مرّت الانتخابات النيابيّة ولم يهدأ غبارُها بعد. فالشرخ العمودي الذي سبقها لم تردمه نتائجها. على أنّ من أهمّ تطوّرات المرحلة كان إعادة الاعتبار إلى ملفّ التنقيب عن الغاز والنفط في المياه اللبنانيّة وملفّ ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة المتعلّق مباشرةً به، كبندين مهمّين في الخطاب الانتخابي. لكنّ تاريخ التعاطي اللبناني مع الملفّين المذكورَين لا يطمئن البتّة. فمفاوضات الترسيم التي بدأت في تشرين الأوّل 2020، والتي ماتت سريريّاً من دون أن نُعلن وفاتها ونبني عليه، وتفريط الممسكين بالملفّ بالحقّ اللبناني بالخطّ 29، وتمديد مهلة التنقيب لشركة «توتال» الفرنسيّة، في الوقت الذي يمضي فيه العدوّ بخططه مدعوماً بغضِّ طرفٍ لبناني، كلّ ذلك يشير إلى أنّ زوبعة الكلام المستجدّ عن هذا الموضوع الوطني الاستراتيجي قد تذوي بفعل تزاحم الملفّات في الداخل اللبناني وغياب أيّ توافق وطني ضروري لحفظ الحقوق والثروات. وها هي وزيرة الطاقة في كيان العدوّ تعلن بتاريخ 30 أيّار 2022 عن التوقيع في المستقبل القريب على مذكّرة تفاهم لتصدير الغاز المستخرج من البحر الفلسطيني إلى أوروبا عبر مصر. وفي التصريح نفسه أعلنت وزيرة الطاقة في كيان العدوّ عن التحضير لدورة تراخيص جديدة للتنقيب عن الغاز في المياه العربيّة المحتلّة في مسعى لتعزيز تصدير الغاز إلى أوروبا. لا يُستبعد بأن تضمّ دورة التراخيص تلك «البلوك 72» الواقع بمحاذاة الخطّ البائد 23، كلّ ذلك ونحن نتلهّى بخلافاتنا وصغائر أمورنا.
رسم توضيحي عام للمنطقة الإقتصاديّة اللبنانيّة الخالصة والبحر الإقليمي اللبناني. تـظهر على الصورة البلوكات البحريّة الجنوبيّة 8، 9 و 10، التي لا تغطّي المنطقة بين الخطّ اللبناني 29 والخطّ البائد المشكو

الحدود و الثروات: التباس في الطرح والمفاهيم
بدايةً، لا بدّ من الوقوف على عبارةٍ هي في أصلها محمودة ولكنّها غَدَت ممجوجةً بسبب الإبهام المتعمّد في أغلب الأحيان عند استعمالها. يكثر تكرار عبارة «حقّ لبنان بكامل ثرواته البحريّة» في معرض التأكيد على الحقّ اللبناني وعدم التنازل عنه. وهي عبارةٌ ملتبسةٌ تحتاج لتوضيح. فلا يمكن الحديث عن حقوقنا في الثروات البحريّة من دون الحديث عن الحدود البحريّة الجنوبيّة، أي حدود بحرنا الإقليميّ ومنطقتنا الاقتصاديّة الخالصة الجنوبيّتيَن. من جهةٍ أخرى، وبما أنّ ترسيم تلك الحدود عمليّةٌ لم تحدث بعد، لا يستوي الكلام عن الحدود البحريّة من دون تبنّي أساس قانونيّ نتوافق عليه ومنه نفاوض العدوّ لترسيم تلك الحدود وحفظ تلك الحقوق. العدوّ واضحٌ في ما يريد، هو يفاوض على أساس خطٍّ صريحٍ وحيدٍ هو الخطّ رقم 1، الخطّ الذي لا أساس قانوني أو تقني له سوى استثمار العدوّ في الخطأ اللبناني في الترسيم مع قبرص عام 2007. الخطّ رقم 1، الذي ينطلق منه العدوّ، هو أكثر عدوانيّة على حقوقنا من خطّ هوف، الذي بدوره يحتسب تأثيراً كاملاً مجحفاً لصخرة تخليت المحاذية للشاطئ الفلسطيني.
