في كتابه «الاشتراكية والحرب»، يشير لينين إلى أن التاريخ عرف الكثير من «الحروب التقدّمية» التي كانت مفيدة لتطور الإنسانية، حيث وعلى رغم كل العذابات التي تجلبها الحرب فإنها ضرورة تاريخية ساعدت في تحطيم أشد المؤسسات ضرراً ورجعية وأشد الأنظمة استبداداً. وفي هذا الإطار، يشير إلى الحروب التي حصلت بين الفترة الممتدة من الثورة الفرنسية إلى كومونة باريس التي تمكنت من تدمير أسس النظام الإقطاعي والحكم المطلق واستغلال الشعوب الأخرى، وفتحت الأفق لبناء نظام عالمي جديد.بالتالي، وبما يشبه القانون العام، يكثّف لينين بأن الموقف من الحرب يجب أن يبنى على دراسة الخصائص التاريخية المميّزة لكل حرب على حدة. في سياق توضيحه لفكرته، يضيف حرفياً «في الحروب التي خاضتها فرنسا، مثلاً، كان ثمّة عنصر نهب وفتح لأراضي الغير من جانب الفرنسيين، غير أن هذا لا يبدّل في شيء من الأهمية التاريخية الأساسية لهذه الحروب التي كانت تحطم وتزعزع الإقطاعية والحكم المطلق».
إذاً، «الحرب التقدّمية» هي الحرب التي تسهم في تحرير الشعوب من النظام الذي يعيق تقدّمها وتطورها، أمّا الحروب الرجعية فهي تلك التي تسهم في تكريس أسس النظام. وبناء عليه، لا يوجد موقف واحد من الحروب. يقول البعض بأن على اليساريين أن يكونوا ضد الحرب بالمطلق، وهذا طبعاً كلام يصف لينين أصحابه بأنهم «إنسانويون وفوضويون» تافهون.
أمّا «الحرب الرجعية»، بتعبير لينين، فلطالما كانت خيار النظام المأزوم اقتصادياً، وبخاصة في الحقبة الرأسمالية، إذ لجأت الدول الإمبريالية إلى الحرب عدة مرات من أجل تخطي أزمات عميقة كانت تواجهها. فمن خلال تدمير الأصول والبنى التحتية والإنسان، أو كما يقول علي القادري «من خلال الهدر الذي تنتجه الحرب، تتمكّن الأنظمة من إنتاج قيمة زائدة أعلى من تلك التي يمكن أن تنتجها أي عملية اقتصادية أخرى». على سبيل المثال، إن تدمير سوريا وتهجير شبابها أنتج قيمة لا يمكن تثمينها بالنسبة لدولة مثل ألمانيا، حيث تمكّنت من خلال اللاجئين من إعادة تجديد مجتمعها وضخ الحياة في اقتصادها. ونحن في بلادنا «المغضوب عليها»، يجري «هدرنا» بشكل يومي، إمّا على شكل قتل في الحروب أو عن طريق تصديرنا إلى الخارج لنسهم في بناء اقتصاد بلدان أخرى، بينما اقتصادنا يحتضر، وحاله كحال جسم قطعت عن رئتيه الهواء. ومن جهة أخرى، بإدخالك بلداً معيّناً في مرحلة التدمير، يمكّنك ذلك من السيطرة على هذا البلد سياسياً واقتصادياً لعقود.

لماذا العودة إلى لينين؟
قد يكون لينين أكثر سياسي وثوري تعلّم من الحرب. ففي التجربة السياسية تمكّن لينين من وضع قطار بناء أوّل تجربة اشتراكية في التاريخ مستغلاً الوضع الذي كانت تعاني منه روسيا إبّان الحرب العالميّة الأولى. وعلى المستوى النظري، طوّر لينين نظرية «الإمبريالية»، التي تثبت العديد من الدراسات الحديثة أنها كانت، إلى جانب أفكار روزا لوكسمبورغ وهوبسن، نظرية صحيحة وتمكّنت من استشراف الاقتصاد السياسي للنصف الأوّل من القرن الماضي. لا بل تبقى هذه النظرية صالحة في يومنا هذا في حال جرى إعادة قراءتها بالاستناد إلى خصائص القرن الواحد والعشرين، وإدخال عوامل جديدة إلى نموذجها. عليه، فإن من يريد أن يتخذ موقفاً من الحرب – بعيداً من المشاعر القوميّة والإنسانوية – عليه العودة إلى لينين.
