لا يمكن لرأس المال البقاء ضمن حدوده القومية. وعملية خروجه من دول المنشأ -أوروبا الغربية- باحثاً عن مجالات وأسواق جديدة هي عملية قديمة قدم الرأسمالية. وعملية الانتشار هذه، التي حملها المدفع والتجارة والتغيير الديموغرافي، وحّدت القارّات تحت نمط الإنتاج الرأسمالي وعزّزت التراكم لمصلحة مركز هذا النظام في أوروبا الغربية. ومنذ البداية، كانت عملية تحطيم أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية في المستعمرات (كخطوة لا بدّ منها للتقدّم الاجتماعي، إذا ما اتفقنا أن الرأسمالية خطوة متقدّمة في التاريخ الإنساني) مترافقة مع حشرها في درجة معيّنة من سلّم التقسيم الدولي للعمل، يعيق تطوّرها اللاحق بشكل جذري، ويجعلها مجرّد ملحق بالتّراكم الرأسمالي لمصلحة المركز. لذا فإنّ أيّ استثمار في الأطراف، لا بدّ أن يحقّق هذا الشرط؛ إعادة إنتاج المنظومة وتعزيز التراكم في المركز، سواء كان هذا الاستثمار في التصنيع، أو في الزراعة، أو في الديون والحرب والعسكرة. هذه المقدّمة لا بد منها من أجل التفريق بين أنواع الاستثمار الخارجي الذي تتبعه الدول. فللصين استثماراتها، (كما كان للاتحاد السوفياتي في السابق أثره الاستثماري على العالم الثالث) ولأميركا وأوروبا كذلك.
إضاءة برج آزادي في طهران العام الماضي تضامناً مع مدينة ووهان الصينية إثر انتشار جائحة «كورونا» (إيسنا)

الاستثمارات الصينية خارج الصين
تختلف، كثيراً، طبيعة الاستثمارات الصينية حول العالم. وهي غير أنها ازدادت بشكل ملحوظ بعد الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق عام 2012، ركّزت على البنية التحتية والإنشاءات العملاقة وغيرها من مشاريع الطاقة والنقل، وهو ما تتطلّبه طبيعة تلك المبادرة العالمية التي تشمل مختلف قارات العالم. وهي تعتمد على الاستثمار المباشر الأساسي في تلك الدول المهجورة من الاستثمارات التنموية أو التي هي موضوع مباشر للتدخلات الغربية سواءً عبر القروض وعبر إخضاعها المكثف للسياسات النيوليبرالية، كما في مصر وشمال أفريقيا ودول أفريقيا جنوب الصحراء، وإلى حد كبير في باكستان ومناطق أخرى في جنوب شرقي آسيا. وتعتمد في أماكن أخرى من أوروبا على استئجار الموانئ والاستثمارات الصناعية والمالية والعقارية وغيرها. في دول الخليج مثلاً يغلب عليها الطابع العقاري الخدمي والمالي التجاري، إضافة إلى مشاريع الطاقة.
كما أن الاستثمارات الصينية في الدول الغربية والدول الدائرة في فلكها ليست أقل من باقي المناطق والدول أو تلك المصنّفة خارج أو على مسافة من المحور الغربي. إن القيمة الكبرى للاستثمارات الصينية تركّزت في الخليج، وهي تفوق الاستثمار في باكستان التي تُعتبر أكبر مركز لاستثمار مشروع طريق الحرير حتى الآن، كما تقارب الاستثمار الصيني في كل من ألمانيا وفرنسا مجتمعتين. إضافة إلى الحجم الهائل للاستثمار في الولايات المتحدة وبمختلف القطاعات. في كل منطقة من العالم حيث تستثمر الصين، هناك اعتبارات عديدة يُمليها التخطيط الاستراتيجي للدولة الصينية في إطار ثنائية الصراع/الاعتماد القائمة مع الغرب، والتي يحاول الغرب من خلالها عرقلة النمو الصيني عند الحد الذي تتحدّى فيه الصين الهيمنة الغربية العالمية. ضروري هنا أن نشير إلى أن الاكتفاء بالاعتماد على المقارنة الكمية لحجم الاستثمارات الصينية حول العالم، من دون النظر إلى طبيعة الاستثمارات على الأرض، وهدفها الاستراتيجي السياسي، وسياقها في ظل صراع القوى الغربية الحالي مع الصين، وفي ظل علاقات رأس المال المهيمنة لمصلحة تراكم رأس المال الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، سيجعل رأس المال الصيني يبدو وكأنه مجرد ملحق للتراكم العالمي، يستهدف في الغالب مناطق الربح الأعلى والأكثر ضماناً وأمناً.