نحن، كلبنانيين، أو كسياسيين لبنانيين ممسكين بالملفّ، ما هو موقفنا الآن؟ هل نتبنّى موقفاً واضحاً وصريحاً بخصوص حدودنا البحريّة الجنوبيّة؟ الجواب، ببساطة، لا! فإذا كانت اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار الأساس القانوني الذي ننطلق منه، كان لزاماً علينا الوقوف جميعاً خلف الخطّ اللبناني 29 لمتانته القانونيّة والتقنيّة، وبالأخصّ بعد حكم محكمة العدل الدوليّة في الخلاف البحري بين كينيا والصومال والذي أهمل جُزُراً أكبر بكثير من صخرة تخليت لتنافي تأثير تلك الجزر مع مبدأ الإنصاف.
العدوّ يده طليقة وتلقّى دفعاً جديداً ودعماً أميركياً متزايداً سبّبتهما الأزمة الأوكرانيّة


أين نقف اليوم بعد الموت السريري لطرح هوكشتين؟ هل ما زلنا متمسّكين باتّفاق الإطار الذي أعلنه الرئيس نبيه برّي كمنطلقٍ للمفاوضات، اتّفاق الإطار الفارغ من أيّ أساس قانوني تقوم عليه وتنطلق منه المفاوضات؟ فاتّفاق الإطار ذاك زئبقيٌّ بطبيعته ولم يتبنّ اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار كأساس. هل نتبنّى بالمقابل بيان القصر الجمهوري الصادر عشيّة بدء مفاوضات الناقورة كمنطلقٍ للمفاوضات؟ اللافت هنا أنّه، حتّى فريق رئيس الجمهوريّة، عرّاب الخطّ اللبناني 29، نفض يده من ذلك الخطّ بحجّة أنّه خطٌّ تفاوضيٌّ وعاد وتبنّى الخطّ البائد المشكوك المنشأ 23، الذي تشير دلائل عدّة على إسرائيليّة مصدره. والمُحزن المُريب أنّ المتنازلين هنا عن الخطّ 29 بحجّة أنّه خطٌّ تفاوضيٌّ لا حقوقي يبرّرون تنازلاتهم بتنازلاتٍ مُفترضةٍ قدّمها رئيس الوفد اللبناني المفاوض لهوكشتين. فلو بنينا جدلاً أنّه فعل، ذلك يجب أن يكون مدعاةً لتنحيته عن الملفّ واستبداله بآخر أكثر بأساً، وليس لتبرير تنازلات السياسيين بتنازلاته. فبدل أن نجتمع على الحفاظ على الحقوق الوطنيّة، نفتّش عن التبريرات الواهية لتنازلاتنا عنها. واللافت هنا أنّه، حتّى في أدنى معايير ألف باء المفاوضات، كيف نتنازل عن أوراقنا قبل أن تبدأ المفاوضات الحقيقيّة في الوقت الذي لم يتنازل العدوّ، ولو بتصريحٍ واحدٍ، عن خَطّه المُدّعى - الخطّ رقم 1. ففي الوقت الذي يدنا فيه مغلولة عن التنقيب حتّى في مياهنا البعيدة عن «منطقة النزاع»، يدُ العدوّ طليقةٌ في حقل كاريش الواقع بجزءٍ كبيرٍ منه في المنطقة التي ينازعنا عليها العدوّ. وهو ماضٍ قُدُماً في خططِه من دون أيّ رد فعلٍ لبنانيّ في الأفق، اللهمّ إلّا غضّ الطرف ووضع الرأس في الرمل لحين يصبح الإنتاج من كاريش أمراً واقعاً.

