنازع عليه. وقد أصدرت جبهةُ التّحرير بياناً في نوفمبر 1979 بمناسبةِ عاشوراء، يعكسُ جانباً من الجدالِ المحتدم آنذاك، ويُؤرّخ البيانُ البوادرَ الأولى لنشوءِ الصّراع الإيديولوجي في توظيف عاشوراء، والمواد التي تأسّسَ عليها هذا الصّراع. يقدّمُ البيانُ صياغةً خاصّة في إحياء عاشوراء، تأخذ محتواها من المعالجاتِ الثّوريّة التي عُرف به المفكّر الإيرانيّ علي شريعتي (من غير ذكْر اسمه، رغم احتفاء البيان بالجماهير الإيرانيّة وقواه الثّوريّة). هذه الصّياغةُ الثّوريّة لعاشوراء تقومُ على أساس مقولتين: الأولى أنّ «شهادة الحسين ورفاقه» كانت «في سبيل الحقّ وضدّ الظّلم والطّغيان»، وهي مقولةٌ «تعبويّة» بمحتوى ثوريّ، لدفْع المواكب نحو الاحتذاء الحيّ (المعاصر) بالنّموذج الذي قدّمه «الحسين ورفاقه» في كربلاء التّاريخيّة. أمّا المقولةُ الأخرى فهي «تحريضيّة» بمحتوى هجوميّ، وتدعو إلى مواجهةِ شركاء النّظام الخليفي الذين يشخّصهم البيانُ في «البرجوازيين الكبار» و«المتلبّسين بلباس الدّين»، متّهماً إيّاهم بالضّلوع في إنتاج شعاراتٍ «رجعيّة» و«طائفيّة» في عاشوراء، وفي المقابل يشدّد البيانُ على ضرورةِ «بلورة الشّعارات المعبّرة عن أماني وأهداف شعبنا في هذه المرحلة»، وذكرَ من ذلك مطلبَ الإفراج عن السّجناء، وإلغاء قانون أمن الدّولة، وإغلاق القاعدة الأميركيّة في البحرين، و«تعديل الدّستور».

أفول اليسار... واستقرار الإسلام الحركيّ
بعد عقْدين من الزّمان، سيخبو الوهجُ اليساريّ والقوميّ (الثّوري) برمّته، وستصبحُ البحرين محكومةً بتيّار الإسلام الحركيّ، وبلا منافسٍ يقوى على مزاحمةِ المكوّن المزدوج لهذا التّيار: التّصلُّب العقائدي، والحماس الثّوري، والذي سيظلّ يوفّر لنفسه موادّ تحفيزيّة وصياغات تعبويّة ونهضويّة من المقاطع المتنوّعة للثّورة في إيران. سينعكسُ ذلك على البرنامج العاشورائي ومحتوياته في البلاد، وستبدو المفارقة، حينها، مدعاةً للاستغرابِ مع «اكتمالِ» تحوّلاتِ الأحوال والرّجال، حيث سيخرج اليسارُ من إرثه السّابق باندفاعٍ «ثوريّ» معاكِس، وسترمي به المراجعاتُ إلى مكانٍ قريب، لصيقٍ، من «الأمر الواقع» الذي تحرسه السّلطةُ «القاهرة الغالبة». سيكون اكتظاظُ الإسلاميين (الشّيعة) في السّجون –التي كانت المعقلَ الدّائم لليساريين والقوميين في العقودِ الماضية– مؤشّراً إلى المتغيّر الجذريّ الذي طبعَ خرائط الإيديولوجيّات و«المجتمعات» في البحرين، وفيها سيكتفي قدامى اليسار بصوْن قلاع «الأمر الواقع»، مع كليشيهاتٍ مُعاد تكرارها في الهجوم على الإسلاميين بوصفهم «واجهات رجعيّة أشدّ خطراً من السّلطةِ الحاكمة». كان ذلك إشعاراً على أنّ هذا الخطاب ما عادَ يجدُ ما يُسْعفه على التمدّد، وأنّ جرثومة «الانقطاع الجيليّ» قطّعتْ أوصالَ اليسارِ وأصابته بالضّمور والانكفاءِ الحاد.