من جهة أخرى، هذه العودة لها ارتباط مباشر بالحرب في أوكرانيا، فمن يقرأ خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي اعترف فيه باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، سيجد أن بوتين ركّز بشكل خاص على إجراءات لينين، وفتح نقاشاً حول تلك الحقبة، لا تسمح المساحة المخصصة لهذا المقال بالغوص فيها، إلا أنه يمكن الإشارة إلى أن بوتين الذي ينتقد استجابة لينين لإجراءات القوميين الأوكرانيين، هو نفسه اليوم يجادل لينين من موقع القومي الروسي. أمّا لينين فلم يكن ينظر إلى هذه المسائل من منظور قومي ضيق، بل كان بسعيه لوضع أسس بناء عالم جديد، يعالج كل العقبات التي يمكن أن تقف في وجه هذا الهدف، منها الانسحاب من الحرب، وتقديم التنازلات من خلال توقيع المعاهدات التي يعتبرها بوتين والكثير من القوميين الروس «مذلة».

قيل ستبدأ من الصين
منذ أيّام، وصل وفد رسمي أميركي يتألف من مسؤولين سابقين في مجلس الأمن القومي الأميركي إلى جزيرة تايوان. وفي اليوم التالي، 2 آذار، وصل وزير الخارجية السابق، مايك بومبيو، إلى الجزيرة. الخطوة اعتبرتها بكين اعتداء خطيراً على سيادتها وخرقاً فاضحاً للقانون الدولي والاتفاقيات المعقودة بين البلدين. إلا أن الصين إلى اليوم لم تقم بأي رد فعل على هذه الاستفزازات الأميركية، على الرغم من أنها أصبحت شبه يومية. فمثلاً، حصل حادث خطير جداً منذ شهرين، حيث اصطدمت غواصة نووية أميركية بجبل بحري في بحر الصين الجنوبي، وهو ما كاد أن يؤدّي إلى كارثة كبيرة. إلا أن الصين تواصل سياسة ضبط النفس، على الرغم من التحشيد السياسي والعسكري ضدها والذي عملت عليه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبخاصة الدور الفاشي الذي لعبه وزير خارجيته بومبيو من خلال التحريض الدائم على الصين ووصفها بالعدو في كل مناسبة، ومحاولة استفزاز هذا البلد بهدف توتير علاقته مع دول جواره. هذا بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية غير المستندة إلى أي حق، والتي كانت تبرّر على أنها تهدف إلى حماية الأمن القومي الأميركي، وذلك لأن وجود صين مستقلة عن سلطتهم وتسعى للتطور والنمو يشكّل تهديداً لأمنهم. وكذلك الحملة العنصرية ضد الصين في ما يتعلّق بفيروس «كورونا» ووصفه بـ«الفيروس الصيني»، إلى جانب التدخّل في شؤون هونغ كونغ وشينجيانغ.
يدرك الروس أنه سيجري إخضاعهم بشكل من الأشكال من أجل عزلهم عن الصين لكي يتفرّغ الغرب للصين لاحقاً


وبعد أن وصل الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، حافظ على هذا المسار التصعيدي ضد الصين، وتوقّع كثيرون أن الحرب على الصين ستبدأ في أي لحظة. ففسّر كثيرون (من دون أن يكونوا على حق) بأن انسحاب أميركا من أفغانستان كان هدفه التفرّغ للصين. وكذلك كانت خطوة بناء تحالف نووي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا يشير إلى أن منطقة المحيط الهادئ لن تكون هادئة. إلا أن الجميع تفاجأ بأن الحرب بدأت من مكان آخر تماماً، أي من أوكرانيا.
قبل الدخول في تحليل أسباب ذلك، يجب تثبيت حقيقة أساسية، أن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى حرب مع الصين، فلا خيار لوقف تطوّر الصين، وحل الأزمة التي تعاني منها الولايات المتحدة (التضخم في الولايات المتحدة وصل إلى مستويات لم يصلها منذ أربعين عاماً) إلا من خلال حرب كبيرة. لا بل هي تسعى إلى إشعال الحرائق في أي مكان يمكنها إشعاله. بالتالي، فالولايات المتحدة هي المسؤول عن أي أزمة عسكرية ستحدث مستقبلاً في شرق آسيا (بنفس المعنى واستباقاً للنقاش المقبل، الولايات المتحدة هي المسؤولة عمّا يحدث في أوكرانيا اليوم، فقد عملت على تحضير الجو للحرب على مدى سنوات).
