أعاد احتدام موسم الانتخابات عنوان «الطبقة السياسية» إلى واجهة النقاش العام. وذلك بما هي الانتخابات أداة وظيفية تهدف إلى محاسبة الساسة - على الأقل كما تقول لنا كتب العلوم السياسية التدريسية. من الصعب حصر شرح الترابط بين الساسة اللبنانيين وطوائفهم والخارج ببضعة آلاف من الكلمات. لذا سنلجأ إلى التشبيه. الوضع في لبنان اليوم يشبه مسابقة في مقهى ألعاب. الجو في المقهى مشحون. الندماء، من اللاعبين المتحلقين حول الطاولة، لم يتنبهوا إلى أنّ صاحب المقهى قد ملّ من المسابقة القائمة. ولم يتنبهوا أيضاً أنّه قد بدأ بتحضير طاولة أخرى وزودها بلوح من نوع جديد مختلف عمّا ألِفوه. وبينما كانوا يكملون لعبة «المونوبولي»، وكل واحد منهم يرمي النرد منتظماً في دوره ويحرّك قطعه بشكل طبيعي، تنبّه أحد الندماء إلى الطاولة الأخرى واللوح الجديد. ترك مقعده الخلفي حول طاولة مسابقة «المونوبولي»؛ وانتقل إلى الطاولة الجديدة، ولاحظ أن صاحب المقهى قد نقل لوحة الإعلان عن الجائزة الموعودة إلى هذه الطاولة. كل شيء يقول إنّ اللعبة انتهت!

لماذا «المونوبولي»؟
في عام 1904 حازت إليزابيث ماغي براءة اختراع للعبة لوح جديدة، تحت اسم «لعبة المالك». اشتملت اللعبة على الأموال التمثيلية والسندات والرهون العقارية؛ وفي المقابل يجمع اللاعبون الإيجارات ويقترضون الأموال ويدفعون الضرائب. وكان هدف ماغي من اختراع هذه اللعبة تبيان وشرح تأثير الريوع العقارية على الاقتصاد وعلى حياة الأفراد، بما يتناسب مع قناعتها الراسخة بأفكار الصحافي والاقتصادي الأميركي هنري جورج.
كان هنري جورج يؤمن بأن الريع يجب أن يتوزع على المجتمع بشكل عام. وبناء عليه كان يؤمن بمبدأ الضريبة الواحدة: ضريبة قيمة العقار. فقيمة العقار هي المقياس الأقرب لمدى النمو الاقتصادي للاستثمار المُقام على هذا العقار. وفرض الضريبة على قيمة العقار الحقيقية سيكون أكثر عدالة وتمثيلاً للنمو الاقتصادي الحقيقي على شرائح المجتمع كافة، ويعفي النشاط الإنتاجي من الضرائب المباشرة. والأهم، ستمنع هذه الضريبة المضاربة على العقارات، وتضخم أسعارها بسبب قدرة أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة على الحفاظ على المواقع الأفضل شاغرة للتربح منها في ما بعد.
انتشرت «لعبة المالك» بسرعة في الأوساط الأكاديمية الجامعية، حيث نجحت في وظيفتها كأداة تعليمية لشرح مبادئ جورج. ومع الوقت انتشرت اللعبة في الأوساط الشعبية، وتحوّرت وتطورت حتى أصبحت لعبة «المونوبولي» (أي الاحتكار). هذه اللعبة الأشهر في العالم اليوم بين ألعاب اللوح، أصبحت - على بساطتها - أداة تعليمية فعّالة وشديدة الوضوح، حيث تُظهر متطلبات خلق ظروف التنافس الاحتكاري ومساره.
في المقهى، نظر الجالس الوحيد إلى الطاولة الجديدة إلى مالك المقهى ومن ثم إلى اللوح المسدس الزوايا وإلى العلبة الملقاة إلى جانب الطاولة. كُتب على العلبة «مستوطنو كاتان».

