لم يكن الانسحاب الأميركي من أفغانستان مفاجئاً، فالقرار معلن والمفاوضات حوله مع حركة «طالبان» استهلكت وقتاً طويلاً في الدوحة منذ ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب تحت عنوان المصالحة الداخلية وتقاسم السلطة، غير أنّ كلّ ما هو مرتب تقوّض بأسرع من أي توقع.لا كانت التقديرات السياسية والاستخباراتية لقدرة النظام الذي أسسته قوات الاحتلال منذ عشرين سنة على الصمود صحيحة، ولا كانت هناك معرفة حقيقية بحقائق الموقف داخل البلد ومدى قوة حركة «طالبان».
انهار الجيش الذي سلّحته ودربته الولايات المتحدة وكلف خزينتها مليارات الدولارات من دون أن يطلق رصاصة واحدة دفاعاً عن العاصمة كابول، رغم فوارق القوّة على الورق مع حركة «طالبان».
تفكّكت السلطة كأنّها بيت من رمال وتكفّلت الصور بكشف الفوضى الضاربة التي صاحبت الانسحاب الأميركي ومأساويتها في مطار كابول.
كان ذلك جانباً من الحقيقة وليس الحقيقة كلّها.
في ثنايا الصور وظلالها تبدت رسائل إلى المستقبل وما قد يحدث فيه من تغييرات عميقة في بنية النظام الدولي، أو المنازعات على قيادته.
لم يكن انكشاف الهيبة الأميركية حدثاً منزوعاً عن سياق التفاعلات الجارية داخل الولايات المتحدة، التي وصلت انقساماتها العرقية والسياسية إلى حدود تهدّد سلامة مؤسساتها الديمقراطية وصورتها في العالم التي ساعدت بعد الحرب العالمية الثانية على تبوء مركز القوة العظمى الأولى.
في المساجلات الداخلية الأميركية تبدى قدرٌ كبيرٌ من الشعور بخيبة الأمل ومرارة الهزيمة وساد استنتاج أن الهيبة سقطت والأحادية القطبية انتهت.
كان لافتاً ما كتبه الفيلسوف ذائع الصيت فرانسيس فوكوياما عن تقوّض الهيبة الأميركية وأن زمن قيادتها المنفردة انتهى، فهو نفس الرجل الذي بشّر عقب انهيار الاتحاد السوفييتي بـ«نهاية التاريخ» وسيادة النموذج الأميركي الرأسمالي على مقادير العالم.
الأزمان اختلفت والحقائق تغيّرت والنظريات انقلبت إلى عكسها!
لم تكن مشكلة فوكوياما مع قرار الانسحاب نفسه، لا أحد تقريباً داخل الولايات المتحدة يمانعه، ولا مع تركيز الاهتمام على مواجهة الصين وروسيا بالتوجّه إلى آسيا والتحلّل بقدر ما هو ممكن من صداع الشرق الأوسط.
النقد انصبّ على مستوى الأداء المتهافت، وهذا استنتاج صحيح لكنه يقصر عن فهم ما تحت السطح من تفاعلات وحقائق قوة مستجدة.
لو افترضنا أن التقديرات السياسية والاستخباراتية لم تكن على ذلك النحو المتهافت الذي بدت عليه في إدراك حقائق الموقف داخل أفغانستان، وأن مستوى أداء الرئيس الأميركي جو بايدن لم يكن متعجّلاً في طلب الانسحاب وأنه أخذ وقته في التخطيط والتنفيذ، فإن الحقائق الأساسية لن تختلف كثيراً.
كلّ ما حدث أنها تكشّفت على نحو فاجع أمام الأميركيين قبل غيرهم.
أميركا لم يعُد بمقدورها لعب دور القوة العظمى المنفردة على رأس النظام الدولي، ولا أصبح بوسعها إقناع حلفائها الأوروبيين والآسيويين أنها قادرة على توفير متطلبات الحماية الاستراتيجية أمام التهديدَين الصيني والروسي.
هذه الحقيقة تبدّت في الصور التي صدمت العالم بما جرى من مآسٍ إنسانية في مطار كابول.
رغم المحاولات التالية لتأكيد الالتزام بإجلاء المتعاونين الأفغان قبل 31 آب (أغسطس) الحالي الموعد المحدد لإتمام انسحاب القوات الأميركية، فإنّ الضرر قد حدث والرسالة وصلت إلى مراكز القرار في الدول الأوروبية والآسيوية الحليفة، وهنا في الشرق الأوسط، أنه لا يمكن التعويل عليها في حفظ أمنها.
على نحو لا يمكن تجنّب مغزاه من توقيته دعا منسّق الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى بناء قوة تدخّل أولية من خمسين ألف جندي للعمل في ظروف تشبه ما حدث في أفغانستان.
الكلام بنصّه ومنطقه ينطوي على شيء من التشكيك المبطّن في القيادة الأميركية وقدرتها على توفير متطلبات الأمن الجماعي في أية أزمات مستقبلية مماثلة.
