تعرّض اللبنانيون، منذ بدء الأزمة، لعملية تضليل ممنهجة ركيزتها الأساسية تجزئة المشكلات والقضايا، والتعامل معها على أنها مسائل منفصلة لا رابط يجمعها. فيأتي الفصل في الخطاب بين النقاش السياسي والنقاش الاقتصادي، لتثبيت انقسام الضحايا على أنفسهم على أسس سياسية وطائفية وتغييب الخطاب الطبقي الذي يوحّدهم حول مصالحهم. الهدف بكل بساطة هو منع تكتل الضحايا في وجه السلطة والقوى المسيطرة في المجتمع وقطع الطريق أمام نشوء حركة مطلبية جامعة تطالب بالحقوق الاجتماعية. يفترض أن الانهيار قد كشف حسياً كيف أن أزماتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي في الحقيقة أزمة واحدة، لكن تشتيت القضايا سمة السلطة العاجزة عن اجتراح الحلول. في أي بلد آخر، كان لانهيار بهذا الحجم أن يفرض تلقائياً نقاشاً في عمق الأزمة: أي اقتصاد نريد لأي دولة؟ فلا حلول اقتصادية خارج نقاش شكل الدولة والمجتمع الذي نطمح إليه. دولة الرعاية الاجتماعية تتطلب شكل اقتصاد معيّن وخيارات سياسية واجتماعية مختلفة عن دولة السياحة والخدمات والاستهلاك، ودولة ممانعة تحتاج إلى مجتمع مقاوم واقتصاد مقاوم وخيارات مختلفة بالسياسة وبالاقتصاد. قوى السلطة في لبنان إمّا غير مستعدة أو غير قادرة على مقاربة هذه المسائل، من هنا تأتي حاجتها إلى تسطيح النقاش العام.
(هيثم الموسوي)

يبدو من خلال الإعلام وكأن كل يوم هناك أزمة جديدة: هو الطحين يوماً، وسائقو الفانات في اليوم التالي، ثم طلاب الجامعة اللبنانية فمرضى السرطان أو غسيل الكلى. يعرضها الإعلام كقضايا منفصلة لكل منها أسبابها الخاصة وتحتاج بالتالي إلى حلول منفصلة. ويبدأ التضليل عبر إغراق النقاش في تفاصيله الضيقة، أو تذويبه في بعد الصراعات الكبرى، فيبدو أن لا حل لأزمتنا قبل مواجهة الرأسمالية العالمية والتصدي لاستغلال بلاد الشمال لبلاد الجنوب. هذا لا يعني أن لا أسباب تفصيلية خاصة بكل قضية أو أن لا ارتباط أوسع لأزمتنا بقضايا أشمل. الحجج التي يسوقها هؤلاء تكون دائماً صائبة، لكن صوابها لا ينفي عنها أنها، في سياقها وتوقيتها، تخدم القوى المسيطرة في السلطة والمجتمع والسالبة لحقوق الناس. وتغيّب النقاشات الاقتصادية عن الشاشات لغايات الأجندات السياسية لوسائل الإعلام أو لغياب الإحاطة المعرفية للإعلامي بالاقتصاد، فيغرق البلد حدّ الملل في نقاشات من نوع مسؤولية الخارج مقابل مسؤولية زعماء الداخل، ويتم تقزيم إحداها لإظهار فظاعة الأخرى خدمة للسرديات المسيطرة، فيما لا خلاف بين الأمرين طالما أن مسؤولي الداخل هم عملاء للخارج. فالتضليل لا يعتمد بالضرورة على الكذب بل الحرفية في التضليل هي كيف تستخدم الحقيقة لمصلحتك وغايتك. بروباغندا المصارف مثلاً لا تحتاج أن تقول أنّ لا مسؤولية على المصارف بالأزمة، بل يكفي المصارف أن تروّج لمقولة أن «المصارف ليست وحدها مسؤولة» لتدفع عن نفسها هم تحميلها أي كلفة في توزيع الخسائر.