ما هي «كاتان»؟
في عام 1995 صمّم كلاوس تويبُر لعبة لوح تتمحور حول استعمال الموارد الموجودة في أرض بكر لتطويرها واستيطانها. تشتمل اللعبة على مستوطنات ومدن وأنواع مختلفة من الموارد التي تستعمل لتطوير المستوطنات والمدن، بالإضافة إلى «لص». اللص أو السارق هو العامل الذي يحافظ على توازن اللعبة ويمنع أحد المتنافسين من التقدم على الباقين بشكل جليّ. فتويبُر صمم اللعبة بشكل يمكّن اللاعبين من تحقيق النقاط من خلال عدّة وسائل وخيارات، تجعل اللعبة أكثر ليونة، وفي الوقت عينه يصبح صاحب أكبر نصيب من الموارد أكثر عرضة للخسارة في حال تفعيل بطاقة اللص أو السارق. وشكل اللوح لا يسمح بوضع أغلبية أي مورد من الموارد في يد لاعب واحد، فلا يمكن لأي لاعب تسيّد اللعبة. لذا تصبح خاصية التجارة أو تبادل الموارد مجالاً لتوضيح كيفية عمل الأسواق الحرة، حيث تختلف الأسعار بحسب ندرة أو توافر الموارد بين يدي اللاعبين. بمعنى آخر هدف اللعبة هو ألاّ يكون الفائز متسيّداً للّوح، حيث تبقى اللعبة متوازنة حتى تنتهي. وبشكل غير مباشر تصلح لتكون أداة تعليمية لتفكيك احتكارات الاقتصاد وإخضاعها لعمل السوق الحر. وفي السنوات الأخيرة، اجتاحت هذه اللعبة عالم ألعاب اللوح، لدرجة أن بعض الخبراء لقبوها بقاتلة «المونوبولي».
في المقهى، بدأ الجالس الوحيد إلى الطاولة يقرأ قواعد اللعبة الجديدة بأسرع ما يمكنه، وبدأ يعتاد على شكل اللوح الجديد وغير المألوف. أمّا بقية اللاعبين فإنهم يستمرون في مزاولة اللعبة التي لم يعد يرى صاحب المقهى أي جدوى منها، فيما هم يظنون أنّه سيكافئهم إن استمروا في اللعب.
إعادة تكوين منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني تبقى العنوان الرئيسي للمرحلة المحلية الراهنة، بكل أبعادها وتعقيداتها المحلية أو تلك المرتبطة بالاقتصاد العالمي


في لبنان لعبة الاقتصاد السياسي القديمة انتهت، الريوع تبخرت، والمسابقة ماتت، واللاعبون غافلون عن هذا. والحقيقة أن بعضهم يتغافل عن هذا، كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال. أمّا الجالس الوحيد إلى الطاولة الجديدة بدأ يتعلم قواعد لعبة جديدة، كما «الكاتان»، لوحها جديد وغير مألوف، والأرض خالية من كل أشكال التنمية والنمو، والمغزى أصبح تأمين الموارد وإدارتها. هذا المسار بدأ منذ الصيف الماضي، مع اشتداد أزمة المشتقات النفطية وما تبعه من مبادرات وإجراءات، ولا يزال يتوالى تباعاً مع توالي الأزمات. أمّا بقية اللاعبين، فإنهم يستمرون في مزاولة اللعبة التي لم يعد يرى صاحب المقهى أي جدوى منها، فيما هم يظنون أنّه سيكافئهم إن استرضوه. فلا يزالون يحلمون بإعادة إحياء القطاع المالي بشكله الحالي - سواء عبر إجراءات داخلية أو عبر استرضاء للولايات المتحدة - علّ منظومة الاقتصاد السياسي البائدة تعود إلى سابق عهدها، ويعيدون تذخير مواقعهم في عملية توزيع رأس المال، وتباعاً يرمّمون مواقعهم السياسية. ولكن سرعان ما سيكتشفون أن لا جوائز في الألعاب الملغية. أمّا الأكثر إثارة للضحك فهو ذلك المتفرج الذي يطمح أن يفرغ مقعد على الطاولة حتى يجلس ويشارك في لعبة منتهية.
إعادة تكوين منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني تبقى العنوان الرئيسي للمرحلة المحلية الراهنة، بكل أبعادها وتعقيداتها المحلية أو تلك المرتبطة بالاقتصاد العالمي الموحد والترابط بموقع لبنان فيه. وهذا العنوان بالتأكيد أوسع من الفهم اللبناني للاقتصاد - الفهم المحاسبي الذي يحصر الاقتصاد في جداول بيانية ونماذج رياضية مرفقة ببضع جمل عن الارتباطات السياسية. ومع استعار لهيب الحملات الانتخابية، يجب أن يحضر في حسابات كل مقترع منا ترتيب هذه القضية ضمن أولويات أجندات القوى السياسية المتنافسة. وببساطة، من المزعج أن يكتشف المرء، بعد مدة من الزمن، أنّ ممارسته للسياسة قادته إلى رهانه على لاعب لم يكن يدرك أن اللعبة انتهت وأنّه خسر.

* كاتب لبناني