في مناورات السلاح والديبلوماسية، بالحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا والاتصالات الديبلوماسية التي لا تتوقّف خشية الانجراف إلى حرب لن يربحها أحد، تبدّت حسابات قوة جديدة في عالم يختلف عمّا عهدناه منذ الحرب العالمية الثانية.كان مثيراً استدعاء أجواء تلك الحرب، كأنّ التاريخ يُعيد نفسه، فيما هو يطوي صفحة إرثها، أو يكاد. هناك من استنتج من حركة الحوادث أنّه يشتم رائحة الأجواء، التي استبقت الحرب العالمية الثانية، حين فشلت خطة رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، نيفيل تشامبرلين، في احتواء الزعيم النازي أدولف هتلر في منع الانزلاق إلى الحرب.
ذلك الاستنتاج، الذي أطلقه وزير الدفاع البريطاني بن والاس، فيه استدعاء للحرب واندفاع إليها لترهيب الزعيم الروسي فلاديمير بوتين، الذي أكّدت تصريحاته المتكرّرة عدم نيّته غزو أوكرانيا دون أن توقف الهستيريا السياسية والإعلامية الغربية.
أطلّت عقدة تشامبرلين على الخطاب البريطاني، كأننا أمام تاريخ يُعيد إنتاج نفسه بوجوه جديدة. كانت تلك المقاربة تعسّفاً مع التاريخ، فبوتين ليس هتلر والعالم غير العالم، فإذا ما اندلعت المواجهات العسكرية وفشلت الأطراف المتصادمة في وضع سقف لها فإنّ الكوكب كلّه سوف يدمّر بمخزون السلاح النووي.
وهناك من استنتج أنّنا أمام تجلٍّ جديد للحرب الباردة بأجوائها وأزماتها، يكاد يشبه انقسام النظام العالمي بين معسكرين كبيرين، أحدهما بقيادة الولايات المتحدة والآخر بقيادة روسيا وريث الاتحاد السوفياتي السابق. الانقسام حادث، لكنه يختلف تماماً عن أحوال الحرب الباردة، لا أميركا تمتلك مقوّمات القوّة العظمى على النحو الذي كانت عليه، ولا روسيا تقارب الاتحاد السوفاتي في مستويات القوّة والنفوذ والتأثير.
التحالف الغربي متصدّع، وهو يستثمر في المخاوف الأمنية الأوروبية لإعادة شيء من التماسك والتوحّد خلف القيادة الأميركية وفي صفوف حلف «الناتو» ذراعه العسكري. بدورها، تستعرض روسيا عضلاتها العسكرية بالقرب من حدودها الأوكرانية دون أن يكون من أهدافها طلب الحرب على نطاق واسع ومدمّر. الحرب تؤذيها اقتصادياً واستراتيجياً فيما هي تطلب التمركز في معادلات القوّة والنفوذ في نظام عالمي جديد يوشك أن يولد. الثابت الوحيد في المشهد المتغيّر حلف «الناتو» نفسه، فقد أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية بمقابل «حلف وارسو» الذي تفكّك بالكامل إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق والمنظومة الاشتراكية التي كانت تعمل تحت قيادته. طوال سنوات الحرب الباردة تواجه «الحلفان العسكريان» دون أن يتصادما بأثر التوازن النووي.
عندما انتهت تلك الحرب وانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي سادت أطروحات الانتصار النهائي لليبرالية الغربية، كأنها «نهاية التاريخ» وسادت بالوقت نفسه تساؤلات عن جدوى بقاء «حلف الناتو». بدأ البحث عن عدو جديد يبرر استعراضات القوة دفاعاً عن المصالح الأميركية والأوروبية. في البداية استقر الخيار على الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي روّعت ضرباتها الإرهابية العواصم الغربية قبل أن يتأكد عند إسقاط برجَي التجارة العالمي بنيويورك في حادث الحادي عشر من سيبتمبر. جرى توظيف الحادث المروّع لغزو أفغانستان والعراق على التوالي والعمل على بناء شرق أوسط جديد تتمركز في قيادته إسرائيل.
جرى تحطيم البلدين الإسلاميّين دون أن تتولّد هيبة أميركية وغربية، أو تتأكد قيادة مقنعة.
جرت مراجعات وإدانات للتجاوزات البشعة التي جرت. في الحصاد الأخير كان الفشل ذريعاً في رحلة «البحث عن عدو».