حقل كاريش على وَشَك البِدء بالإنتاج
حقل كاريش في الطور الأخير لبدء الإنتاج بعد مرحلةٍ استمرّت تِسع سنوات من التنقيب والتخطيط والتطوير. فقد تمّ حفرُ بئرِ الاستكشاف الأوّل KM-01 في حقل كاريش الرئيسي في المنطقة الاقتصاديّة الخالصة لفلسطين المحتلّة في آذار 2013 وتمّ حينذاك اكتشاف كمّياتٍ تجاريّةٍ كبيرةٍ من الغاز والنفط السائل الخفيف (condensate). في كانون الثاني 2018، أعلنت شركة «إينيرجيان» عن تعاقُدِها مع شركة «Stena Drilling» المتخصّصة بالحفر في المياه العميقة والشديدة العمق لحفر وتجهيز آبار الإنتاج في حقل كاريش. نتيجة لذلك أصبح عدد آبار الإنتاج في حقل كريش الرئيسي ثلاثة. في آذار/نيسان 2019 تمّ حفر بئر الاستكشاف الأوّل شمال كريش «KN-01» الواقع حوالي ثلاثة كيلومترات شمال الخطّ الّلبناني 29، وتمّ تقييم البئر في تشرين الأوّل من السنة ذاتها وتكشّف ذلك عن وجود احتياطات كبيرة من الغاز شمال كاريش. في آذار 2022، تمّ ربط حقل كاريش بالبرّ الفلسطيني تحضيراً للإنتاج ويُنتظر وصول سفينة الإنتاج «FPSO» أوائل حزيران لُيصار بعدها لبدء الإنتاج بعد عمليّة ربط للآبار بالسفينة، والعمليّة ستستغرق حوالي الثلاثة أو أربعة أشهر ممّا يعني بدء الإنتاج من حقل كاريش في الرُبع الثالث من العام الجاري.

صورة مفصّلة للخطوط حول حقل قانا المحتمل. يبدو أيضاً في الصورة الموقع الذي تدور فيه عمليّات الحفر الجارية حاليّاً في حقل كريش

بينما تتمّ التحضيرات على قَدَمٍ و ساق، لبدء الإنتاج، عاودت شركة «إينيرجيان» المطوّرة لحقل كاريش الحفر في الحقل ذاته بحثاً عن المزيد من الغاز والنفط. فسفينة الحفر في المياه العميقة «Stena IceMax» تقوم حاليّاً بحفر البئر «KM-04» بمحاذاة الخطّ اللبناني 29 لتنتقل بعد حفر البئر وتقييمه لشمال كاريش حيث سيُصار لتحويل بئر التنقيب «KN-01» لبئر إنتاج (sidetracking). كلّ ذلك ولبنان أعلن في رسالَتَيه للأمم المتّحدة في 22 أيلول 2021 و 28 كانون الثاني 2022 أنّ كاريش يقع في منطقةٍ ينازعنا عليها العدوّ. وكلّ ذلك والتنقيب في مياهنا البحريّة عموماً وفي البلوك رقم 9 على وجه الخصوص مُعطّل.

البِدء بالتنقيب في البلوك رقم 9: تخبّط لبناني
عَقَدَ لبنان اتّفاقيّة التنقيب والإنتاج مع الكونسورتيوم «توتال-إيني-نوفاتيك» في 29 كانون الثاني 2018 ونصّت الاتّفاقيّة على وجوب حفر بئرين على الأقلّ خلال ثلاث سنوات من تاريخ التوقيع: واحد في البلوك رقم 4 وآخر في البلوك رقم 9. عمليّات الحفر لبئر التنقيب الأوّل في البلوك رقم 4 تمّت في 26 نيسان 2020 ولم تسفر عن العثور على الغاز في الطبقة الجيولوجيّة المستهدفة ما عدا ما سمّته «توتال»: «آثار للغاز تؤكّد وجود نظام هيدروكربوني».