لكن، يبدو أنه ليس من السهل جر الصين نحو حرب. والأهم أن الحرب مع الصين بسبب تايوان لن تكون لها آثار كتلك التي قد تنتجها حرب في أوروبا. وذلك لعدة أسباب، منها الموقع الجغرافي لتايوان، وثانياً طابع حرب كهذه سيأخذ طابع الحرب الداخلية، فتايوان هي جزء من الصين، بمعطيات التاريخ والجغرافيا والقانون الدولي، وحتى باعتراف الولايات المتحدة وأوروبا. لذا، لن تكون هناك إمكانية لتحشيد وتوتير كالذي نشهده اليوم في أوكرانيا.

الحرب في أوكرانيا وعليها
لا شك في أن التحضيرات للجولة الثانية من الحرب المستمرة في أوكرانيا قد بدأت منذ فترة طويلة. وهنا لا داعي لشرح أن هذه الحرب بنسختها الأولى قد بدأت في عام 2014، بعد أن حصل انقلاب قاده متشددون قوميون يفتخرون بأنهم ينتمون لتيار النازيين الجدد. وبالمناسبة، فإن العديد من الدول الأوروبية كانت ترفض إجراء مناورات عسكرية مع الجيش الأوكراني أو بيع السلاح لأوكرانيا لأنها كانت تعترض على وجود فرقة عسكرية داخل الجيش تتألف من النازيين الجدد، والتي جرى ضمّها بشكل رسمي إلى الجيش بعد أحداث «ميدان كييف» عام 2014، بحجة محاربة «الانفصاليين» في إقليم دونباس.
عام 1985 استقبل الرئيس الأميركي، رونالد ريغن، مجموعة من المقاتلين الأفغان المعروفين حينها بـ«المجاهدين»، ووصفهم بأنهم «المعادلون الأخلاقيون لآبائنا المؤسسين» لأنهم كانوا يقاتلون عدو أميركا الأوّل، أي الاتحاد السوفياتي. هؤلاء «الأفغان الأبطال» سيتحوّلون في ما بعد بنظر الولايات المتحدة نفسها إلى «إرهابيين». وطبعاً نعرف بقيّة الحكاية المعنونة «الحرب على الإرهاب» وما نتج منها من دمار واحتلال وإخضاع ونهب. ازدواجية المعايير هذه هي إحدى أدوات الإمبراطورية الأميركية. لا مشكلة لدى الأميركي في إنتاج منظمة فاشية عالمية جديدة، لا بل إن تجربة أفغانستان لجهة حشد إرهابيي العالم تعاد وكأنها تنسخ نسخاً، وبوقاحة مشابهة لتلك التي استخدمت لجذب ما جرى تسميتهم بـ«الجهاديين» من كل أنحاء العالم لقتال الاتحاد السوفياتي. فيومياً يوجّه الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، نداء لـ«المتطوّعين» ليأتوا ويقاتلوا في بلاده، وحظي هذا الأمر على موافقة وتشجيع العديد من الدول الأوروبية، على رأسها بريطانيا التي قالت وزيرة خارجيتها (وهي بالمناسبة أقرب لأن تكون وزيرة الحرب في الحكومة الأوكرانية) بأنها لا تمانع ذهاب أي من مواطنيها للقتال في أوكرانيا. وفعلاً، صرّح وزير الداخلية الأوكراني أن نحو 16 ألف «متطوع» قد وصلوا إلى بلاده. مع العلم أنه خلال سنوات الحرب الثمانية كان قد وصل آلاف النازيين الجدد للقتال إلى جانب زملائهم في أوكرانيا.
