إسرائيل ليست في وضع مريح على الإطلاق. منذ اليوم الأول لبدء الأزمة في أوكرانيا بدت عليها معالم الارتباك والتردد. لم تستطع أن تتخذ موقفاً واضحاً، فجنحت إلى حالة من الحياد الظاهر، ولكنه حيادٌ مقنّع ويخفي خلفه موقفاً لا تجرؤ إسرائيل على إعلانه.تخشى إسرائيل روسيا، ولا تريد إغضابها بأي شكل ولا أن تظهر في موقف العداء لها. المصلحة الإسرائيلية مع روسيا كبيرة جداً وهي محتاجة لرضاها وتعاونها. مجرد نظرة إلى برنامج الزيارات الخارجية لرئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو توضح مدى أهمية روسيا بالنسبة إلى القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. ما بين 2015 - 2020 زار نتنياهو موسكو رسمياً عشر مرات (وربما هناك المزيد من الزيارات التي لم يعلن عنها) ــــ أكثر من زياراته لأميركا! الأمر كله يرجع إلى الجبهة السورية والتدخل العسكري الروسي هناك والذي بدأ عام 2015 (خلافاً للرغبة الإسرائيلية التي كانت تعوّل على إسقاط الرئيس بشار الأسد ونظامه). فرض بوتين قراره على الأرض وجعل من المستحيل، عملياً، على المعارضة السورية المسلحة أن تنتصر. صار على إسرائيل أن تتعامل مع هذه الحقيقة التي لا تستطيع تغييرها. ودخل بوتين في تحالف عملي مع الإيرانيين في ما يتعلق بسوريا.
ولأن إسرائيل أعجز وأضعف من أن تواجه إيران مباشرة، أو أن تشن عدواناً على أراضيها، فإن الجبهة السورية هي الميدان الوحيد الذي تستطيع فيه أن تؤذي إيران من دون أن يؤدي ذلك إلى حرب شاملة معها. فإيران، من الناحية الرسمية، لم تدخل الحرب في سوريا وقواتها الموجودة هناك تدخل تحت بند «مستشارين عسكريين» لحساب الحكومة السورية، ولذلك فاستهداف النشاط العسكري الإيراني في سوريا هو في الإطار العريض، ومن الناحية القانونية يصنف في باب الاعتداء على سوريا لا إيران. وإسرائيل بحاجة ماسة إلى استمرار عملها المسلح وغاراتها على سوريا لثلاثة أسباب: الأول هو منع إيران، ومعها حزب الله، من تأسيس قاعدة مقاومة في جنوب غربي سوريا، قرب الجولان، تكون مصدر تهديد لها يضاف إلى جبهة جنوب لبنان. والثاني هو إعاقة خطوط الدعم العسكري الإيراني لحزب الله في لبنان. والثالث يتعلق بالداخل الإسرائيلي وضرورة الإيحاء لعموم الإسرائيليين بأن حكومتهم تعمل بالفعل لمواجهة إيران والتصدي لها في المنطقة وليست ساكنة أو متقاعسة.
وتدرك إسرائيل أن نشاطها العسكري في سوريا، وغاراتها، لا يمكن أن يستمر لو عارضت روسيا ذلك. فلا بد لها من «أخذ الإذن» من الرئيس الروسي لأجل مواصلة عملياتها العسكرية في سوريا. لا بد لإسرائيل أن تحصل على موافقة بوتين، أو على الأقل غض النظر من طرفه، لكي تضرب أهدافاً في سوريا. ولو أن بوتين قرر أن يوقف الاعتداءات الإسرائيلية لاستطاع بالتأكيد تنفيذ ذلك إمّا مباشرة بواسطة القوات الروسية الموجودة في سوريا وإمّا عن طريق تزويد الحكومة السورية بصواريخ أكثر تطوراً من شأنها التصدي الفاعل، تقنياً، للطيران الإسرائيلي المهاجم. ولأن نتنياهو كان يدرك ذلك، لم يتردد في ركوب الطائرة كل بضعة أشهر للقاء بوتين وتقديم كل التفاصيل و الإيضاحات والضمانات التي يطلبها من أجل السماح لإسرائيل بالعمل العسكري بعد الاتفاق على حدوده وحجمه ونوعيته.
