ينقسم خطاب اللبنانيّين مع كلّ استحقاق وطني أو انتخابي بين مُجهّلٍ ومُخوّن. يتمترس الأوَّل خلف ما يعتقد أنَّه صواب يبديه له عقله، ويتدرّع الثاني بوجدانه وعاطفته التي تشكّلت من خلال وعي تراكمي يرتكز على منطق الواقع. وبالتالي، يصبح لكل من الخطابَين مسوّغه وأدلّته التي يتّكئ عليها. بينما يتموضع خطاب ثالث بين الاثنين، فيبني منطلقاته على العقل من دون أن يهمل وجدانه، ويمكننا أن نطلق على هذا الخطاب أيضاً خطاب عقلنة الوجدان، أي تصفية الوجدان مما يتعارض مع العقل. ولكن السؤال يبقى: أيّ هذه الخطابات نريد إذا توخَّينا الموضوعيَّة وابتعدنا عن أيّ اصطفاف وانحياز؟ هل يمكن للإنسان الانصياع إلى العقل المجرَّد بعيداً عن الوجدان؟ أم أنَّه محتاجٌ بالضرورة إلى ما هو وجداني وعاطفي ليضفي على عقله شيئاً من الطراوة والليونة؟ ومن جهة أخرى، يتبدّى لنا سؤال آخر، هل تستقيم حياة الإنسان إذا اكتفى بوجدانه وتخلّى عن العقل المحرّض الذي بدونه لن يكون ثمَّة تطوّر وتغيير؟
يعتقد البراغماتيّون أنَّ الوعي الإنساني، إذا نظرنا إليه بحدّ ذاته، فسنجد أنَّه مخلوق للرغبات وليس نتاجاً للتأمل والتفكير، بدليل أنَّ الإنسان لا يمتنع عن الاستجابة لآماله ومخاوفه ولا يتحرَّك وفق ما يحبّ ويكره إلا حين يخضع لنظام صناعي أي غير مستمدّ من طبيعته الإنسانيَّة. فالمثقّفون الحقيقيّون مثلاً، بحسب البراغماتية، أخضعوا أنفسهم لنظام فكري وثقافي ومنطقي صارم، فهم لا يعترفون بالأفكار الوجدانية، إنَّما استطاعوا أن يسيطروا على أفكارهم الخيالية من خلال ربطها بالواقع. فلا يخلطون بين ما هو وجداني والخبرة الموضوعية. إذا توقّفنا مليّاً عند هذا الرأي فسنجد أنَّ الفصل بين الوجدان والخبرة الموضوعية المتأتّية من إعمال العقل يشوبه شيء من عدم الدقة لاعتبار أنَّ الخبرة الموضوعية من شأنها أن تتحوَّل إلى وجدان أيضاً، يمكن أن نطلق عليه الوجدان الموضوعي، الوجدان المؤسّس على الخبرة أو على الوعي التاريخي الذي نتجت منه هذه الخبرة التي ستتحوَّل بدورها إلى ثابتة وجدانية حتى خروج خبرة أخرى من رحمها أو خبرة تدحضها.
إنَّ الإنسان عبارة عن كيان معقّد متعدّد الخصائص والإمكانات المتكاثرة بالخبرة، يقوده الإدراك والإرادة، حيث بهما يمكنه توظيف مدركاته وجميع إمكاناته وخصائصه من عقل وعاطفة وغير ذلك في سبيل تحقيق مشروعه وهويته.
إذاً، فالمشكلة الأساسية التي يعانيها الإنسان عموماً، والفرد اللبناني خصوصاً، ليست في انتهاج العقل أو الوجدان، إنَّما في دغمائية العقل والوجدان التي تحتكر الحقيقة وتقصي أيّ إمكانية للحوار والمناظرة البنّاءة. وهذا ما نعاينه اليوم، إذ يقوم خطاب بعض المثقفين أو الذين ينتمون إلى فكرة معينة بنعت من يخالفهم في وجهة نظرهم بالجهَلة والقطعان والأغنام والرعاع وعديمي التفكير، محتكرين بذلك صوابية الرأي، ومن ثم يعيبون على من يردّ عليهم بالمثل بمخاطبتهم بالخونة والعملاء والضلاليّين من دون النظر في هواجسهم وتقييمها. في الحقيقة، إنَّ كلا الخطابين رغم تموضعهما على النقيض من بعضهما البعض، والكلام هنا على المستوى الشعبي بشكل أساسي، وبعض المستوى السياسي، ينتميان إلى مدرسة واحدة هي الدغمائية وخطاب واحد هو الإقصاء. يقول فتغنشتاين: «إن تحدَّثنا بلغة مختلفة فسوف ندرك عالماً مختلفاً نوعاً ما. حدود لغتي تعني حدود عالمي، والمعنى لا يمكن أن يُفصَل عن أفعال وسلوكيات أهل اللغة».
