اعتلى الرئيس جو بايدن المنصة التي تطلّ على أوسع تجمع عالمي في مكان وآن واحد: الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة. اعتلى الرئيس الأميركي منصة الأمم المتحدة، متحدثاً أمام الجمعية العمومية حول سياسة إدارته الخارجية، خلف غلاف سميك من الكذب والتضليل الذي يخفي السياسات العدوانية نفسها التي تتبعها الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة، بغضّ النظر عمن يشغل البيت الأبيض، جمهورياً كان أو ديمقراطياً.ادّعى بايدن أن إدارته لا تسعى للحروب أو لعودة الحرب الباردة... وادعى أيضاً أنه يعتلي منصة الأمم المتحدة والولايات المتحدة بإدارته لا تخوض حرباً، كما كانت حال الإدارات السابقة عندما يعتلي الرؤساء الأميركيون منصة الأمم المتحدة. وتحدث عن دور إدارته في إشاعة جوّ من الاستقرار والسلام في العالم، وعن سياسة إدارته في اعتبار اللجوء للقوة آخر العلاج، وليس أول المطاف. وأكّد أن الدبلوماسية والحوار هما الطريقان الأمثل لحل الإشكالات والأزمات التي تعصف بعلاقات البلدان بين الحين والآخر على هذه الكرة الأرضية.
وفي سياق ترجمته لهذه السياسة «السلميّة» تحدث عن إيران وعن كوريا الشمالية. قال إنه سيعمل هو وإدارته وحلفاؤه لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي. وعن كوريا الشمالية قال إنه سيبذل الجهد لنزع سلاحها النووي بطبيعة الحال، ملمحاً إلى اعتماد الأسلوب الدبلوماسي، وترك استعمال القوة كاحتمال أخير.
وبينما كان بايدن يتحدث عن الابتعاد عن الحرب الباردة، وحرب الكتل والتكتلات ذات الطابع السياسي العسكري، كان العالم يضجّ بقضية استحواذ الولايات المتحدة على عقد ضخم لتزويد أستراليا بالغواصات النووية، بعدما انتشلت الصفقة من جيب ماكرون رئيس فرنسا، الدولة الحليفة للولايات المتحدة الأميركية. ليس هذا فقط، بل تزامنت عملية السطو هذه، مع إعلان حلف عسكري أميركي أسترالي بريطاني يتحكم بالمحيطَين الهندي والهادئ.
كل هذا موجه ضد الصين طبعاً، وضد نفوذ الصين، وضد تنامي قوة الصين. فيما رئيس الولايات المتحدة يتحدّث عن رفض التكتلات ذات الطابع السياسي العسكري، وعن رفض العودة إلى الحرب الباردة، وعن عدم اللجوء إلى القوة لحل الإشكالات والخلافات والأزمات، فهل رأيتم أكذب من هذا الرجل؟ هل سمعتم كذباً أكثر وضوحاً من كذب بايدن؟
لم يتحدث الرئيس الأميركي عن الجرائم التي ارتكبتها بلاده على مدى عشرين عاماً في أفغانستان. ولم يتحدث عن عدد الضحايا الذين سقطوا بقنابل أميركيّة، قنابل الاحتلال الأميركي لأفغانستان. ولم يتحدث عن الدمار الذي لحق بأفغانستان تحت الاحتلال الأميركي. ولم يتحدث عن قيام الإدارات الأميركية المتلاحقة بتحويل أفغانستان إلى حقل تجارب لأسلحتهم وقنابلهم المستحدثة. لم يتحدث بايدن عن تجارب على أسلحة التدمير الشامل، والأسلحة المحرمة دولياً التي جُرّبت على شعب الأفغاني. لم يتحدث عن هذه الجرائم وكيفية التكفير عنها. وما هي واجبات المحتل الذي هرب من ثقل المسؤولية في أفغانستان، هرب منها من دون أن يتحمل تبعات احتلاله، ومسؤولياته الأخلاقية والسياسية والقانونيّة.
لقد تحدث الرئيس الوديع، حمامة السلام، عن انسحاب أميركا لأنها تريد السلام. بعد عشرين عاماً من احتلال أفغانستان، تترك الشعب الأفغاني مدمراً ملطخاً بدمائه، جائعاً من دون رعاية صحية ولا مشاريع زراعية، ولا مشاريع صناعية. دولة لا تملك مقومات الحياة، شعبها البطل يجاهد من أجل لقمة العيش والدواء والماء.