لطالما استخدم الأميركي دول أوروبا الشرقية، ومنها أوكرانيا، لتهديد روسيا. وهذه الجولة من الحرب تظهر بشكل واضح أن من يدير المعركة ليس الأوكرانيون أنفسهم، بل هي أقرب ما تكون إلى حرب «أطلسية» مع روسيا بسلاح وتمويل أطلسي ولكن على الأرض الأوكرانية وبالأوكرانيين أنفسهم بالإضافة إلى النازيين الجدد ومرتزقة من حول العالم. والمؤسف أن من سيدفع الثمن الأكبر لهذه الحرب هم الأوكرانيون، تماماً كما حصل مع السوريين والعراقيين وغيرهم. لا أعتقد أننا بحاجة لإثبات هذا الاستنتاج، فمجرّد متابعة تطوّر الأحداث، يمكن للمرء ملاحظة ذلك بسهولة. مثلاً بالعودة إلى وزيرة خارجية بريطانيا، ففي مؤتمر صحافي لها قبل أيّام أكدت أن «روسيا ستُهزم وستدفع الثمن»، يعتقد المتابع للوهلة الأولى من هذا التصريح أن الحرب تدور في شوارع لندن، وأن الجيش البريطاني هو الذي يخوضها. بالإضافة إلى ذلك، فإن أداء القادة السياسيين الأوكران، وإصرارهم على خوض حرب كان يمكن تجنّبها، لا بل إن الرئيس الأوكراني صرّح في اليوم الأوّل للحرب أنه مستعد للحوار مع روسيا حول حيادية بلاده، وبعد أن قابله الرئيس الروسي بالإيجاب وأوقف الأعمال القتالية، عاد زيلينسكي ليسحب دعوته ويصعّد خطابه، ممّا يشير إلى وجود ضغوط غربيّة عليه أو أوهام بأنه سيكون هناك دعم يمكّنه من النصر على روسيا. أميل إلى الاعتقاد بأن زيلينسكي مجرّد دمية بيد «الناتو». والمفارقة أيضاً أن أوكرانيا تقاتل عن «حلف الأطلسي» من دون أن يقبل الأخير ضمّها إلى صفوفه.

قد تكون الحرب مفيدة في حال حقّقت هدف تحجيم دور حلف «الناتو» وعلى رأسه الولايات المتحدة


لذا، إن كان هناك حرب تشنّها روسيا على أوكرانيا، فإنها حرب ضد «الناتو» وليس ضد أوكرانيا. ولكن لعنة الجغرافيا شاءت أن تكون أوكرانيا هي الساحة الحالية لهذه الحرب.
إن مواجهة «الناتو» ليست تفصيلاً، حيث يعتقد البعض أنه لا مشكلة في وجود الحلف على حدود روسيا، وأن الأخيرة تصنع أزمة لم يكن لها داع. ولكن بالنظر إلى أن «الناتو» هو الذراع العسكرية للإمبريالية، أو «الثالوث الإمبريالي»، أي أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة، طبعاً بقيادة الأخيرة، وأن واحدة من مميزات الإمبريالية هي الحرب والعدوان من أجل السيطرة والنهب، فعندما يصبح «الناتو» على حدودك فعليك أن تعرف أن الخطوة التالية هي إخضاعك. والإخضاع هنا لن يكون إلا بالعنف والتهديد، والإمبريالية لا تحتاج إلى مبرّرات للقيام بذلك، متى استطاعت نفّذت. فحتى دول الحلف نفسها تخضع للإرهاب الأميركي، وجميعنا نذكر كيف كان تعاطي ترامب مع قادة أوروبا خلال أحد اجتماعات «الناتو».
وهنا لا بد أن نسأل سؤالاً يطرحه كثيرون: هل تم جر روسيا إلى حرب لا تريدها، بمعنى هل ستكون أوكرانيا فخاً نصبته واشنطن لموسكو؟
أميل إلى التصديق بأن روسيا دخلت الحرب عن سابق إصرار وتصميم، وذلك كضربة استباقية. يدرك الروس أنه سيجري إخضاعهم بشكل من الأشكال من أجل عزلهم عن الصين، لكي يتفرّغ الغرب للصين لاحقاً. وأميل أيضاً للاعتقاد بأن روسيا لم تكن تتوقع هذا القدر من العقوبات (طاولت العقوبات القطط الروسية). إلا أن الأكيد هو التالي:
أوّلاً، لا شك في أن أميركا ستستفيد على المدى القصير من هذه الحرب، وذلك من خلال تأزيم الواقع الدولي، وإبقائه دائماً على حافة الحرب العالمية. فكما أشرنا سابقاً، الحرب تساعد على حل الأزمات الاقتصادية الكبرى، ولكن لا بد من الإشارة إلى أنها لن تعالج هذه الأزمة، بل ستساهم في تعميقها.
ثانياً، إن المسبب الرئيسي لهذه الحرب هو حلف «الناتو» وفي طليعته الولايات المتحدة، ولن يتردّد هذا الحلف في إشعال حرائق أخرى وهو يعمل من دون توقّف من أجل ذلك.
