في ضوء هذا المتغيّر استغل السّاسة والدول وصنّاع القرار في العالم هذه الوسائط لتحقيق أهدافها السياسية والدعائية وعلى رأسهم الكيان الصهيوني لاستكمال دعايته في الترويج لنفسه عالمياً بهدف التطبيع وكسب الرأي العام العالمي وتثبيت احتلال فلسطين من خلال غسل العقول وتمييع العداء للصهاينة. هذه الساحة الافتراضية خلقت ساحة حرب جديدة بأدوات ناعمة بين الفلسطيني والصهيوني بعدما كان يقتصر الاشتباك الفلسطيني مع الصهاينة بالنار والاشتباكات المسلحة، طوّر فيها الصهيوني من أدواته وأساليبه مستفيداً من تطوره التكنولوجي وتأثيره على سياسات وإدارات وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ودراساته المعمّقة ووحداته المتخصّصة بالحرب الثقافية والإعلامية. وكان الكيان الصهيوني سبّاقاً في هذا المضمار لما يوليه من أهمية بالغة للحرب الإعلامية والدعائية، فتاريخياً ومنذ ما قبل تأسيس الكيان أعطت الحركة الصهيونية جهداً ملحوظاً وأهمية بالغة لمنظمات الضغط والدعاية السياسية، إذ اعتبر منظّرو وقادة الحركة الصهيونية الإعلام ركيزة أساسية في مشروعهم منذ اللحظة الأولى، ومما يدلّل على ذلك أنه كان من توصيات المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897 تأسيس مجلة عرفت لاحقاً باسم «دا فيلت»، ولطالما عبر هيرتزل مؤسس الصهيونية عن أهمية الإعلام وضرورة امتلاكه. ودور الإعلام لا يخفى على أحد في تحقيق حلم الصهاينة بإنشاء «وطن قومي» واحتلال فلسطين، إذ يقول ياهو شافيط هار كابي مستشار الأمن القومي لرئيس حكومة الصهاينة في السبعينيات «لقد كان الروّاد يعطون أهمية مضافة للإعلام ووسائل الاتصال، باعتبارها المرتكزات والمداميك للمشروع الصهيوني، ولهذا ما زلنا نعمل بوسائل إعلامنا الكفوءة والمرتكزة على إيديولوجيتنا للتأثير في الرأي العام وعرض قضيتنا العادلة على العالم».
أما ديفيد بن غوريون أول رئيس حكومة للعدو، فشدّد على أهمية الإعلام في تحقيق سياسات الصهاينة وأهداف الصهيونية العالمية وقيام الكيان وتأسيسه إذ يقول «لقد أقام الإعلام دولتنا على الخريطة واستطاع أن يتحرك للحصول على مشروعيتها الدولية، وتكريس جدارة وجودها، قبل أن تصبح حقيقة واقعة على الأرض». وكان يؤمن بأن وظيفة الإعلام الإسرائيلي الأساسية هو الدفاع عن المشروع الصهيوني، ولعلّ هذا ما دفعه لاحقاً إلى تأسيس ما يسمى «هيئة رؤساء تحرير الصحف» التي ضمّت كافة رؤساء الصحف المستقلة والحزبية آنذاك، وكانت إحدى أهم أذرع «الموساد» واستخبارات العدوّ.
تعتبر البروباغندا الصهيونية من أقوى الدعايات الإعلامية والسياسية التي تقوم بأكبر عملية تشويه للحقائق وتغيير للمفاهيم وتبرير للجريمة وغسل الأدمغة على صعيد العالم، يساعدها في ذلك امتلاك الصهاينة النفوذ السياسي والأمني والإمكانات الاقتصادية والمالية الهائلة، إضافة إلى مراكز الدراسات والوحدات المتخصصة في كيفية مخاطبة العقل الغربي والعربي، والرأي العالمي لصالح قضيتهم التي عملوا من أجلها، ألا وهي تهويد فلسطين وتغيير معالمها. استخدم الصهاينة الدعاية الموجهة نحو العرب والفلسطينيين منذ ما قبل النكبة، وكانت تعتمد بشكل أساسي على بث الرعب والخوف في نفوس الفلسطينيين والعرب وتظهير الكيان بقدرات خارقة: «الجيش الذي لا يُقهر»، هذه الدعاية اختلفت مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي حيث تركزت الدعاية الصهيونية على الحرب الناعمة في غسل الأدمغة والاحتلال الثقافي والتطبيع قبل الاحتلال العسكري في سبيل قلب الحقائق وتشويه المفاهيم ومداعبة مشاعر الناس وغرائزهم وربط حاجات الناس والرخاء الاقتصادي بوجود «إسرائيل».