بناءً على اتّفاقيّة التنقيب والإنتاج، كان من المُفترض انتهاء الحفر في البئر الأوّل في البلوك رقم 9 قبل أواخر عام 2020. على أنّ جائحة «كورونا»، معطوفة على انفجار المرفأ، أعطيا «توتال» هامشاً إضافيّاً للتأخير. في ما خصّ مُهَل التنقيب، المُهلة الأولى لشركة «توتال» انتهت في 27 أيّار 2021 فكان التمديد الأوّل لغاية 22 تشرين الأوّل 2022. في جلسته في 5 أيّار 2022، وافق مجلس الوزراء اللبناني على التمديد الثاني، أي من 22 تشرين الأوّل 2022 و لغاية 21 أيّار 2025. في الأسبوع نفسه الذي مدّد فيه لبنان المهل لـ«توتال»، وفي خطابٍ انتخابيٍّ في 10 أيّار 2022، لوّح الرئيس نبيه برّي لشركة «توتال» باستبدالها إذا لم تبادر بالحفر في البلوك رقم 9، كدليلٍ على التخبّط اللبناني في التعاطي مع ملفّ التنقيب. وكان وزير الطاقة والمياه الدكتور وليد فيّاض، وعقب زيارته إلى فرنسا في كانون الأوّل 2021، أعلن عن عزوف شركة «توتال» عن الحفر في البلوك رقم 9 حتّى تسوية مسألة الحدود مع العدوّ.
«توتال»، في الوقت الذي تؤجّل فيه التنقيب في المياه اللبنانية الجنوبيّة، بدأت الحفر في المنطقة الاقتصاديّة القبرصيّة الخالصة بالشراكة مع شركة «إيني» الإيطالية. من الجدير ذكره بأن البلوك القبرصي رقم 6، حيث بدأ الحفر، متنازعٌ على قِسمِه الشماليّ مع تركيا حيث يدّعي الأتراك وجود ذلك القسم في منطقتهم الاقتصاديّة الخالصة. تجدر الإشارة إلى أنّ شركة «توتال» إذا قررت الحفر في البلوك رقم 9 فإنّها ستحفر شمال البلوك بعيداً كلّ البعد عن المنطقة التي ينازعنا عليها العدوّ، بموافقة لبنان، فما قبِلته «توتال» بدعم أميركي، هناك في قبرص، رفضته في لبنان بضغطٍ أميركيٍّ على الأرجح.
بتاريخ 19 نيسان 2019، وافق مجلس الوزراء على إطلاق دورة التراخيص الثانية في البحر اللبناني، وتمّ تحديد 31 كانون الثاني 2020 موعداً نهائيّاً لتقديم طلبات الاشتراك فيها. ولكن، بناءً على طلب شركات النفط والغاز العالمية، ثمّ نظراً لتداعيات انتشار فيروس «كورونا» على الصعيد العالمي، تم تأجيل هذا الموعد مرّتين. بتاريخ 23 تشرين الثاني 2021، وقّع وزير الطاقة والمياه قراراً يقضي باستكمال دورة التراخيص الثانية في المياه البحرية اللبنانية، وقد حدّد القرار 15 حزيران 2022 كموعدٍ نهائيٍّ لتقديم طلبات الاشتراك في الدورة من قبل شركات النفط والغاز.