ثالثاً، مهما حلّلنا واتخذنا مواقف مؤيّدة أو معارضة للحرب، فستبقى هذه حرب التي قامت بها روسيا على أوكرانيا، أو على «الناتو» في أوكرانيا، وعلى الرغم من محاولة الروس تجنيب المدنيين والبنى التحتية الأساسية غير العسكرية (لا تستمع إلى المشاعر المرهفة للإعلام الغربي، التي تدّعي أن القصف الذي يطاول أوكرانيا لم نشهد مثيلاً له منذ الحرب العالمية الثانية. فقط ابحث على الإنترنت عن صور لمدينة الرقة في سوريا، وستعلم ماذا يعني الدمار. أمّا أوكرانيا، فإلى اليوم لم نر فيها مبنى سكنياً من خمس طبقات قد تدمّر، ونتمّنى أن لا نرى)، وما رافقها من دعاية ضخمة، أدّت، وستؤدي، إلى ازدياد كراهية شرائح واسعة من الأوكرانيين والأوروبيين للروس، ولكن هذا لن يغيّر شيئاً من كونها حرباً ضد «الناتو»، وقد تكون مفيدة في حال حقّقت هدف تحجيم دور الحلف وعلى رأسه الولايات المتحدة.
رابعاً، قد يقول البعض إن روسيا (يفضّلون أن نقول بوتين) ساهمت في توحيد «الناتو» الذي كان منقسماً، وزادت من شعبية النازيين الجدد. وعلى الرغم من سخافة هذا الادعاء (الثالوث موحّد، وسبب وحدته هو هيمنة الأميركي عليه، من يعتقد غير ذلك فهو يقع تحت تأثير الأيديولوجية «الثالوثية»)، ولكن هؤلاء أنفسهم يتهمون ستالين مثلاً بأنه بعقده اتفاقية مع هتلر من أجل تجنّب الحرب أسهمَ في السماح لهتلر باحتلال أجزاء واسعة من الاتحاد السوفياتي من خلال ضربة نازية استباقية نتج منها احتلال وتدمير أقسام واسعة من الأراضي السوفياتية وقتل الملايين. لو انتظر بوتين حتى تسوء الأوضاع أكثر، ماذا كان سيكون موقف هؤلاء؟

خاتمة
في كتابه الأخير قبل وفاته، يطرح سمير أمين فرضية تقول بأن الرأسمالية دخلت في مرحلة الشيخوخة، وأن لا قدرة لها على معالجة أزماتها، ويدعو قطب الشعوب المتكوّن حكماً من كل من هم خارج «الثالوث الإمبريالي» إلى العمل من أجل تخطّي الرأسمالية، ويضيف أن البديل لا بد من أن يكون اشتراكياً، وأن لا أمل لأي من القوى المعادية موضوعياً للثالوث الإمبريالي في أن تجد مكاناً لها بينه. من جهة أخرى، يعلّمنا تاريخ المجتمعات أنه من المستحيل الانتقال إلى نظام عالمي جديد من دون عنف. لم يحصل أن تخلّت طبقة عن حكمها من دون عنف، ولا أعتقد أنه سيحصل في المستقبل.
عليه، لا يمكن أن نرى الحرب التي تجري اليوم خارج هذا المنظور، مع العلم أنني متأكد من أن بوتين لا يفكّر في بناء نظام اشتراكي، إلا أن حركة التاريخ والصراع لا بد أن تفرض جدول أعمالها على الجميع. فمن يعتقد بأنه سيتمكن من إعادة إنتاج النظام مجدداً، من خلال الحروب، فهو واهم. البشرية والطبيعة لا يمكن أن تحتمل عصراً إمبريالياً جديداً، فإمّا أن تذهب إلى خيار كهذا وتفنى، أو أن تسير حركة التاريخ كما يجب، ويتم تدمير الإمبراطورية الأميركية وننتقل إلى نظام جديد، اشتراكي بالضرورة.
هل هذا ممكن؟ تعالوا لننظر إلى أقصى شرق هذه الكرة الأرضية، هناك بعض «الحالمين» يقاتلون منذ مئة عام من أجل بناء نظام اشتراكي في بلادهم الشاسعة، ويدّعون أنه بحلول عام 2050 سيتمكّنون من تحقيق هذا الحلم. هناك في الصين يقولون إن المستقبل للاشتراكية، ولا خلاص للبشرية إلا من خلالها، وأن الانتقال إلى عالم أفضل هو مسألة وقت وتضحيات. يا عزيزي، لطالما أشرقت الشمس من هناك.

* باحث لبناني