طالعت باهتمام ما كتبه أستاذ الفلسفة، وزير حزب الله السابق، الدكتور طراد كنج حمادة، في صحيفة «الأخبار»، لمناسبة الذكرى السنوية الأربعين على الاجتياح الإسرائيلي للبنان، تحت عنوان «مؤتمر طهران 1982: تأسيس المقاومة الإسلامية». واستوقفتني كثيراً انثيالات ذاكرته حول هذا المؤتمر وما رافقه من أحداث وتحركات، جرت على هامش هذا المؤتمر، ما أعاد تنشيط ذاكرتي التي رافقت جانباً من التحضيرات له، واسترجاع بعض ما جرى فيه، بناءً على رواية من ساهم وأسهم في الإعداد له وكان جزءاً من المقرّرين في تفاصيله وتوجّهاته وحتى توصياته، ناهيك عن الرأي الحاسم في الشخصيات التي شاركت فيه، على الأقلّ من اللبنانيين والفلسطينيين.هذه الاستعادة، ليس هدفها الرد على ما جاء في المادة التي نشرها الدكتور طراد، ولا هي محاولة لانتقاص أي دور قام به حينها أو لاحقاً، مع التأكيد على القدر الكبير من الاحترام الذي أكنّه له، وأرجو استمراره. الهدف من هذه الاستعادة هو محاولة تكريس قراءة ذات بعد واحد، وحتى لا يتعمق الإحساس لدى من يشعر بنفسه بالانتصار أو ما يشبه به وله، بأنه قادر على تطبيق مفهوم طالما سعت الموضوعية العلمية التي جاء منها الدكتور طراد أن تحاربه وتمنع تكريسه. ذلك المفهوم الذي يسمح «للمنتصر بأن يكتب التاريخ»، أو أن يغيّب حقائق وأحداثاً تخدم هدفاً ما، سياسياً أو فكرياً أو اجتماعياً، متناسياً أن هناك من الشهود والشهداء الذين ما زالوا أحياء، ممّن واكب جميع هذه الأحداث، أو جزءاً منها، أو اطّلع على بعض تفاصيلها، أو كلّها، خلال مدة زمنية لا يصحّ معها الاتهام ببعدها عن المصدر، بل قد ينطبق عليها تجوّزاً صفة «الصحابة»، الذين لا مجال للتجريح في صدقهم وعدالتهم في نقل أو عرض ما حصل. أو على الأقل رواية جانب يرتبط بجوهر ما حدث. ومن المفترض أن تشكّل روايات الآخرين استكمالاً لتلك الرواية، لا أن تتحوّل هذه الروايات إلى نقيض أو مدخل لاستبعاد آخرين إنكاراً للحقيقة وعناداً معها، على أمل أن تؤسّس لرواية جديدة تنسجم مع رؤية فكرية أو عقائدية أو سياسية. والسرديّة الشيعية للتاريخ الإسلامي ما بعد الرسول الأكرم، والتي يتبنّاها الدكتور طراد، تزخر بحوادث وأحداث مشابهة لا مجال لذكرها هنا.
ما لاحظته في المادة التي كتبها الدكتور طراد أنها اعتمدت في بنائها على شهود غيّبهم الموت، باستثناء استشهاده بالكاتب والمفكر منير شفيق، الذي يعدّ الوحيد الذي يمكن أن يقدّم الدعم سلباً أو إيجاباً لهذه القراءة. وعلى الرغم من ذلك، فقد تعمّد، وهنا أقول تعمّد، وقد يكون هذا التعمّد عن سوء نية لا عن حسنها، في تغييب أسماء تعدّ محورية في هذا الحدث، وإدخال أسماء لشخصيات ورفعها إلى مستوى الفاعل والمؤثر، في وقت كانت فيه هذه الأسماء ما تزال تتلمّس طريقها لفتح قنوات تواصل مع الثورة الإيرانية ومراكز القرار فيها.