حين نشأ مشروع تحالف صيني روسي، طرفه الأوّل يعتمد على قوّته وموارده الاقتصادية التي تكاد تضعه على القمّة الاقتصادية العالمية، وطرفه الثاني لديه فائض قوة عسكرية وديناميكية في إدارة سياسته الخارجية، بدا العدو ظاهراً ومعلناً. فيما العالم يمرّ بمخاض ميلاد نظام عالمي جديد، أرادت موسكو بالحشد العسكري على حدودها مع أوكرانيا أن تؤكّد حضورها في الحسابات الدولية، أنها دولة كبرى رأسها برأس الولايات المتحدة، ومحيطها الأمني الاستراتيجي في أوكرانيا وبقية دول الاتحاد السوفياتي السابق لن تتهاون بشأنه، أو تسمح أن يتمركز «حلف الناتو» على حدودها. كانت تلك حسابات استراتيجية وأمنية، لكنها لم تكن كل الحسابات. هي تطلب النفوذ لا الحرب، وإذا ما دخلت حرباً فلا بد أن تتّسق الحسابات مع مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، دون أن تتكبّد خسائر باهظة، أو غير محتملة. إنها أوضاع جديدة ومختلفة، لا هي حرب عالمية ثالثة مكلفة ومدمرة، ولا هي إعادة إنتاج لحرب باردة تقوّضت ركائزها بالكامل تقريباً.
مشكلة الطرف الغربي في الصراع على أوكرانيا أنه مضى بعيداً في التصعيد الكلامي دون أن تكون الأرض ثابتة تحت أقدامه.
هناك ــ أوّلاً ــ أزمة أميركية داخلية مستحكمة ديموقراطياً وعرقياً.
لم تعد الولايات المتحدة ملهمة لأحد خارجها، إلهام النموذج من صفات الدول الكبرى، التي تتطلع لقيادة العالم.
هناك -ثانياً- أزمة أخرى عميقة ومتراكمة في إدارة سياستها الخارجية.
فيما هو معلن أنها بصدد الانسحاب من الشرق الأوسط وصداعه لتركيز الحضور في شرق آسيا حيث الصراع مع الصين على المستقبل، لكنها قد لا تستطيع المضي بعيداً في هذا الخيار الاستراتيجي، فلا بوسعها أن تخلي الشرق الأوسط وأفريقيا، للتحالف بين الصين خصمها الاقتصادي وروسيا خصمها التاريخي، ولا بمقدورها الاقتراب أكثر من اللازم من التنّين الصيني.
الأسوأ أنه لا توجد نظرة مشتركة لكيفية مواجهة الصين، وسائلها وحدودها، وقد كانت أزمة الغواصات الفرنسية كاشفة لمدى التصدّع في البنيان الغربي.
وقد ألقى الفشل الذريع الذي لحق إدارة جو بايدن من الانسحاب العشوائي المهين من أفغانستان بأثقال إضافية على إدارة السياسة الخارجية في أزمتَي أوكرانيا والمشروع النووي الإيراني خشية أن يلحق بحزبه هزيمة فادحة في الانتخابات النيابية المقبلة.
وهناك -ثالثاً- شروخ عميقة بين الحلفاء الغربيّين في تعريف الأمن الأوروبي، وتوزيع أعباء حلف «الناتو»، وطريقة اتخاذ القرار، وإذا ما كانت أوروبا في حاجة إلى منظومة أمنية جديدة تطوي صفحة ذلك الحلف.
في لحظة تحوّل حرجة في النظام العالمي تبدو الأزمة الأوكرانية أقرب إلى «بروفة أخيرة» للحقائق الجديدة التي تطل على العالم. طُرحت سيناريوات عديدة للحرب والتسوية، ووصلت هواجس الحرب إلى حد تورّط الرئيس الأميركي نفسه في توقع يوم اندلاع النيران! في مناورات الديبلوماسية والسلاح كسبت روسيا، أو تكاد، جولة أوكرانيا بالنقاط، حشدت 130 ألف جندي قبل أن تسحب في لحظة ذروة الأزمة بعض قواتها، اشتعلت الأعصاب في لحظة قبل أن تهدأ في لحظة أخرى.
لم يشبه الوضع هذه المرة ما جرى عام 2014 عندما غزت القوات الروسية شبه جزيرة القرم وأعادتها مرة أخرى لوطنها الأم، فهي روسية لا أوكرانية منحت لكييف عندما كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي. وكان لافتاً أن موسكو عوّلت على المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز في التهدئة، ولم تمنح الجائزة نفسها إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. هذه حسابات سياسية واقتصادية لما بعد الأزمة.
هكذا فإن صدام الإرادات يتجاوز أوكرانيا إلى مستقبل القوة الأميركية وطبيعة توازنات النظام العالمي الجديد الذي يكاد أن يولد.

* كاتب وصحافي مصري