ولذلك كله، فإن إسرائيل مضطرة لمسايرة بوتين وعدم استفزازه حتى لو غزا أوكرانيا أو غير أوكرانيا! لم تصوت إسرائيل في الأمم المتحدة ضد روسيا ولم تنضم إلى الدول الغربية التي فرضت عقوبات على روسيا. ولكن أميركا في نهاية المطاف تبقى هي الراعي والكفيل والضامن الأول في العالم للدولة العبرية. ومهما اختلفت الحكومة الإسرائيلية مع الحزب الديموقراطي الأميركي بشأن السياسات الأميركية في المنطقة أو طريقة التعامل مع إيران، فإنها لا تستطيع القطع مع الدولة الأكبر في العالم والتي حمتها ورعتها وسلحتها على مدى عقود. ومن هنا مأزق إسرائيل في الحرب الأوكرانية: كيف ترضي أميركا من دون أن تغضب روسيا؟! مهمة في غاية الصعوبة لم تجد لها إسرائيل حلاً سوى بالإعلان عن «حيادها» على أمل أن تتفهم كل الأطراف موقفها وتتقبل منها دور «المحايد» هذا.
وإلى الآن يبدو أن الأطراف المختلفة متقبلة لهذا «الحياد» الإسرائيلي. الرئيس الأوكراني زيلينسكي، اليهودي الديانة، له علاقات وطيدة جداً مع إسرائيل، وهو يتوقع منها الدعم والمساعدة. وسرعان ما طوّرت إسرائيل دور المحايد البعيد إلى دور الوسيط الفاعل. زار نفتالي بينيت موسكو واجتمع مع بوتين. زيلينسكي قبل بالوساطة الإسرائيلية، بل واقترح أن تجري المفاوضات مع روسيا في القدس! ولم يصدر عن إدارة بايدن اعتراض علني على زيارة بينت لموسكو.
ولكن بمرور الوقت، ومع تصاعد الحملة الغربية ضد روسيا، بدأت الجهات الغربية تضيق ذرعاً بالحياد الإسرائيلي المزعوم. تسرّبت معلومات بأن إسرائيل حاولت إقناع زيلينسكي بالموافقة على طلبات الرئيس الروسي وتقديم الضمانات التي يطلبها بشأن مستقبل أوكرانيا وعلاقتها بحلف «الناتو». وحتى أوساط من داخل الحكومة الأوكرانية اشتكت من الدور الإسرائيلي. وكذلك صدرت تلميحات وإشارات من قبل إدارة بايدن بأن على إسرائيل الانضمام إلى موقف الغرب تجاه روسيا. المحاولة الإسرائيلية بالوساطة بين الطرفين صارت تتكشف بأنها في الحقيقة شراءٌ للوقت ومحاولة لتبرير عدم اتخاذ موقف حاسم من الأزمة. بدأ الضغط يتوجه نحو إسرائيل بأن هذا السلوك لا يمكن الاستمرار في قبوله طويلاً.
ولكنّ لإسرائيل مرابح أيضاً من الحرب في أوكرانيا. أوّلها، المزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين المحتلة. فإسرائيل قامت أساساً على فكرة هجرة يهود العالم وبالتأكيد من دواعي سرورها استقبال يهود أوكرانيا لتدعيم ديموغرافيتها قبال العرب. وثانيها، رؤوس الأموال الضخمة من أثرياء روسيا، وخصوصاً اليهود منهم، الذين يواجهون صعوبات جمة في بريطانيا وأوروبا التي صارت تطالبهم بالابتعاد عن الرئيس الروسي تحت تهديد العقوبات ووقف مصالحهم فيها. وأبراموفيتش مالك نادي تشيلسي اللندني أبرز مثال. هناك معلومات بأن هؤلاء بدأوا يلجأون إلى إسرائيل لنقل ثرواتهم الضخمة، لا سيما مع وجود قانون فيها يسمح بفترة 10 سنوات كمهلة قبل الاضطرار للإفصاح عن مصدر الأموال. وأخيراً، فإن شعور دول أوروبا الشرقية بالتهديد الروسي يفتح نافذة جديدة لإسرائيل كي تصدر المزيد من الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية.
تقترب إسرائيل من ساعة مواجهة الحقيقة الصعبة والخيار الصعب. لن تسمح لها أميركا وأوروبا بالاستمرار طويلاً في موقف الحياد المزعوم و«لعبة الوساطة» التي هي في الواقع تغطية لاستمرار علاقتها مع روسيا بوتين وتجنب الانضمام إلى نظام العقوبات. امتحان صعب وموقف عسير ستواجهه حكومة بينيت - لابيد ومعها المؤسسة العسكرية الأمنية.

* كاتب من الأردن