هنا، لا بد من أن أؤكّد بعض النقاط، وهي أن المؤتمر الذي أشار إليه الدكتور طراد كان بعنوان «مؤتمر المستضعفين» الأوّل، وقد شاركَت فيه من لبنان معظمُ قيادات الحركة الوطنية والفصائل والقوى الفلسطينية بالتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية وقائدها التاريخي الرئيس ياسر عرفات، بالإضافة إلى مشاركة قوى إسلامية من الوسط الشيعي كانت على علاقة بالقيادات الإيرانية ما قبل الثورة، كلجان العمل الإسلامي، الجناح الذي استمر في العمل بعد انحلال التنظيم الشعبي اللبناني - التشكيل الأساس الذي جاؤوا منه. وقد بنى شباب اللجان علاقتهم بالثورة الإيرانية من خلال العلاقة التي جمعتهم بجلال الدين الفارسي (أبرز المرشحين لأوّل انتخابات رئاسية في مواجهة أبو الحسن بني صدر، واستبعد من السباق لأسباب تعود إلى أصوله الأفغانية) ومحمد صالح الحسيني. وقد سعى بعض الفاعلين فيها إلى التواصل لاحقاً مع السيد مهدي هاشمي، الذي كان يرأس مكتب حركات التحرّر في التشكيلات الأولى لحرس الثورة الإسلامية، إلا أنه، وبناءً على نصيحة أحد الحريصين عليه وعلى الساحة اللبنانية، قرّر عدم التعاطي مع أي من القوى اللبنانية. ولعل هذه النصيحة صبّت لاحقاً في مصلحة شباب هذا التشكّل، ولم تتحوّل إلى عائق أمام تولّيهم مواقع متقدّمة في قيادة حزب الله، ما زال بعضهم يشغلها حتى الآن، ونجوا من تداعيات محاكمة هاشمي وإعدامه، وسحب ورقة حركات التحرّر من يده، ونقلها إلى لجنة مشتركة من حرس الثورة ووزارة الخارجية، والتي أسّست لما عرف بـ«قوة القدس» التي تولّت التواصل مع الساحتين العراقية والأفغانية، وإدارة ملف قوات الحرس التي انتقلت إلى سوريا ولاحقاً إلى لبنان.
من المستهجن أن يعمد الدكتور طراد، عامداً متعمّداً، إلى تغييب دور هاني فحص واسمه عن مرحلة مفصليّة


أمّا في ما يتعلق بما أورده الدكتور طراد حول الحماسة الثورية الإيرانية نتيجة الاجتياح الإسرائيلي، وقرار إرسال مقاتلين إيرانيين إلى لبنان للحرب ضد قوات الاحتلال، يمكنني القول هنا إني كنت مواكباً لجزء من نقاشاتها والجدل الذي دار حولها، لجهة أنني كنت في طهران التي سافرت إليها في مطلع شهر آب من تلك السنة، مع الوالدة وإخوتي، للالتحاق بالوالد الذي سبق أن وصلها في اليوم الأوّل للاجتياح، كأحد مسؤولي ومنظّمي مؤتمر المستضعفين الذي تحدّث عنه الدكتور طراد، وخاصة أني وجدت في إرسال المقاتلين الإيرانيين فرصة سانحة لكي أعود إلى لبنان، وأن جانباً من النقاشات حول هذا الموضوع كان يجري في المنزل الذي قدّم للوالد في طهران. إلا أنه سرعان ما هدأت فورة العواطف والحماسة الثورية، عندما واجه القيّمون عليها موقفاً صلباً من الإمام الخميني الذي رفض هذا الأمر، معطياً الأولوية للحرب الدائرة على الجبهة الإيرانية مع العراق، مؤكداً مبدأ «إيران أوّلاً»، فيما واجه هؤلاء موقفاً حاسماً من الرئيس السوري حافظ الأسد، بعدم السماح لهم بالانتقال إلى الأراضي اللبنانية، ورفضه السماح برفع عديدهم أو وصول المزيد من المقاتلين، وعمل على إسكانهم على أطراف دمشق وحصرهم في معسكرات خاضعة للمراقبة ومنعهم من الانتقال إلى لبنان. وقد دفع بعضهم حياته عندما تملّص من الرقابة السورية وحاول الوصول إلى العاصمة بيروت المحاصرة حينها، كما حصل مع المختطَفين الأربعة على حاجز القوات اللبنانية في البربارة، وكان من بينهم قائد عمليات تحرير مدينة خرمشهر القيادي في حرس الثورة أحمد متوسليان.