عمليّات الحفر الجارية حاليّاً في البئر KM-04 في حقل كريش بمحاذاة الخطّ اللبناني 29. بعد الإنتهاء من KM-04، ستنتقل سفينة الحفر Stena IceMax شمالاً للبئر KN-01

شمل القرار الرقع الثمانية غير المُلزّمة من أصل الرُقع العشرة، مع العلم أن الرقعتين 4 و9 قد تم تلزيمهما بفعل دورة التراخيص الأولى للكونسورتيوم «توتال-إيني-نوفاتيك». يجدر القول بأنّ دورة التراخيص الثانية شملت الرقعتين الجنوبيّتين 8 و 10 ضمن سلّة الرقع المعروضة للتلزيم، مع العلم بأنّ الرقعتين يحدّهما الخطّ البائد 23 جنوباً. السبب في الاستعجال بعرض هاتين الرقعتين «مُبهم»، فلا مصلحة في ذلك؛ إذ قد سبق لآموس هوكشتين القول بصراحة بأنّ الشركات الأجنبيّة لن تُقدِم على التنقيب في الرقع الحدوديّة قبل الاتّفاق مع العدوّ. وسبق لـ«توتال» تنصّلها من الحفر في البلوك رقم 9 بحجج مخاطر الحفر في البلوك، نفس المخاطر التي على أساسها لُزّم البلوك للكونسورتيوم «توتال-إيني-نوفاتيك» بأسعار بخسة مقارنة مع البلوك رقم 4 عِلماً بأنّ احتمالات الاكتشافات التجاريّة في البلوك رقم 9 هي أفضل من تلك في البلوك رقم 4. الدولة اللبنانية لزّمت البلوك 9 لـ«توتال» بشروطٍ مُجحفةٍ بحجّة وضعه الجيوسياسي، الوضع الذي لم يتغيّر منذ التلزيم ولغاية الآن. فإذا انتظرت «توتال» حتّى الترسيم تكون قد حصلت على البلوك 9 وما يختزنه من ثروات، من دون أيّ مخاطرة.

تحدّيات وخيارات
قالها آموس هوكشتين بصراحة في زيارته الأولى إلى لبنان السنة الماضية: من المُستبعد أن تُقبِل الشركات على التنقيب في المياه اللبنانيّة بغياب الاستقرار الضروري، بمعنى آخر قبل اتّفاقيّة ترسيم مع العدوّ. بالتالي، لا إمكانيّة لتنقيبٍ في المياه اللبنانية العميقة بظلّ المنع الأميركي المُبطّن. فما هي خياراتنا في هذه الحالة لصون حقوقنا واستثمار ثرواتنا؟
بالتأكيد، الانتظار ليس خياراً، بِلِحاظ أنّنا المتضرّرون من الانتظار فيما مشاريع العدوّ ماضية وتتسارع. من جهةٍ أخرى، التجربة تؤكّد بأنّ التعويل على استجداء الأميركي لمعاودة المفاوضات لن تجلبَ إلّا إهدار المزيد من الوقت والمزيد من التفريط بالحقوق. الرئيس برّي أمهل الوسيط الأميركي بتاريخ 10 أيّار 2022 شهراً لمعاودة المفاوضات، مُهلةً لن يكترث لها الأميركي على الأرجح، وإن فَعَل فسيعاود الكرّة بعروضٍ تُسوّف الحلول العادِلة كان لبنان رفض مثلها أكثر من مرّة.
وحده تعديل المرسوم 6433 وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة يعيد خلط الأوراق لصالح لبنان


قد يُقتَرح التوجّه شرقاً في مسار التنقيب والاعتماد على الشركات الإيرانيّة والروسيّة والصينيّة، مثلاً، كبديلٍ عن الشركات الغربيّة الواقعة تحت وطأة القرار الأميركي. هكذا طرح تواجهه عقبات. ففي الوقت الذي لم تمرّ فيه عروض بناء معامل الكهرباء الإيرانيّة ومصافي النفط الروسيّة كيف نعوّل على التوافق الوطني للتوجّه شرقاً في موضوعٍ استراتيجيٍّ يُعارض مصالح العدوّ والمصالح الأميركيّة كملفّ التنقيب عن النفط والغاز؟ من جهةٍ أخرى، التنقيب عن النفط والغاز في المياه العميقة والشديدة العمق كالمياه اللبنانية الجنوبيّة (1500 متر في البلوك رقم 9) وتطوير الحقول والإنتاج من تلك الحقول يتطلّب تكنولوجيا لا تملكها إلاّ الشركات الكبرى التي لن تخرج عن طوع أميركا. فالشركات الصينيّة والإيرانيّة والروسيّة لا تقوى تقنيّاً على ذلك وحدها. الدول المذكورة لا تملك خبرات التنقيب والتطوير في المياه الشديدة العُمق، فحقول تلك الدول البحريّة في مياه لا يبلغ عمقها عشرات إلى بعض مئات الأمتار. بالإضافة إلى ذلك، هذه الدول في هكذا مشاريع لا بدّ ستحتاج لشركات الخدمات النفطيّة الكبرى التي ستتبع، بلا شكّ، مصالحها مع أميركا عندما تُخيّر. هذا ليس دعوة لإهمال دراسة الخيارات المطروحة ولكنّه ضروريٌّ لأخذ المحاذير والمعوّقات الحقيقيّة في الاعتبار.