ثلاث سنوات من النقاش العقيم والحقيقة الفاقعة الوحيدة هي أن البلد مفلس ونحن نحتاج إلى الدولارات لشراء كل ما لا يتم تصنيعه محلياً، أي تقريباً كل شيء. لكن في ظل شح الدولارات، أي عندما تكون دولاراتنا المتبقية لا تكفي كل حاجاتنا، ولا خطة لدينا في المدى المنظور لمصدر جديد للدولار، تصبح الحقوق في وضع تنافسي، ولا مفر من تحديد الحاجات الأكثر إلحاحاً لصرف دولاراتنا الأخيرة. من هنا، كل دولار خرج من مصرف لبنان والمصارف منذ بدء الأزمة، أكانت دولارات لاستيراد بطاريات أم دولارات وليد جنبلاط الـ 500 مليون التي سحبها لصالحه من ودائع الناس، كلها دولارات كان بالإمكان أن تذهب لدعم التصنيع المحلي أو لاستمرار دعم الطحين أو أدوية السرطان لمدة أطول، لو أننا نجحنا في بداية الأزمة في خلق وعي شعبي بأننا أمام أزمة إفلاس وهناك ضرورة لتحديد الأولويات. لكن المطلب الشعبي الجامع حينها كان الدولار الطلابي! يومها قرر الجهابذة أن الأولوية وسط كل هذه الحاجات هي لعدد محدود من الطلاب الذين يتعلمون في الخارج. كتل نيابية تباهت بانتزاع هذا «الإنجاز» تحت ستار الحقوق! طبعاً هو حق لكن هل هو أولوية في ظل الإفلاس؟ فيما كان طلاب الداخل يتسربون أفواجاً من المدارس الخاصة والرسمية، كان هناك من قرر أن طلاب الطبقات الميسورة والمتوسطة هم في أعلى سلم أولويات الوطن. كان التضليل يومها يقوم على إيهام الناس بأن الدعم لن يتوقف فنحن لسنا في حالة إفلاس، ما جعل أهالي الطلاب في الخارج يبدون وكأنهم الوحيدون الذين لا يحصلون على دولاراتهم وأصبحت قضيتهم قضية رأي عام تنافست الأحزاب على استغلالها. الدافع الوحيد كان أن هذه الفئة لمست ضرر الانهيار قبل غيرها عندما تم تقنين السحوبات بالدولار. فعل وهم استمرار الدعم فعله، فلم يستشرف المرضى حينها أن دواءهم سينقطع، ولم يتيقن السائقون العموميون أن الدعم على البنزين لا بد أن يتوقف قريباً، فلم يشعروا بأنهم معنيون بالنقاش حول الدولار الطلابي. هكذا تقوم السلطة بتفكيك القضايا ومنع الضحايا من التكتل في وجهها وتشكيل قوة شعبية ضاغطة.
تخيّلوا لو تشكّل في بداية الأزمة رأي عام في البلد بأننا مفلسون وعلينا تقنين دولاراتنا وأن الجميع أدرك أن كلّ أزماتنا هي مجرد مظهر من مظاهر الإفلاس


التضليل كان يأخذ شكلاً مختلفاً بحسب الحاجة. سعر الصرف سببه الصرافون، وارتفاع الأسعار سببه جشع التجار، وانقطاع البنزين سببه الحصار والتهريب والاحتكار، وكأن لدينا أزمة أخلاق وليس أزمة إفلاس. هل كان هؤلاء التجار قمة في الأخلاق قبل الأزمة وفجأة تحولوا إلى أشرار؟ ثم جاء راوول نعمة وحلّت علينا السلّة الغذائية مطلباً شعبياً. هكذا استمر الاستيراد العشوائي وإنفاق دولارات المودعين المتبقية هذه المرة خدمة للمستوردين النافذين. وحفاظاً على معايير الميثاقية في توزيع المغانم، باتت السلة تشمل كل ما يحلو ويطيب من مواد غير أساسية. مر كل ذلك وكأن دولاراتنا لا متناهية وكان الكل يردد أنه لن يقبل برفع الدعم. طبعاً كل سرديات التضليل فيها الكثير من الحق الذي يراد به باطل، فالصرافون والتجار والمهربون والمحتكرون والقوى الخارجية قاموا فعلاً باستغلال الأزمة، لكن التركيز عليهم يهدف للتعمية عن سبب الأزمة الحقيقي، أي الإفلاس، وأن استغلال هؤلاء للوضع ليس سوى نتيجة للأزمة وليس سببها. لكن لا صوت يعلو فوق صوت التضليل، حتى أن البعض في ذلك الوقت كان يطالب باستمرار الدعم وفي الوقت ذاته يطالب بعدم المس بالودائع! لا، استمرار الدعم جاء بناء لخطة ولا وقفه. كل الإنفاق والنفاق كان يهدف فقط إلى إخضاع الناس وشراء الوقت.
