«أعطني إعلاميّين بلا ضمير أُعطِك شعباً بلا وعي» (وزير الإعلام النازي، غوبلز)
مات سعيد الحمد، لكنه سيبقى في ذاكرة الضحايا التي وثقها تقرير بسيوني باسمه الإعلامي المنزوع الضمير (انظر الفقرة 807 من تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق). لا تسقط أسماء الجلادين ولا منتهكي شرف الإنسان والمجتمع. كثيرة هي قصص الحقوقيين والأطباء والمهندسين والمثقفين والصحافيين والناشطين والسياسيين، التي يحضر فيها سعيد الحمد محرضاً عليهم، وواشياً بهم، ومشوّهاً لسيرهم، ومُصوّباً على أعراضهم.
نحترم الموت كفعل طبيعي جميعنا صائرون إليه، لكنه لا يعطي لأي منتهك للحق العام حصانة. نحترم الموت مع أن سعيد الحمد لم يوفر حرمة لأحد، كان ديدنه التعرض لأدق تفاصيل الحياة الشخصية لأي شخص من المحتجين الذين يريد أن ينال منهم، يتعرّض لهم في برنامجه (حوار مفتوح) بكل فضائحية.
كما لا يسقط الحق العام، كذلك لا تسقط الشخصية العامة وأفعالها المخلة بشرف المهنة العامة وليس كالصحافة والإعلام مهنة دقيقة الشرف ورفيعة الشرف، والمس بها يستدعي الحماية والصيانة. لذلك، الذاكرة العامة لا تنسى غوبلز الذي شوّه مهنة الإعلام بممارسته النازية، ولا تنسى محمد سعيد الصحاف بممارسته البعثية، ولن تنسى سعيد الحمد بممارسته الشعبوية التحريضية، كل هؤلاء ممقوتون لتسخيرهم الصحافة وجعلها ممارسة مقت.
«لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ». حضرتني هذه الآية بقوة مع خبر موته، ووجدت في «المقت» معنى عميقاً، فهو يعني في اللغة شدة الغضب وشدة كراهية الفعل. الآية تتحدث عن مشهد جهنم وغضب المعاندين الكافرين بحقيقة وجود الله، غضبهم من أنفسهم وكراهيتهم لأفعالهم التي قادتهم إلى هذا المصير. يقول لهم الله هنا: أنه أشد غضباً وكراهية لأفعالهم الجاحدة حين كانوا في الدنيا يكفرون.
ما الذي أمقته من سعيد الحمد؟ ما الفعل الذي قام به وصار يستثير المقت بدل التعاطف مع موته؟
لقد اقتلع ضمير الصحافة، جعل صحافتنا بلا ضمير، وأد ضميرها الذي يمثل حقيقتها، تماماً كما يفعل الكافر، يحجب ضميره النابض بالألوهية، يُقسّيه، ليزداد كثافة وسماكة وعماية، فلا يعود يرى، هذا هو المَقت.
جعل الصحافة ناطقة بالمقت، صارت الصحافة تحرّض ضد الناس بلا ضمير، تقتل وتسجن وتشي وتفضح وتحرّض وتشوّش وتفتن، وتمكّن السلطة وأجهزتها من وأد من لا يوافقها أو يعترض عليها.
زواج المقت هو زواج الابن من زوجة أبيه بعد موته. هو فعل ذلك بالصحافة، زوجها من الدكتاتور القاتل، أخذها ذليلة لبلاط جلالته، وراح يُطلق بذاءاته، «كانوا يمارسون طقوس (المتعة) في أثناء إقامتهم في الدوّار»، لم يترك الصحافة حرة في بلاطها، سخّرها ذليلة لأفعال المقت.
جعل سعيد الحمد الإعلام (حوار مفتوح) لا يحضر فيه أحد، كما قال له سهيل القصيبي في مقالته (رسالة إلى سعيد الحمد) الجريئة في ذلك الوقت 25 نيسان/ إبريل 2011 من أيام قانون الطوارئ (السلامة الوطنية). أي أنه جعله حساباً مفتوحاً لأصحاب الآراء المختلفة لمصلحة أصحاب السلطة الأحادية التي وكّلته نائباً مطلقاً عنها.
سخّر الصحافة والإعلام شاشات إذلال للضحايا، وتهديداً لمن هم على طريق الضحايا، ومصدر قلق وخوف لكل عائلة يرد اسم ابنها في لسانه أو قلمه. يشمت ويشتم ويغمز ويخوّن بلا ضمير صحافي وهو يعرض مقاطع فيديوات صوّرتها أجهزة المخابرات ووزارة الداخلية لاعترافات واعتذارات واحتجاجات الضحايا. لا يمكن أن ننسى آيات القرمزي، الفتاة العشرينية وهي تقدم اعتذاراً مذلّاً لإنسانيتها، تعتذر عن قصيدة حرة ألقتها في ميدان عام يضج بأصوات شعب يبحث عن نفس الحرية.
لا يمكن أن ننسى بذاءاته ضد الحقوقيين وغمزه ولمزه المقززين، وقد حصد الحقوقيان العالميان نبيل رجب ويوسف المحافظة حلقات طويلة من كراهياته، ولم يكتف بسجن نبيل، بل راح يكيل صفات الخيانة والتشويه على المحافظة ويطالب الحكومة باعتقاله وإرجاعه إلى البلاد.
حين سألتني ابنتي في كتاب «بلا هوية... إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل»: كنت أشاهد صورتك في الجرائد قبل أن أدخل المدرسة. هل يعقل أنه لم يدافع عنك أحد في هذه الصحف، لم أجد لأجيبها أقبح من ثلاث مقالات كتبها سعيد الحمد، يُمعن فيها في النيل منّي، أقتبس هنا فقرة من إحداها: «لا عجب أن يخرج علينا المدعو علي الديري بعدما قبع في المنفى الاختياري لشهور صامتاً ويعمل من وراء الكواليس خوفاً من أن يخرج إلى نور الشاشات، فقد اعتاد أن يمشي في الساس يخرج علينا بحثاً عن بطولة، ليدّعي أن حكومة البحرين أوعزت إلى السلطات في مصر وإلى الجهات المعنية عن معرض الكتاب هناك لمنعه من دخول الأراضي المصرية ومنع كتابه».
لقد وثّق لنا تقرير بسيوني في تقريره الحقوقي، المقت الذي مارسه سعيد الحمد، عبر تلفزيون البحرين ضد الكادر الطبي، تحت عنوان «الحملة الإعلامية من قبل التلفزيون البحريني ومسؤولين حكوميين آخرين ضد الكوادر الطبية المتهمة»، في الفقرة 807 يقول بسيوني: «وفى برنامج سعيد الحمد على التلفزيون البحريني، والذي بُث يوم 30 مايو 2011، تم التعريف بثلاثة من الأطباء المتهمين بأنهم قادة خلية إرهابية. وقد أقر اثنان من الأطباء المتهمين فى البرنامج نفسه بأنهما كانا قد قدما بيانات كاذبة إلى وسائل الإعلام».
الموت لا يسقط الحق العام بل هو خاتمة للاقتصاص العام، وجاك الموت يا تارك الضمير.

* كاتب بحريني