في الحقبةِ بين التّسعينياتِ وحتى بداية الألفيّة الجديدة؛ أخذت اللّطميّةُ البحرينيّة قوّتها المكتسبة على يدِ الخلاصة الجيليّة


بدوره، وفي هذا المقطع الزّمني، نجحَ الإسلامُ الحركي في الإمساك بـ«كتالوغ» عاشوراء الحسين، واستفردَ في وضْع «الإرشادات» المعتبرة (الواجب اتّباعها) في إحياء الموسم، كما وجدَ رواديدُ هذا التّيار وشعراؤه مساحةً كبيرة من «الحريّة» في تقديمِ تجارب «الأداء» الرّثائي والموكبي وفي التّوظيف المعاصر للذّكرى. وباتّفاقِ مؤرّخي اللّطميّة البحرينيّة، فقد كانت حقبةُ التّسعينيات الاختبارَ الحقيقي لهذا التّيار ورواديده، مع التّفوّق الملموس آنذاك في إنتاجِ أبرز توظيفٍ تعبويّ مسيّس في تاريخ المواكب بالبحرين، ما أثبت مجدّداً –على غرار تجربة اليسار في السّابق- بأنّ أتون المحن وشدّة الصّراع مع السّلطة يُمّهد فسحةً أكبر في توظيفِ عاشوراء، وفي استنساخ صور مستحدثةٍ من يوميّات كربلاء. كان قمْعُ النّظام، من جهة، وضعْف المركزيّة في التّيار من جهةٍ أخرى، فتحا أمام منتجي اللّطميّة في التّسعينيات مساحاتٍ واسعة للتصرّف الحُر، والتّعويل على ضمان عمومي بالنّجاح والقبول الشّعبي. ولكن ذلك لم يعد ممكناً في الفترات التّالية (بعد عام 2000)، التي ترسّخت فيها بُنى التّيار ومؤسّساته، وأصبحت اللّطميّةُ خاصّة ملزمةً بالدّوران حول مرجعيّات التّيار، والاحتكام إليها. رغم ذلك (أو تأكيداً على ذلك)، فإنّه مع أيّ عودةٍ لدوْرات القمع، وبالتّالي تفكُّك مركزيّات التّيار الحركي، ستجد اللّطميّةُ البحرينيّة نفسَها أمام تحدّي إعادةِ الصّياغة وتعويمها، واختبار التّحولات، وكذلك التّحدّيات. هكذا كان الحال مع حدث 2011 (الممتد حتّى اليوم).