تخيّلوا لو تشكّل في بداية الأزمة رأي عام في البلد بأننا مفلسون وعلينا تقنين دولاراتنا وأن الجميع أدرك أن كل أزماتنا هي مجرد مظهر من مظاهر الإفلاس، أي أن أزمة الطوابير هي نفسها أزمة المعلمين وأزمة الأجور هي نفسها أزمة اختفاء الدواء، تخيّلوا لو أن سائقي الفانات أدركوا أن أزمتهم هي نفسها أزمة الطلاب في الخارج وأزمة المودعين، هل كنا لنرى تظاهرات مفتتة ومشتتة كما يحصل الآن؟
أدركت الكثير من الحركات النضالية في العالم أهمية تقاطع القضايا. في لبنان، السلطة هي من أدركت ذلك فعمدت إلى القضاء على المؤسسة الوحيدة التي تتقاطع داخلها القضايا الاجتماعية وآخر حصون الدفاع عن المجتمع، أي الاتحاد العمّالي العام، وقامت بتفتيته وتحويله إلى مهزلة. الاتحاد العمّالي العام بنفسه يعترف على موقعه الإلكتروني الرسمي تحت عنوان «نبذة تاريخية عن الاتحاد» بأن «لعنة الطائفية والنفوذ الحزبي وآفة المحاصصة لم تفلت قبضتها عن الجسم النقابي الذي ترهّل وتشتّت منذ عام 1990 ولا يزال ساحة تعرض فيها القوى الطائفية والسياسية عضلاتها خلال فترات الانتخابات، فتتبارز على حساب المبرّر الأساسي لوجودها: المطالبة بحقوق العمّال والدفاع عنهم». تقرأ هذه الجملة وتقول: هل يقوم الاتحاد العمّالي العام بنقد ذاتي ومراجعة لأخطائه؟ لكن الغرابة تزول عندما تكتشف أن النص مسروق بالكامل عن مقال نشر في جريدة «الأخبار» تحت عنوان «تاريخ الحركة العمّالية في لبنان» في 1 أيار 2008، وقد استخدمه الموقع من دون حتى الإشارة إلى اسم كاتبة المقال، رنا حايك، ولا اسم الصحيفة. اتحاد عمّالي عام لا يبالي بحقوق النشر فما بالك بالحقوق الاجتماعية. ستجد في هذه الصفحة أيضاً إشارة إلى «ضعف التمثيل الفعلي في الاتحاد بسبب كثرة الانتسابات الوهمية» أي أن الاتحاد العمّالي العام يعترف بأن شرعيته التمثيلية مشكوك بها!
في غياب قوى نقابية واعية تحمل مطالب جذرية في الدفاع عن مصالح العمّال والفقراء وحقوقهم، لا نجد سوى قوى مشتتة، من أهالي ضحايا المرفأ إلى المودعين فسائقي النقل العام والطلاب والأساتذة وغيرهم، ومن يقوم باستغلال قضاياهم. وهناك حملات حقوقية متفرقة ينظمها ويقودها أفراد يسمون أنفسهم «ناشطين» لا يلامسون الأزمة بعمقها ولا يوظفون «نشاطهم» في سبيل تحصيل حقوق لفئات شعبية أوسع، ولا أثر في ذاكرتهم الجماعية لمعارك الاتحاد العمّالي العام برئاسة الياس بو رزق مع السلطة في التسعينيات، ولا لمعركة الوزير شربل نحاس في وجه السلطة والطبقة الرأسمالية المتحكمة لفرض التغطية الصحية الشاملة وتصحيح الأجور، ولا لمعركة هيئة التنسيق النقابية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب، ثم يحدثوننا عن العمل التراكمي. هم يقصدون حصراً المراكمة للمستقبل بدءاً من هذه اللحظة وكأن التاريخ يبدأ معهم.
أمام هذا الواقع في بلد بات أكثر من 70٪ من شعبه فقراء، تصبح مشاهد الهجرة الجماعية وقوارب الموت نتيجة محتومة. لا بد من عكس هذا المشهد وتجذير القناعة لدى الجيل الجديد بأن لا غنى عن العمل النضالي العمّالي والنقابي لاسترجاع الحقوق الاجتماعية. ليس في التاريخ من شواهد عن مكاسب تحققت بفعل سلاسل بشرية أو حلقات يوغا لكنه مليء بالأمثلة عن حقوق انتزعها العمّال والمهنيون عبر النضالات النقابية والعمّالية. على جميع الضحايا أن يدركوا أنهم ضحايا لأزمة واحدة وأن لا حل لقضيتهم من دون الانتظام خلف مشروع واحد يخاطب الطبقات الاجتماعية الفقيرة وينبثق من رحمها ويدافع عن مصالحها، فيصبح كل تحرك مطلبي تحركاً باسم جميع الضحايا وبالنيابة عن جميع الضحايا.

* صحافية