اتفاقية الشراكة الصينية الإيرانية
لقد لاقى خبر الاتفاقية منذ تسريبه في حزيران 2020 حتى التوقيع عليها في آذار 2021 الكثير من التحليلات وردود الفعل عبر العالم، بالرغم من عدم إعلان رسمي حتى الآن عن تفاصيل الاتفاق من قبل الدولتين. تفاوتت الردود بين التضخيم وبين التشكيك، تبعاً للتوظيف السياسي وارتباط الموضوع بمفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، الذي هو موضوع الساعة الأكثر سخونة. ينظر الكاتب وانغ شيو إلى الاتفاقية بمنظور كمّي وبراغماتي ضيق، ويستبعد في مقاله المنشور في «فورن بوليسي» والمترجم من موقع جادة إيران، يستبعد أن تقوم الصين بإغضاب أميركا لمصلحة إيران، مستشهداً بانسحاب الشركات الصينية من إيران بعد فرض العقوبات المشدّدة من قبل إدارة ترامب عام 2018. ويقارب الاتفاقية -إذا ما تمّت- بالنشاط الصيني التجاري في المنطقة بحيث لا تختلف بشيء عن التعاون الاقتصادي التجاري بين الصين ودول الخليج لا بل تقلّ كماً. ويقول إن إيران بالنسبة إلى الصين ليست سوى بيدق في اللعبة الاستراتيجية الكبرى بين الصين والولايات المتحدة. هنا أيضاً، يغيب مفهوم الاستثمار السياسي الاستراتيجي لمصلحة مقولات مسطّحة قائمة على الربح الاقتصادي المباشر، أو الخسارة المحتملة المنزوعة السياق.
فيما الدمار يضرب العالم الثالث لضرورات التراكم الرأسمالي، تعكس المظلة الصينية مسار الحرب، وفعّاليتها المرتبطة بمدى انخراط دول الأطراف، ومنها الجمهورية الإسلاميّة في إيران


عكس مسار الحرب
في كتابه تفكيك الاشتراكية العربية (الصادر عام 2016) يرى علي القادري أنه بالرغم من أن إيران هي المرشّحة القادمة كهدف للتفكيك بفعل الحرب الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، إلا أن رؤية 2030 النيوليبرالية في السعودية قد تساهم في إسقاط المملكة أوّلاً. مبعث هذا الرأي أن الصراع في هذه المنطقة الحساسة من العالم، وفي ظل الاكتفاء الذاتي النسبي للولايات المتحدة الأميركية بعد استثمارات النفط الصخري، والاعتماد الكبير للصين على نفط الخليج، سوف يعيد خلط الأوراق وتركيب مراكز القوة لمصلحة رأس المال الذي تقوده أميركا. فبحسب هذه المعطيات قد تخرج السعودية من كونها مرتكزاً استراتيجياً للسياسات الأميركية كمصدر خامات رئيسي مقيمة بالدولار ومورداً لإعادة تدوير أرباح البترودولار، إلى مرتع لأمر آخر لا يقل أهمية، وهو الحرب الإمبريالية وتفجير الصراعات المذهبية، وبذلك تغدو المنطقة هذه كغيرها من مناطق المشرق العربي، مكاناً يعزّز التراكم بالحرب والعسكرة. وتكون المكاسب الاستراتيجية عن طريق إعادة تركيب موازين القوى بشكل يؤثر على الدولة الصاعدة المنافسة وهي الصين.
من يتتبّع تاريخ إيران الحديث عموماً، وبشكل خاص بعد الثورة، يجد أن فترات الاستقرار خارج فترات الحرب الفعلية أو التهديد بالحرب، والعقوبات والحصار، قليلة. لذلك، فإن ما يقوله القادري عن البلدان العربية، ينطبق على إيران، عندما يتحدث أن حالة عدم اليقين، والحضور الدائم لاحتمال الحرب وانهيار الدول انهياراً تامّاً وتدمير موجوداتها، كل هذا يمحو المستقبل الذي هو ضروري لوضع استراتيجية صناعية في القطاع الخاص. إذاً فالتخطيط البعيد المدى في سياسة التنمية لا يمكن أن يحدث إلا في دورة اقتصادية مؤمّمة. ورأس المال الخاص ينزع إلى الاستثمارات القصيرة الأجل، بما يضمن له ربحاً سريعاً ومخاطر أقل، لذا ينشط في دائرة التبادل والتجارة والعقارات والأنشطة غير الإنتاجية مع إمكانية دولرة أرباحه وتسريبها إلى الخارج.
في جو الحرب المخيّم هذا، كشرط عالمي مهيمن، تأتي الاتفاقية الصينية-الإيرانية، وما يرافقها من نشاط صيني داعم لإيران في مفاوضاتها النووية الحالية. يأتي كتباشير لعكس هذا المسار الجهنمي الذي بدا لوهلة إجباريّاً. عندما يستثمر رأس المال الصيني في إيران -والمنطقة إلى حد ما- فهو يأخذ في الاعتبار احتمال الحرب القائم بكل جدية، لذا فقد ينخرط، أمنيّاً، على مختلف المستويات، سيبرانيّاً واستخباريّاً، وربما عسكريّاً، لإعاقة هذا الميل النابع من الشرط العالمي. إضافة إلى أن انخراطه الاستثماري الاقتصادي في الأساس يعزّز الأمن الاجتماعي للبلدان المعنية. وفي إيران يعزّز هذا الاستثمار الاستقلال الاقتصادي والسياسي، ويعمّق الميول المضادّة للهيمنة الأميركية. كما أن المزيد من التنمية في الإنتاج الحقيقي يعني المزيد من فرص العمل ومن تكامل دورة الإنتاج الداخلية وبالتالي مشاركة أكبر بالثروة والدخل من قبل القطاعات الشعبية. لا شك أن في إيران من يراهن على أن الاتفاقية ليست سوى عامل ضغط ومساومة لتليين الموقف الأميركي وكسب أكبر في المفاوضات الجارية حول الاتفاق. ولا شك أن قسماً غير قليل من البرجوازية الإيرانية ذو ميل غربي متأصّل ويعاني من إدمان حقيقي على النظرة الاقتصادية والسياسية (الأميركية) السائدة، مهما كان الثمن. ولكن هنالك من لديه رهان استراتيجي على خط طريق جديد بعيد عن هيمنة رأس المال الغربي بقيادة أميركا، وهو مقتنع بأن الهدف النهائي للقوى الواقفة خلفه ليس سوى التدمير والخراب وأقصى درجات النهب.