والدعاية الصهيونية أمر بالغ الأهمية والتعقيد لحكومة العدو حيث تعمل الدعاية الصهيونية بطريقة مركزية من خلال جهاز ضخم يضم الخبراء المختصين الذين يضعون الاستراتيجية العامة والشاملة للبروباغندا ثم يرسمون خططها المرحلية وفق مقتضيات مصالح الكيان ومرحلة الصراع وسياق الأحداث، ويوظّف الصهاينة لهذا الغرض مختصين متعدّدين حسب حاجة الأفكار أو التكتيكات أو الظرف من حيث المؤهلات والخبرات الشخصية. تعتمد عملية التخطيط الدعائي الصهيونية على التكثيف والتركيز على نقطة محددة في الوقت المناسب مع تهيئة الجو وعوامل القبول والتصديق بمرونة عالية من خلال تعاملها مع الواقع وأسلوب المرحلة حيث لكل ظرف ولكل مرحلة أسلوبها ومرتكزاتها وأهدافها بطريقة هجومية تكاملية بمنطق مزدوج وعلى اتجاهين إيجابي بما يخص خيارات الصهاينة وأهدافهم ومنطق سلبي هجومي على أفكار الفلسطيني والمقاومة.

وفي زمن السوشال ميديا والإعلام الرقمي ركّز الصهاينة جهدهم عليها لناحية جمع المعلومات الأمنية وكوسيلة ناجعة في الدعاية الصهيونية فقد بدأ المتحدثون الرسميون في الحكومة والجيش الصهيوني في استقطاب ملايين المتابعين لحساباتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال إتقانهم اللغة العربية واستغلال ذلك في التعامل مع الإعلام العربي أو الموجه للعرب، ومهمتهم الأساسية تشريع وشرح السياسات الإسرائيلية وبث روح الانهزام في الجمهور العربي وكسر الحواجز النفسية بينهم وبين الناس وتمييع العداء للصهاينة ولذا كانت الدعوات الدائمة من المقاومة في مقاطعة صفحاتهم باعتبارها أحد أوجه التطبيع حتى لو كان التفاعل معهم من أجل شتمهم ، ومن المؤسف أنه لا يوجد ناطق رسمي عربي واحد يستطيع استخدام اللغة العبرية لمواجهة الناطق باسم الجيش الصهيوني الذي ينشط باللغة العربية على مدار الساعة في تقديم معلومات ووجهات نظر إلى الجمهور العربي. ومثله الناطق باسم رئيس حكومة العدو السابق بنيامين نتنياهو، المعروف بلقب «المنسق». وهم يجيدون استخدام لغة التواصل وكافة فنون الدعاية لكل الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الكيان، من خلال كم هائل من الأخبار والمعلومات المغلوطة، واستخدام مصطلحات ملطّفة للتمويه على بشاعة الحدث. فالأمر قائم على صناعة أخبار وهمية من وحي الأهداف العدوانية لتصبح كما الأحداث الحقيقة، مثلما قالت غولدا مائير ذات مرة: «لن أسامح الفلسطينيّين لأنهم يجبرون جنودنا على قتلهم».

