ما زلت أعتقد أن شربل نحّاس، وحده، يشكّل نقطة انطلاق ومصدر حركة لفعل سياسي ممكن، بالمعنى العلميّ للكلمة. لأنّه الوحيد الذي يقف في المنتصف، مدركاً تمام الإدراك، وحده مرّة أخرى، أنّ جرّ النّخب المعتدلة إلى مناقشة مفتوحة حول القواعد الإجرائية التي يمكن انتهاجها، هو الطّريق الوحيد الذي يمهّد إلى تحوّل متدرّج وواقعيّ، من دون الوقوع في تهلكة الاحتراب الذي قد تودي إليه الشروخ الطائفيّة المتجذّرة. فيكون موقف نحّاس، بجزءيه (خطة العمل التي يعرضها مراراً وكيفيّة إملائها المتمثّل بالتسلّم السلمي للسلطة)، افتتاحاً لفضاء سياسيّ جرى إغلاقه منذ اتفاق الطّائف على أقلّ تقدير. وعلى ضوء ذلك، يكون مشروعه دعوة مضمرة أيضاً لمواصلة التفكير في مسألة تأسيس الدولة.في لبنان، ما من سياسة، بل إدارة لجماعات تلتئم من خلال تعريفات سلبيّة، على طريقة «أنا لست الآخر». هذا الجدار الهويّتي يظهر بوضوح في المشاريع الانتخابيّة كدعوة للانغلاق تقف ضدّ كلّ تواصل. داخل هذا الفضاء المِلليّ، المنطوي على نزعة تأسيسيّة تُخرج من يخرج عن تشريع الجماعة من الإنسانيّة، ترتسم كلّ إجراءات فريق ما. فتنقلب المواطنة إلى ضرب جذريّ من الطاعة. وقد ترسّخ ذلك أيضاً، بعدما أعطت الملّة خصوصيّات ألوهيّة للزّعيم، جعلت منه قطباً متعالياً.
بالطّبع، لا يمكن الجزم بفعاليّة أو نجاعة فعل سياسي ما. وأيّ جزم من هذا النّوع يعني أنّ صاحبه لا يفكّر في فضاء سياسي. ولذلك، ينبغي إقصاء العصمة من مجموع المصطلحات عند تقييم فعل سياسيّ، من أجل إفساح المجال للتأمّل والمساءلة. في فضاء الإدارة اللبنانيّة، لا السّياسة، يسعى نحّاس إلى إقحام تعريف سلبيّ للديموقراطيّة. بعبارة أخرى، الانطلاق من فضاء التعريفات السلبيّة من أجل الإفلات من تقييداته. التعريف السلبي للديموقراطيّة هو أنّها رفض للاستبداد، وبالتّالي يكرّس نحّاس جهداً موسّعاً لتصوير واقع الإدارة اللبنانيّة على أنّه تعسّف مطلق لا يعكس تطلّعات النّاس. هذا من جهة. من جهة أخرى، يحاول نحّاس إقناع النّخب بأنّ الطريق الذي يسلكه سياسيّو الآن يضرّ بمصالحهم. سعياً منه لنزع ولاءاتهم المطلقة للزّعيم ــــــ والتي من الممكن أن تكون قد خبت جذوتها تحت مفعول التدهور الاقتصاديّ ــــــ واستبدالها بصيغة مصلحيّة للمستقبل. وهو بذلك يتحاشى تصدير برنامجه على هيئة بديل هويّتي يجتذب الجماهير. بل يسعى إلى فرض الإصلاح، الذي قد يؤدي إلى تغيير جذريّ، عبر ضغوط النّخب الساعية وراء مصالحها. وبعيداً عن الشاعرية، ثمّة إمكانيّة حقيقيّة لتحقيق آمال «مواطنون ومواطنات في دولة» من دون تمرير الخطاب إلى الفئات الشعبيّة. لأنّ التّحوّل الديموقراطيّ لا يحتاج إلى حشد جماهيري، وإنّما إلى نخب فقط. وهذه مراوغة سياسيّة حسّاسة يمارسها نحّاس حتّى الآن بمهارة فائقة.
على أنّ ما على نحّاس، أقلّ ممّا له، إلّا أنّه أكثر حسماً. فالعمل النقابي، مثلاً، الساعي إلى تحقيق مصالح فئة من الناس، مسألة في غاية الأهميّة بالطّبع. إلّا أنّ الطبيب اللبنانيّ، الذي يعيش على حدود فلسطين المحتلّة، لا يعنيه صندوق النقابة أكثر من شعوره بالأمان. ولذلك، وعلى الرّغم من امتلاك نحّاس تصوّراً جامعاً في ما يخصّ مقاومة لبنان للكيان الصهيونيّ، حيث يمكن تحقيق إجماع وطني حوله، إلّا أن ترشيح من لم يمتلك موقفاً حاسماً من الكيان الصهيوني، دينيّاً كان أو علمانيّاً، على الأقل لحظة واحدة في حياته، يعدّ جرماً بحقّ مخاوف شريحة كبيرة من الناس وتوجّساتهم. وإن كنت أؤمن بإمكانيّة التحوّل الفكري الجذريّ، إلّا أنّ الانتخابات ليست الميدان السليم لتجريب هذا التحوّل، أو إعطائه الثقة.

* كاتب لبناني