الهيمنة الرّسميّة على عاشوراء
في السّنواتِ الأولى بعد ثورة 2011، حيث ما زال التّيار الحركي -الذي يُمسك السّرديّةَ المحليّة لعاشوراء- على قوّته، كانت المواكبُ والإنتاج العاشورائي مفعميْن بالتّوظيف السّياسيّ المباشر وشبه المباشر، ولكن شدّةَ القمع، والضّربات المتتالية بعد عام 2015 ضدّ مرجعيّات التّيار وقواه الحيّة، أملت على المعنيين بإحياءِ عاشوراء القيام بمراجعاتٍ تكتيكيّة، ولكن حاسمة، تجلّت بوضوح في المنحى المتزايد الذي يدعو إلى تخفيف الإسقاطاتِ المباشرة في نصوص الرّثاء والمواربة في ذلك، والحرْص على ضبْط المواكب وجمهور المعزّين، والإلحاح عليهم بعدم رفْع شعارات «سياسيّة». تمّ التّعويض عن ذلك بتدوير الشّعارات والكلمات «الموروثة» ضدّ الحاكم الأموي يزيد ومرتكبي مجزرة كربلاء، وشعارات الفداء والتّضحية المستقاة من إقدام الإمام الحسين وأصحابه وأهلِ بيته في كربلاء، وضخّها كلّ ذلك بروح حماسيّة ممزوجة مع التّعابير والرمزيّات والإيماءات الجسديّة أثناء الإحياء. لم يغب ذلك عن النّظام، وكان مشروعه في الهيمنةِ على إحياءِ عاشوراء قد بلغَ مستوى متقدّماً في عام 2019، حيث ثبّت النّظامُ الأدوات التي وطّدت له -بشكل واسع- الاستقواءَ على الموسم أو «استملاك عاشوراء»، عبر إبعادِ أو تقييد أو تطويق أثر ودوْر صُناع المحتوى العاشورائي (من التّيار الحركي والمعارضة). وكان مدخل ذلك قيام وزارة الدّاخليّة بدور «الولاية» على عاشوراء، ابتداءً من فرْض هويّةٍ محدّدة من الإحياء المتناسب مع «عقيدة الولاء للأمن»، مروراً بإجراء سلسلةٍ من العمليّات والسّياسات لإدارة الموسم العاشورائي، واستعمال أدواتٍ أمنيّة متنوّعة للاستحواذ الإجباري (العنفي) على الموسم، وملاحقة وتجريم أي خطاب أو ممارسة تتعارضُ مع الأطر المرسومة من وزارة الدّاخلية وبقيّة المؤسّسات التي تتبادلُ معها أدوار السّيطرة على عاشوراء (وزارة العدل، المحافظات وإدارة الأوقاف الجعفريّة).
كان وجود بعضِ منتجي اللّطميّة البحرينيّة خارج البلاد فرصةً نسبيّة للتحرُّر من آثارِ الإجبار على إحياءٍ «رسميّ» لعاشوراء، وبالتّالي سهولة ضخّ أسبابٍ أخرى من القوّةِ والتّشجيع للإبقاءِ على الوظيفةِ الأساسيّة للمواكب في البحرين، أي بما هي إشعارٌ رمزيّ دائم على وجودٍ صراع بنيويّ مع النّظام. لذلك، داومَ الحضورُ الموكبي في عاشوراء البحرين، حتّى اليوم، على ابتكارِ وسائله الخاصّة لتحقيقِ أمرين: الأوّل النّأي ما أمْكن عن الانخراطِ في مشاريع النّظام، وبالتّالي إفشال مشروعه في الهيمنةِ «الأمنيّة» على عاشوراء، والثّاني التّحايل على ضوابط النّظام القهريّة في إحياء الموسم (وكذلك «فتاوى» النّظام الجديدة في تجريم نقْد يزيد بن معاوية، ومنْع الخليجيين من المشاركة في مواكب البحرين). تمّ ذلك بأشكالٍ متنوّعة، وبالاستفادةِ من التّقنيات والفرص المتاحة الحديثة. بعضُ ذلك كان له أثره الناجز في دفْع أو الحدّ من التدّخل الرّسمي وهيمنته على الموسم، وبعضٌ آخر لم يفلح في ذلك، وهناك من تورّط في آثارٍ عكسيّة غير مقصودة. رغم ذلك، فإنّ الابتكارَ الذّهبيّ الرّاهن، والذي يبدو أنّ مفاعيله ستكون أكثر صرامةً في مجابهةِ المشروع الرّسمي الموجّه لعاشوراء، هو ذهابُ صانعي اللّطميّة إلى النّصوص المشغولة بالموروث الأصيل، وإلى الأداءِ شبه التّقليدي، على طريقةِ إصدار «نوح الراعبيّة»، أي –ويا للمفارقة– عبر تخفيض منسوبِ التّوظيف السيّاسي، والحدّ من صرَع الإنتاج التّجاري و«السينمائي» في إحياءات عاشوراء. لا يعني ذلك أنّ كريم المحروس –الباحث البحريني المخضرم المقيم في المنفى البريطانيّ– سيجدُ إثباتاً كافياً لدعاواه في شأنِ ضرورةِ فكّ الموروثِ البحريني (وبينه المواكب واللّطميّات) عن «التّشطيب الحزبي» والإسقاطات السّياسيّة العاجلة، وهي دعاوى كان يكرّرها المحروسُ منذ أكثر من عقدين (وثبّتها في كتابه الأخير «جيل الجنّة»)، ولكنّ المؤكّد أنّ اللّطميّة البحرينيّة تجدُ نفسَها اليوم أمام مختبرٍ جديدٍ وجدير بها الولوج إليه إلى آخر مدى، ولا سيما أنّ الموضوع الثّابت في إحياء عاشوراء هو أنّ قدرته على تمديد معناه الاحتجاجيّ/الاستمراريّ مرهونٌ بدرجة الحفاظ على جوهره الأوّل، وهو انبعاثه من مقولات الخروج الحسيني الأوّل، أي المنبت المعرفي والتّاريخي المفعم بالتّوليدِ والقراءات المتجدّدة على مدى الزّمان.

* كاتب بحريني