إذاً، ماذا في جُعبتنا للخروج من دائرة المراوحة التي وضعنا أنفسنا داخلها؟ فالتعويل على الإدارة اللبنانيّة الحاليّة لملفّي ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة والتنقيب عن النفط في المياه اللبنانيّة لن يقودنا إلى أفضل ممّا نحن فيه الآن من مراوحةٍ. سوء إدارتنا لملفّ التنقيب أفقدنا سنواتٍ من عمر الملفّ ولكُنّا في طور الإنتاج لو لم نقتل الدفع الذي حصل عليه الملفّ بعد إقرار المراسيم في نيسان 2012 ودورة التراخيص التي أُجهضت عام 2013. سوء إدارتنا لملفّ الترسيم، والخطايا المميتة المريبة التي توالت على الملفّ منذ 2007، ندفع ثمنها غالياً الآن. الواقع الذي لا خلاف عليه هو أنّ ملفّ الترسيم مشلولٌ الآن وقراره بيد أميركا، وكذا قرار التنقيب. والواقع الثاني هو أنّ العدوّ يده طليقة وتلقّى دفعاً جديداً ودعماً أميركياً متزايداً سبّبهما الأزمة الأوكرانيّة والسعي الأميركي المحموم للاستغناء عن إمدادات النفط والغاز الروسي لأوروبا وما يشكّله غاز شرق المتوسّط، وأهمُّه الآن الغاز المستخرج من المياه الفلسطينيّة المحتلّة، كمصدرٍ من مصادر التنويع في الإمدادات.

قرّرت شركة «توتال»، عند توقيع عقد التنقيب والإنتاج معها، وقبِل لبنان، أن يبتعد الحفر، عندما يحدث، 25 كلم عن المنطقة بين الخطين: الخط البائد المشكوك 23 والخط المعلن من العدوّ. فالحفر، عندما يحصل، لن يقترب من حقل قانا المحتمل بينما يجول العدوّ ويصول في كريش!

لا يمكن إعادة مسار الترسيم والتنقيب إلى سكّته الصحيحة و استدراك ما يمكن استدراكه إلّا عبر إعادة خلط للأوراق تُعيد الطابة إلى ملعب العدوّ وداعمِه الأميركي. فوّتنا كلبنانيين فرصة ما يقرب من السنتين لتعديل المرسوم 6433 وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة. كلّ ذلك كان تحت حججٍ واهيةٍ أثبت فشلُ المفاوضات ضحالتها. البارحة واليوم وغداً، وحده تعديل المرسوم 6433 وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة يعيد خلط الأوراق لصالح لبنان، ما عدا ذلك هو جَعجَعة من غير طحين. نعم، تعديلُ المرسوم ومراسلة الأمم المتّحدة وحدهما لا يفيان بالغرض، فما أعادت المراسيمُ والمراسلاتُ والقراراتُ الدوليّة يوماً، على تحيّزها لصالح العدوّ، حقّاً عربيّاً، من القرار 242 وحتّى القرار 425 وما بينهما وما بعدهما؛ تعديل المرسوم 6433 وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة يجب أن يليهما تحذيرٌ لبنانيٌّ لشركة «إينيرجيان» المُطوِّرة لحقل كاريش بشطريه الرئيسي والشمالي. هذا التحذير لا بدّ أن يُنظَر إليه بعين الجدّ والمصداقيّة من قِبَل الشركة في الوقت الذي صرّحت فيه المقاومة بأنّها ستتبنّى ما تتبّاه الدولة اللبنانيّة بأنّه حقّ لبناني. هذا، وهذا فقط، يُعيد العدوّ والوسيط النزيه إلى طاولة المفاوضات على أُسسٍ جديدةٍ نحو حلٍّ يعظّم المصلحة الوطنيّة. هذا لن يكون طريقاً مفروشاً بالورود. هو طريقُ ذات الشوكة. فالعدوّ سيحاول الدفاع عن مكتسباته التي أمّنها له حِرصُه على مصلحته والدعم الأميركي من جهة وتهاوننا وتفريطنا من جهةٍ أخرى، بكلّ ما أُوتي من قوّةٍ ومن دعم. على أنّ خياراتنا ليست كثيرة إذا ما قرّرنا الحفاظ على حقوقنا ولا نملك تَرَف الاختيار. هي المواجهة، بعد فشل المهادنة والضعف، خيارنا الوحيد الذي يحفظ الثروات.