أوروبا القلقة على أمنها لم يكن بوسعها أن تتحرك في إدارة الأزمة الأفغانية خارج العباءة الأميركية، لكن شروخ الثقة تعمّقت وباتت مستبعدة العودة إلى الأوضاع القديمة.
بصورة ما توافقُ الحلفاء الغربيين في القمة الافتراضية للدول الصناعية السبع على تخويل الولايات المتحدة قرار تمديد أو عدم تمديد موعد انسحابها المقرر نهاية الشهر الحالي، من دون أن يعني ذلك تفويضاً بالقيادة في إدارة أية أزمات مقبلة.
تقوّض رهان بايدن «أميركا عادت»، قاصداً منصة قيادة التحالف الغربي في مواجهة التهديدين الصيني والروسي.
بالقدر نفسه يصعب ترميم الضرر الاستراتيجي الذي لحق الحلفاء الآسيويين بالقفز فوق الحقائق المستجدة التي تكشّفت بالانسحاب الأميركي من أفغانستان بعشوائية مفرطة.
ثمة أوضاع جديدة في آسيا الوسطى تترتب بالضرورة على ذلك الانسحاب، الصين تتأهب بحذر لمد الجسور مع حركة «طالبان» وربما الاعتراف بها خشية أن تكون شوكة في خصرها، ساعية بالوقت نفسه لتوظيف موقع أفغانستان الاستراتيجي في مشروعها الطموح «الحزام والطريق» بإغواء قدراتها الاقتصادية الفائقة لإنقاذ الاقتصاد العليل.
بقدر آخر تترقب روسيا التطورات الدراماتيكية في أفغانستان لإعادة رسم حقائق القوة في تلك المنطقة من العالم القريبة من محيطها الحيوي، مدت خيوط اتصالها مع طالبان، أبدت استعدادها للاعتراف بها على خلفية اتصالات عبرت عن نفسها في عدم إجلاء موظفي سفارتها في كابول، وإعلان حركة طالبان فور دخولها العاصمة مسؤوليتها عن حمايتها.
يدرك الروس، أكثر من غيرهم، الكلفة الاستراتيجية الباهظة التي تكبدها الاتحاد السوفييتي السابق عقب خروجه من أفغانستان عام (1979)، تفككت أوصاله وانهارت المنظومة الاشتراكية الحليفة في أوروبا الشرقية وتحلل حلف «وارسو» الجناح العسكري الذي كان يوازي حلف «ناتو»، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي في سنوات ما بعد نهاية الحرب الباردة.
يأمل الروس في الوقت نفسه أن تشرب الولايات المتحدة من نفس الكأس الأفغاني المر.
في تعقيدات الموقف الآسيوي تتباين المواقف بفداحة بين باكستان الرابحة والهند المتضررة، والصين المتحفزة واليابان القلقة وإيران المترقبة تبحث في ما قد يحدث على حدودها ومدى تأثيرها على المفاوضات النووية المتعثرة، وكلها أوضاع سائلة يجري الاقتراب منها بقدر من الحذر.
رغم كل ذلك التباين لم يعد بوسع أحد أن يرهن أوراقه عند اللاعب الأميركي وحده.
باليقين فإن أميركا قوة كبرى لا يمكن تجاهلها ولا الاستخفاف بأوزانها، لكنها ليست أميركا التي عهدناها في أعقاب الحرب العالمية الثانية ولا القوة الدولية المنفردة التي تقرر مصائر العالم.
في حقائق القوة الجديدة يصعب وصف الولايات المتحدة بـ«القوة العظمى»، لا هي ولا الصين ولا أية دولة أخرى على النحو الذي جرى عقب الحرب العالمية الثانية عندما انقسم العالم إلى معسكرين كبيرين تقودهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
المفاهيم الاستراتيجية تحتاج إلى ضبط جديد وتعريف جديد لحدود القوة ومداها وقدر تأثيرها، هذه مسألة قد تستغرق وقتاً حتى تستبين كامل الحقائق بعد أن تنقضي جائحة «كورونا».
لم يسقط الاتحاد السوفييتي بأثر هزيمته في أفغانستان، لكنها كانت كاشفة لعيوبه الجوهرية ولأوجه الخلل الفادحة في بنيته.
بقياس آخر في أوضاع جديدة ومختلفة فإن الهيبة الأميركية تلقت بالخروج العشوائي من أفغانستان أخطر ضرباتها منذ هزيمة فيتنام، التي نجحت بعدها في ترميم صورتها والصعود منفردة على قمة النظام الدولي، غير أن هذه المرة لم يعد ممكناً أي ترميم مماثل، أو صعود منفرد جديد، فأزمة أميركا داخلية في المقام الأول، والقلاع ـــ كما يقال في مثل هذه الأحوال ـــ تسقط من داخلها.

* كاتب وصحافي مصري