البحث في الدور والدعم الإيراني لأيّ أنواع وأشكال المقاومة في لبنان، لم يحدث أن جرى في هذا المؤتمر أو على هامشه، إنما جرى لاحقاً، وبعد سنة تقريباً، في دوائر حرس الثورة بالتنسيق مع مكتب الإمام، وآلية الاستفادة من عناصر الحرس الموجودين في سوريا، وإمكانية تقديم تدريب عسكري وإعداد للتشكيلات الأولى للمقاومة التي لم تكن بعد قد تشكّلت تحت عنوان «المقاومة الإسلامية في لبنان - أمّة حزب الله». ويمكنني القول إنني كنت على معرفة بهذه الجهود بحكم مرافقتي لوالدي في الكثير من الاجتماعات واللقاءات التي كانت تجرى في طهران وقم. وهنا لا بد من تثبيت حقيقة تعرفها القيادة العليا لحزب الله ولا يكمن أن تنكرها، وإن أنكرتها فهي تنكر حقيقة اعترفت بها في المحافل الخاصة، بأن الدعم الأساس في العتاد والتدريب والمال، الذي حصلت عليه المجموعات الأولى للمقاومة كانت تأتي من آية الله الشيخ حسين علي منتظري، الذي كان في موقع نائب قائد الثورة حينها، وعبر قناة وحيدة هي السيد هاني فحص. ولعل بعض الإخوة في حزب الله من الرعيل الأوّل لا يزال يحتفظ بالوثائق المتعلقة بذلك، إذا لم يكن قد أتلفها لمحو أي علاقة له بمنتظري وفحص، من باب تقديم فروض الطاعة والولاء لمن جاء لاحقاً. ومن نافلة القول إن ما نقله الدكتور طراد عن مشاركة القائد الجهادي في حزب الله الحاج عماد مغنية في هذا المؤتمر قد يكون صحيحاً كواحد من المدعوّين، إلا أن ما أورده عن دوره في تلك المرحلة لا ينسجم مع حقيقة أن التفكير الإيراني في إنشاء تشكيل حزبي مرتبط بهم بدأ عام 1983. وإنني التقيت مع الحاج عماد في تلك السنة خلال زيارته لطهران بمرافقة السيد محمد حسين فضل الله للمشاركة في المؤتمر الثاني للمستضعفين الذي أقيم أيضاً في فندق استقلال.
أمّا عن فلسطين وإيران، فالحديث فيه الكثير من الشجون، وخاصة ما يتعلق بدور السيد هاني فحص في هذه العلاقة، التي لا ينكرها أحد، وهي موثقة بكل تفاصيلها لدى الطرفين، الإيراني ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح. وكم تحوّلت هذه العلاقة للسيد هاني إلى أداة لمحاربته لاحقاً من قبل قيادات في حزب الله. وأن التهمة التي وجّهها الحزب له أواخر ثمانينيات القرن الماضي بأنه «فلسطينيّ الهوى» وعلى علاقة بحركة فتح وأبو عمار، لدرجة أن مجلة «العهد» الأسبوعية الناطقة باسم حزب الله خصصت صفحة كاملة في أحد أعدادها للنيل من هذه العلاقة واتهامه بحب فلسطين والمقاومة الفلسطينية. وأن أحد قياداته، من الذين هم الآن في جوار رب العالمين، كان قاب قوسين من إهدار دمه بسبب تهمة الحب هذه.
وكما كان السيد هاني ممثّلاً للثورة الفلسطينية في إيران، كان، في الوقت نفسه، ممثلاً لإيران لدى الثورة الفلسطينية. والقضية الفلسطينية وتحرير فلسطين جعلا من هاني فحص بوابة العلاقة بين إيران والقوى الإسلامية الفلسطينية الناهضة، ولعل قيادات حركة الجهاد الإسلامي تعترف بذلك، ما لم تكن محرجة في الاعتراف. وهنا لا أستشهد بمن استشهد منهم أو توفّاه الله، بل بالأحياء منهم الذين لا يزالون في مواقع قيادة، أو الذين انتقلوا إلى مواقع أخرى، إسلامية وغير إسلامية، من الرعيل المؤسس للحركة التي كانت ترتبط من خارج كل السياقات الإيرانية بالشيخ منتظري مباشرة، الذي كانت تطلق عليه صفة «الأب».
من المستهجن أن يعمد الدكتور طراد، عامداً متعمّداً، إلى تغييب دور هاني فحص واسمه عن مرحلة مفصلية من العلاقة مع الثورة الإسلامية الإيرانية، وهو يدرك أن هذا الرجل الذي رحل عن هذه الدنيا مهضوم الحق والاعتراف والعرفان، كان البوابة الوحيدة للبنانيين على إيران. ولعل الصورة التي استخدمتها جريدة «الأخبار» مع مقالة الدكتور طراد خير دليل على الدور الذي قام به السيد هاني في هذه العلاقة. وإلا فكيف يفسّر الدكتور طراد وجود السيد هاني على شرفة السفارة الإسرائيلية في طهران في لحظة إعلانها سفارة لفلسطين، إلى جانب السيد أحمد الخميني والقائد أبو عمار؟!
في الختام، أذكّر الصوفيّ والعارفَ الدكتور طراد حمادة، الذي أرجو له أن يكون من السالكين، بواحد من أسس التصوّف والعرفان التي تنطلق من قول اللَّه تعالى «يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (التوبة: 119). فالصدق منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين. وبه تميّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه.

* كاتب وصحافي