تبقى الإشارة أخيراً إلى أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إنتاج الغاز والنفط من مياهنا البحريّة قد يشكّل باباً من أبواب النهوض بالاقتصاد الوطني ومصدراً للطاقة نصف النظيفة لعقود وسبيلاً للاستقلال الطاقوي الذي تسعى له كلّ الدول المُقتدرة. على أنّ ذلك يجب أن لا يحجب عن أعيننا أساس كارثة الانهيار التي نعانيها. فالسبب الأساسي لانهيار الاقتصاد اللبناني الريعي هو الفساد وسوء الإدارة الذي استشرى واستفحل منذ الطائف. فدولٌ كثيرةٌ عندها من احتياطات الغاز والنفط أكثر ممّا عندنا من الغاز المحتمل تعاني من الفقر بسبب الفساد وسوء الإدارة. فاحتمالات العثور على كمّيات تجارية كبيرة من الغاز في البحر اللبناني هي احتمالاتٌ عاليةٌ بلا ريب وبالأخصّ في المياه الجنوبيّة. أمّا الكميات، فلا قُدرة على التنبّؤ بها الآن، والحديث عن أيّة أرقام يفتقر إلى الدِقّة. ومن جهةٍ أخرى، وبأحسن الأحوال، إذا حصل توافقٌ لبنانيٌّ (مفقودٌ للأسف) اليوم ووافقت شركة «توتال» بِسحرِ ساحِرٍ على الحفر، لن يبدأ إنتاج وبيع الغاز قبل خمس لسبع سنواتٍ في أكثر السناريوات مثاليّة. كيف والأمور معقدة والاحتمالات التقنيّة بالبدء بالتنقيب قريباً ضعيفة وخصوصاً بعد تمديد مُهَل التنقيب لـ«توتال». من الخطورةِ بمكان الآن تصوير الغاز وكأنّه المخرج الوحيد للأزمة التي نمرّ بها. يجب العمل على الخروج من الأزمةِ عبر بناءِ اقتصادٍ مُنتجٍ بمعزلٍ عن الغاز. حتّى إذا اكتشفنا الغاز زاد في إمكانيّاتنا، وإذا تأخّر الغاز نكون على الطريق السليم بكلّ حال. كلّ هذا ليس مدعاةً للتشاؤم ولا للتقليل من قيمة الثروات المُحتملة في البحر اللبناني وأثر تلك الثروات المُحتملة على الاقتصاد الوطني. إنّما هي دعوة لمقاربة مسألة الترسيم والتنقيب بطريقةٍ واقعيّةٍ وموضوعيّةٍ تعظّم المنفعة ولا تغفل المخاطر. دعوة لدراسة الأمور من كلّ جوانبها ووضع خطط وطنيّة عملية للنهوض تأخذ في الاعتبار تجربتنا المريرة في الثلاثين سنة الماضية والوقائع والتحدّيات.

* باحث وأستاذ في الجامعة الأميركيّة في بيروت