حبَكت فكرة الانتخابات المبكرة، في 10 تشرين الأول 2021، مدخلاً لرسم المخططات الموضوعة من قبل الدول والقوى المحتلة والمعادية للمصالح الوطنية العراقية، وأبرَزت خطوات أخرى لها، مؤكدة على ما أُريدَ أن يكون عليه المشهد السياسي. فقد نجحَت تلك الدول وسفاراتها في صناعة الحدث العراقي، من خلال تقسيم العراق إلى مكوّنات، بحسب خططها، على أسس طائفية مذهبية وإثنية وقومية، والعمل على إلغاء الهوية الوطنية للشعب العراقي، ومنعه من أي تقدّم وتطوّر في أغلب المجالات الحيوية لعمرانه. أصبح الشعب في العراق مكوّناً من السنة والشيعة والكرد، وأكثر من نصفه تحت خط الفقر، والتفاوت الطبقي والاجتماعي فيه صارخاً. وهذا المخطط لم يقدّم للمشروع المطلوب نهاياته، رغم نجاحه ودسترته وتكريسه لعقد ونصف من الزمن، وجاء بعده استكمالاً لما سبق بصناعة تقسيم هذه المكونات التي اقتنع زعماؤها بها والتواطؤ في ما بينها، وتمرير اختراقات داخلية وانشطارات عمودية وأفقية، وهذا ما أصبحت عليه الحال، وربما إلى حين.بعد إعلان نتائج الانتخابات المبكرة توضّحت نتائج المخططات علناً في المشهد السياسي. صار الحديث عنها مؤشراً لها. لم يعد القول بالتزوير والتدخل والتصريح بأهدافها سرّياً أو تحت الطاولة، بل علنياً من داخلها ومن المشتركين فيها، أفراداً أو أحزاباً اقتربت من رقم المائتين، أو كتلاً وتحالفات تجاوزت الثلاثين.
أعطيت للقضاء وسائل لإخراجها من الانسداد أو الصدام المبكر، ووضعها أمام صراعات مفتوحة. يظهر ذلك في المعطيات المنشورة من أطراف رسمية، سواء من مفوضية الانتخابات أو الأحزاب السياسية، رغم تقديم الطعون والاعتراضات والشكاوى إلى المحكمة الاتحادية التي قال نواب عنها بأن قراراتها ليست كلها مهنيّة بل كانت منفعلة سياسياً. هذا بجانب ما أذيع من أرقام عن البطاقات الانتخابية المبعدة عن التصويت، وما انتشر من آراء في عمليات وأجهزة التصويت وإمكانات التلاعب فيها رقمياً، والمال السياسي، والخريطة السياسية المنظمة أو المطلوبة. ومعها أرقام عن عدد المصوّتين فعلياً ونسبتها من أعداد الذين يحق لهم المشاركة قانونياً. وبالتأكيد لم يخل الأمر من تناقضات ومحاولات تضليل؛ بين ما تصرّح به المفوضية للانتخابات ومراجعها أو بين وقائع الحال وأقوال من قام بالمشاركة واهتماماته بها.
ولهذا، لم تخرج النتائج في اليوم نفسه أو الذي يليه. وسمحت الفترة الطويلة نسبياً للتساؤل وللتدخلات الخارجية في إدارة إجراءات الانتخابات، بالرغم من أنها، إعلامياً، ومن الأطراف المعنية بنتائجها، وصفت بأنها نزيهة وتمّت بسلاسة وهدوء سلمي! وهذا الأمر أثار ويثير أسئلة مقلقة ويبعث على القلق من العواقب وما تنتهي إليه مساراتها الختامية.
أعطت الجلسة الأولى للبرلمان روتوشاً للصورة المنتظرة، مع تدخلات واضحة وصناعة لبيئة مناسبة لإقرار ما هو مطلوب؛ انتخاب أو إعادة تنصيب رئيس البرلمان ونائبيه، على الأسس الطائفية المتبعة عرفاً، رغم أن القوى السياسية تزعم أنها لا تتحدّث بعد عن المحاصصة وتسعى للتغيير أو الإصلاح بالشكل الصارخ، ما يعني أنها أسس لا تتمكّن كل القوى المشتركة في العملية السياسية، برغم كل تصريحاتها المتناقضة، من التهرّب عملياً منها. وتبعت الجلسة مسرحية تحت اسم النظر في شرعيّتها من قبل المحكمة العليا التي أعادت إخراجها، بالتأجيل أوّلاً، والإقرار بالصيغ المكلفة بها أخيراً، وهو ما يتكرّر مع كل طلب أو شكوى. لا تنفع، سواء المحكمة أو البرلمان، الطعونُ والأدلة الثبوتية والشهادات بالحق والعدل، وبالتأكيد الدستور وما صاحبه من قوانين داخلية. فالخروقات تحوّلت إلى سمة أو عرف عراقي أيضاً.