أشكال الاستثمار السياسي
كوريا الجنوبية وتايوان وهون كونغ -قبل أن تستعيدها الصين عام 1997- وهي دول ومناطق حكم تنتمي إلى مجموعة النمور الآسيوية، تمّ الاستثمار المكثّف فيها، وتهيئة الظروف المناسبة لتطوير برامج التصنيع لديها، والسماح بنقل التكنولوجيات الغربية المتطورة إليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية، لسبب سياسي رئيسي مباشر واستراتيجي، وهو بناء طوق حول الصين مؤلف من دول حليفة للغرب ومتطورة صناعياً، تعمل كقواعد عسكرية أميركية لمحاصرة الصين. يتقدّم هنا الشرط الدولي والعامل السياسي الخارجي بأشواط على العوامل الداخلية ومقدار كفاءة نخب هذه الدول وتبنيها للسياسات «الصحيحة»، كما يروّج في الإعلام السائد. نجاح هذه الدول هو نجاح الرأسمالية في الهيمنة العالمية وإزاحة خصمها الإيديولوجي، وهو انتصار الولايات المتحدة في معركة اختراق وتفكيك الدول خارج المنظومة أو من تملك قدراً من الاستقلال. هو الاستثمار السياسي المكثّف والقصدي لدول بعينها، ذات موقع ودور معين مرسوم في صدّ وتحجيم ومحاصرة خصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين وفي مقدمتهم الصين الشعبية.
من ناحية أخرى، وكشكل آخر للاستثمار السياسي، كان الاستثمار السوفياتي في مصر الناصرية في الستينيات يهدف إلى موازنة النفوذ الأميركي والغربي ودعم حركات التحرر في العالم الثالث في المواجهة الشرسة مع الإمبريالية. وليس لأرباح مالية مباشرة كان يمكن أن يحققها الاتحاد السوفياتي في التجارة مع مصر مثلاً. كما أن الاستثمار المطروح والممكن للصين في إيران، هو استثمار سياسي لا يهدف إلى الربح المالي الكمي والتجاري السريع والمباشر، بالدرجة الأولى، ولا حتى كما ذكر الكثير من المحللين، كدافع رئيسي وحيد، مخزون إيران الضخم من النفط والغاز. بل إنه يهدف لإعادة رسم موازين القوى في العالم عبر عكس مسار الحرب التي تغرق فيه المنطقة، والذي هو، أي مسار الحرب، الأداة الرئيسية في يد الإمبريالية للحفاظ على موازين القوى في العالم لمصلحتها.
وفيما العالم الثالث يعجّ بالحرب والدمار لنفس ضرورات التراكم الرأسمالي السابق ذكرها، تمدّ المظلة الصينية عبر مشاريعها الضخمة في محاولة لعكس مسار الحرب. وهو ما سنشهد مدى فعّاليتها فيه ومدى جدية وفعالية انخراط دول الأطراف، ومنها الدولة الإيرانية. إن حركة تقدم الصين، كما كتب الدكتور نايف سلوم على هذه الصفحات، يمكن أن تعطي البلدان المتخلّفة قوى الدفع لطاقات نموها في هذه الحقبة، وبخاصة أنها جميعها تقريباً تملك اقتصادات بطيئة النمو وزيادة سكانية سريعة، ونضيف إلى ما سبق تقع تحت تهديد فعلي بالحرب زيادة على الإلحاق والهيمنة.

* باحث سوري