إنَّ معظم اللبنانيين يتفقون على توصيف المشهد اللبناني المكشوف بالفساد والمحاصصة والزبائنية والطائفية ويطمحون إلى التغيير، لكنهم يختلفون على وسائل التغيير وآلياته. بحيث يريد البعض التغيير بغياب أيّ خطة أو تصوّر لما ستؤول إليه الأمور معتبرين أنَّ التغيير هو الأولوية، ومن ثمَّ نذهب الى ما يلائم الواقع الجديد. بينما يرى البعض الآخر الذي لم ينسَ بعد تهميشه وإقصاءه لسنوات طويلة عن القرار السياسي ومعاناته إبان الاحتلال الإسرائيلي في ظلّ غياب أيّ دور للدولة في حمايته، ولعلمه بالغايات المبيّتة له وما ينتظره، أنَّه لن يتخلّى عن كلّ ما راكمته المقاومة من إنجازات وانتصارات ليذهب إلى المجهول ولكي يحقّق للعدوّ في السياسة ما لم يستطعه في الحرب.
في قراءة هادئة للواقع اللبناني، نجد أنَّ إمكانية التغيير هي مهمّة شبه مستحيلة في ظل النظام الحالي الذي يُعدّ محرّضاً على الفساد ومغناطيساً لجذب الفاسدين أو مختبراً لتحويل الأسوياء إلى فاسدين. وبالتالي، يجب هدم هذا النظام كمقدمة للانتقال إلى الدولة، ولكن هل هناك إمكانية لذلك الهدم في ظل الانتماءات المتعدّدة داخل الوطن وخارجه؟ تؤكد غالبيّة القراءات على صعوبة كبيرة في ذلك، ما يعني اعتماد المساكنة مع هذا النظام ولو مرحلياً. إنَّ تجربة 17 تشرين، رغم صدقية بعض المنضوين تحتها وإخلاصهم/ أكّدت بشكل واضح أنَّ الكثير من رموزها لم يكونوا بمنأى عن الولاء الخارجي والأجندات السياسية والشخصية. لا بل إنّ من أهم أسباب فشل تجربة 17 تشرين هو غياب الرمز الجامع والشخصيات القيادية التي يمكنها أن تستحوذ على المقبولية من غالبية الشعب اللبناني، على الرغم من الخرق الذي حقَّقَته في الانتخابات الأخيرة، وأيضاً غياب الخطة والبرنامج وتشتّت خطابها الذي تحوّل من خطاب معيشي إلى خطاب تحريضي سياسي بامتياز يستهدف رموزاً وجهاتٍ بعينها. وما كشفه ديفيد شينكر أخيراً يؤكد حجم التورّط الخارجي الذي أراد استغلال هذا الحراك لصناعة رأي عام جديد ينسجم مع أهوائه هو وليس مع ما يحتاج إليه لبنان. من الواضح أيضاً أنَّ أيادي بعض أقطاب السلطة لم تكن بريئة من اللعب على تشتيت ذلك الحراك، ولكن كل هذا لا يعفيه من المسؤولية ومن التخبّط الذي كان يكتنفه، وهذا يدل على أنَّ إمكانية التغيير المنشود ليست متاحة حتى الآن، وتحتاج إلى مقدّمات تأسيسية ومراكمة الأفكار التي يمكن أن تشكّل جواز عبور آمن لها. وبالتالي، إنَّ عدم اقتناع بعض اللبنانيين بتغيير خياراتهم السياسية وتمسّكهم بها يُعدّ إلى الآن مبرّراً طالما أنَّ النظام السياسي لم يتغيَّر، وطالما أنَّ هوية لبنان ما زالت مائعة وأنَّ البدائل المقترحة لإدارة المرحلة، إن كان على المستوى السياسي أو الانتخابي، ليست على قدرها ولا تستحوذ على مؤهلات تغييرية ملموسة يمكن الرهان عليها للخروج إلى برّ الأمان رغم الظروف الصعبة والقاسية التي نعيشها.
إنَّ ما تقدَّم لا يعني انعدام أيّ فرصة للتغيير، ولكن أيّ فرصة ستكون مشروطة بمقدّمات ضرورية يجب العمل على توفرها قبل الشروع بأيّ خطوة في طريق التغيير، ومحكومة بإعادة القراءة الهادئة للمنهجيات المعتمدة والذهاب إلى دوزنة الخطاب من خلال المواءمة بين العقل والوجدان أو انتهاج الوجدان الموضوعي الذي يتنبّه لحساسية الواقع اللبناني ولموقع لبنان من قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين، ومن الكيان الغاصب على وجه الخصوص، وما يشكله من تهديد له. ويؤخذ بهواجس جميع أفرقائه ويرفض الغلوّ والتطييف والمصالح الفئوية غير المبرّرة. كل ذلك من شأنه أن يفرش الأرضية لبناء وعي جمعي ينتمي إلى هوية واحدة وراسخة في وجدان اللبنانيين والتي تشكل حتى الآن للأسف الثقب الأسود القادر على امتصاص أي محاولة جدية لبناء الدولة في لبنان.

* شاعر لبناني، أمين سرّ اتحادّ الكتّاب اللبنانيّين