من على منبر الأمم المتحدة أكّد بايدن أن بلاده لن تلجأ إلى القوة العسكرية، بل إلى الدبلوماسية. في الوقت الذي كان يلقي خطابه، كان العالم يشهد أقسى أشكال القوة المتغطرسة المجرمة تمارس ضد الشعب اليمني أطفالاً ونساءً ورجالاً في كل موقع من مواقع اليمن، عبر السلاح والطيران والصواريخ والذخيرة المحرمة دولياً، وبشكل غير مباشر عبر إعطاء هذه الأسلحة الفتاكة إلى من اعتدى على اليمن، واحتل جزءاً من أراضيه، وراح يضرب شمالاً وجنوباً المدنيين العزّل خصوصاً الأطفال. أليس الأميركي هو المسؤول الفعلي عن حصار الشعب اليمني، ومنع الغذاء والدواء ومصادر طاقة، وإغلاق الموانئ والمطارات لحرمان اليمنيين من كل ما يمكن أن يساعدهم على مواجهة الحياة الصعبة الناتجة عن الاحتلال وأسياده؟ هل هناك في العالم اليوم من يجهل أن الولايات المتحدة مسؤولة هي وإسرائيل وبريطانيا ودول غربية أخرى، مع أنظمة الانحطاط العربي، عن ضرب شعب اليمن واحتلال أرضه ونهب ثرواته؟
ونرى في الوقت ذاته، القواعد الأميركية تزداد توسعاً وخطورة في كردستان العراق، خصوصاً في المناطق المتاخمة لإيران، ونراها تحتل الأراضي السورية في الشمال الشرقي، وتنهب ثروات الشعب السوري وتهربها لتُباع في الأسواق السوداء، هي ومجموعة من العملاء يسمون أنفسهم قيادة للحركة الكردية المسلحة.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه بايدن عن مفاوضات دبلوماسية مع الحكومة العراقية، نراه يعقد اتفاقات مع أكراد العراق وسوريا وإيران، لإثارة البلبلة وإشاعة الإرهاب. هل هذا ما يسميه بايدن إشاعة السلام والاستقرار واستخدام الدبلوماسية بدلاً من الحروب؟
وعندما وصل بايدن في حديثه إلى جوهر الصراع في الشرق الأوسط، أي القضية الفلسطينية، والكيان الصهيوني الذي يحتل الأرض العربية، لم يذكر إطلاقاً أن إسرائيل تحتل الضفة الغربية، وتحتل الجولان، وتحتل مزارع شبعا... (علماً أنّها في نظرنا تحتل كامل تراب فلسطين التاريخية). لم يذكر هذا إطلاقاً كسبب من أسباب الصدام والتوتر والصراع، ولم يذكر أيضاً أن حق العودة قد أغلق بابه في وجه الفلسطينيين لأن «إسرائيل» لا تريده. علماً أن هذا الحق منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة الذي طالب العالم باحترامه، في الوقت نفسه ومن على المنبر نفسه.
وأعلن بايدن من على ذلك المنبر أنه يرى في حل الدولتين حلاً مناسباً. «مناسب» لمن؟ قالها بوضوح: إنه حل مناسب لـ«إسرائيل» ويهدف إلى حمايتها كـ«دولة ديمقراطية في المنطقة». ويقصد طبعاً بأنها الدولة «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط،فهو لا يستطيع أن يرى أنها ديمقراطية قائمة على التمييز العنصري... وها هو يعلن من على منبر الأمم المتحدة بأن حل الدولتين الذي يراه هو، «حماية لإسرائيل، دعم لإسرائيل، وتأييد لإسرائيل»، وليس لإحقاق الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني.
رئيس أميركي آخر يكذب. موقفه ضد الأحلاف وضد الحرب الباردة وضد سباق التسلح وضد تسلح النووي وضد الممارسات التي تزيد من أزمة المناخ، وحول الحلول الدبلوماسية والمفاوضات كلها غطاء لسياسة معاكسة لما أعلن تماماً. فهو يسير في سياسة الأحلاف وخلقها من جديد وخلق تكتلات حتى تلك التكتلات التي تنافس الناتو ويتصرف حتى تجاه حلفائه بانتهازية لا مثيل لها ثم فسرها بالقول، إننا سوف نتخذ القرارات التي تحمي مصالح الولايات المتحدة.
بايدن قالها للعالم أجمع: عندما تمس الأمور مصلحة الولايات المتحدة، فإن كل هذا الكلام الذي يتحدث عنه حول الدبلوماسية والبعد عن الأحلاف الجديدة والتكتلات وسباق التسلح، تعتبر لاغية لأن مصالح الولايات المتحدة هي في الميزان. لذلك سيستخدم القوة كما قال عند اللزوم للدفاع عن مصالها.
وبعد ماذا يقول بايدن؟ وماذا نقول نحن؟ ما يقوله بايدن واضح كل الوضوح، لكن ماذا تقول تلك الأنظمة التي رهنت مواقفها بموقف بايدن؟ وماذا تقول هذه القوى في فلسطين التي رهنت موقفها بموقف الولايات المتحدة والرئيس بايدن تحديداً؟ ماذا تقول هذه القوى التي تدّعي النضال من أجل مصلحة الشعب الفلسطيني وتضع كل الرهانات بما سيأتي به بايدن؟


*كاتب وسياسي فلسطيني