وفق ترتيبات المدد الدستورية والقانونية للدورة الجديدة، بعد انتهاء الجلسة الأولى من تثبيت رئيس البرلمان ونائبيه، تحدّد مدة قانونية لانتخاب رئيس للجمهورية، بثلثي عدد النواب، ويكون من المكوّن الكردي، من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بحسب الفترة السابقة. فترة، على ما يبدو، لا يراد لها أن تتكرّر هذه المرّة، إذ حصلت منافسات كيدية؛ بالإصرار على تغيير المعادلة وترشيح مرشّح من الحزب الديموقراطي الكردستاني، مع تهديدات علنية بخلخلة التفاهمات والخروج بتجديد خطط الاستحواذ على محافظة كركوك، والتوسّع لأبعد منها، وتصعيد الصراع بين الحزبين الكرديين الرئيسين حول المنصب الرئاسي أو إعادة اشتراطات تقسيم منافع ومناصب أخرى بين الإقليم والمركز، رغم المواقف والتعامل مع الدولة المركزية، بما هو معلوم من أعمال وتصريحات مسؤوليه.
بعد إعلان نتائج الانتخابات المبكرة توضّحت نتائج المخططات علناً في المشهد السياسي


استمرار الخلافات بين القوى السياسية من كل المكونات المشتركة في العملية السياسية له انعكاساته على المشهد والمصالح الوطنية، وهو ما يجعل من التباينات والانقسامات حالة مسيطرة وواقعاً مقلقاً ومأزوماً. وقد يأخذ زمناً طويلاً يسمح للضغوط الخارجية بالتدخّل لفرض مسارات أخرى أو تنفيذ المخططات المبيّتة وصناعة الأزمات والصراعات الداخلية والبينيّة، التي بدأت إرهاصات منها عملياً بالاغتيالات والتغريدات المعبّرة عن ضياع البوصلة والتماهي مع الخريطة المرسومة للعراق والمنطقة. كما أن التوجّهات المطروحة والمصطلحات الخلابة لا تعدو عن ألفاظ لا تبتعد عن وقائع الحال، من تكريس المحاصصة والخلافات وتضييع الفرص الواقعية للإصلاح والتغيير، والتوضيح بغياب ثقافة الديموقراطية واستقلال السلطات وحقوق الإنسان واحترام خيارات الشعب وثرواته.
اختصر المشهد السياسي في العراق منذ 2003 على مشاريع داخلية مكتسبة متوافقة مع مخططات خارجية مستهدفة، يلعب فيها عملياً مَن تخادم مع أصحابها أو راهن عليهم فيها أو يمارس ما يخدمها بوعي أو جهل، ولكن النتائج محسومة، أو متوازية في إبقاء المشهد مراوحاً مكانه من دون تغيير فعلي أو خاضعاً لإرادات تعمل على إبقائه مفككاً أو يعيش فوضى الفراغات والخروقات والصراعات.
لهذا يحافظ الفاعلون السياسيون في العملية السياسية الجارية على وجودهم العملي بكل جهودهم وحساباتهم الأنانية والذاتية، رغم الاعتراف أحياناً بما ارتكبوا من أخطاء وخطايا ولكنهم يصرّون على الاستمرار في الواجهة السياسية والعمل على إبعاد محاسبة الفاسدين منهم وما يتبعهم من المافيات ومنع أي عملية تغيير شاملة وفق برامج عمل ومشاريع بناء ومؤسسات تضع البلاد على سكة الدولة المدنية، الديموقراطية، الجديرة باسمها وعنوانها.
في الخلاصة، لا تغيير حقيقياً ولا إصلاح منتظراً من دون إرادة وطنية وإخلاص جاد. ومن دون ذلك قد ينزلق الوضع إلى منزلقات وأزمات أخرى تعيد كوارث سنوات سوداء في تاريخ العراق المعاصر. ولا بد من التوقّف عند متغيّرات الواقع اليومي والتحلّي بالشفافية في تناول وقائع الحياة الحافلة بالمؤثرات الخارجية والداخلية، الإقليمية والعالمية، وتنظيم سبل التنمية والاستثمار بالطاقات والكفاءات والثروات وتقدير عمرانها، والانطلاق إلى مستقبل واعد لشعب سعيد، ضحّى كثيراً وبذل الجهود والإمكانات. صور الخلاف بين القوى الوطنية وقوى الدول وحلفائها المتربّصين للهيمنة على العراق وعلى تنفيذ مخطّطاتهم ومشاريعهم التي قد تكون الآن معلومة ومكشوفة، تكشف الفرق الواضح، وتؤشّر إلى ضرورة الوعي بها والعمل على تغييرها بما يخدم المصالح الوطنية ويعزّز من بناء الدولة الوطنية المدنية. ولعل ما أشير له يقع في البدايات وما تؤول إليه الأمور يظهر جلياً في مسار الأيام المقبلة. حيث لا بد من تغيير خطوات المشهد السياسي من دون انتظار أو مراوغة أو تضييع الفرص الممكنة اليوم قبل الغد.

* كاتب عراقي