ويتّضح خبث وكذب وأهداف الإعلام الصهيوني في تطويعه ليصبح ليس فقط أداة ترويج أفكار بل ذراعاً أمنياً وعسكرياً من خلال ما حصل في معركة سيف القدس بما يُعرف بعملية «مترو حماس» حيث كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن العملية التي اسماها الصهاينة «مناورة الخداع» إذ قالت إن العملية التي نفذها جيش الاحتلال على غزة في مايو/ أيار الماضي كانت تهدف إلى تدمير أنفاق دفاعية (المترو) وقتل مئات من مقاتلي حماس كانت فاشلة من خلال الخطة التضليلية والإعلام الكاذب والتي خطّط لها منذ سنوات كانت استهداف ما بين 600 إلى 800 من مقاتلي المقاومة الفلسطينية حماس بعد استدراجهم إلى الأنفاق لمواجهة «اجتياح» قوات الاحتلال. وليس خافياً على أحد دور الإعلام الصهيوني القذر في دق «إسفين» بين فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 وبين الجمهور الفلسطيني من خلال إشاعة خبر أن أحرار نفق الحرية تم تسليمهم والإبلاغ عنهم من عائلة فلسطينية والذي تسبّب ببلبلةٍ خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي والذي هدف منها العدو إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الفلسطيني وكسر جو الوحدة العميقة التي ظهرت جلياً بعد معركة سيف القدس ما تم كشف زيفه لاحقاً وإفشاله من خلال الوعي الثوري للشعب الفلسطيني.

وتتلخّص أهداف وسائل إعلام الكيان الصهيوني في ما يتضمنه البند الثالث من قانون الإذاعة والتلفزيون الإسرائيلي بوضوح، والذي ورد فيه أن «الهدف من الإعلام الإسرائيلي في كافة المجالات، هو إظهار الطابع الصهيوني لإسرائيل وكفاح اليهود وإبداعاتهم وأهم إنجازاتهم على كافة المستويات، مع تعميق الانتماء اليهودي والصهيوني معاً، والتعبير والدعاية للحياة الثقافية اليهودية في العالم أجمع، وبث برامج بالعربية لترويض الجمهور العربي في أراضي عام 1948، وترويج دعاية للفلسطينيين والعرب عموماً وفق أهداف السياسة الصهيونية، إضافة إلى بث برامج خارج حدود إسرائيل لتحقيق أهداف الصهيونية، والدفاع عن السياسة الإسرائيلية، وخاصة المتعلقة بالاستيطان والتهويد وأعمال العنف الحربية التي تشنها «إسرائيل».

وأمام كل هذا أين الإعلام العربي والصحف العربية والقنوات الرسمية؟ أين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي والناشطون؟ وهل استطاعت الأموال العربية واللوبيات العربية التأثير على الإعلام العالمي؟ وأمام هذه التساؤلات يبقى الجواب والأمل من القواعد الجماهيرية أن الحق سيبقى حقاً وأن العداء للصهاينة سيبقى أبديّاً، وأن العقل المقاوم اللّامع والإرادة التي استطاعت هزيمة الأسطورة الأمنية والجيش الذي لا يُقهر بمعلقة سيهزم حتماً في معركة الوعي، وأن كل الأموال التي أنفقها الصهاينة والدراسات التي أجروها تتلاشى عند أول صاروخ مقاوم.

وإذا كان وسم «غرد كأنها حرة»، استنهض يوماً الهمم وداعب المشاعر القومية فإنه حكماً ويقيناً سنغرد في المستقبل القريب بأنها حرة حقيقة بفعل المقاومة والوعي الثوري المقاوم الذي سيحرّر فلسطين كل فلسطين رغم كل التضليل والقتل والتهجير ورغم تآمر كل العالم والغرب والمستعربين. سنعبر الحدود محررين وسنوثق الأحداث الحقيقية للتحرير للأجيال القادمة وستروي حساباتنا وصفحاتنا أجمل قصص التحرر الوطني لأبنائنا رغم أنوف من وقف بوجهنا يوماً.

*باحثة لبنانيّة